سعى المشرع خلال فترة التسعينات إلى توفير أكثر ما أمكن من الضمانات القانونية للمستثمرين وخاصة منهم الأجانب لبعث المشاريع أولا ولإنقاذهم وقت الأزمة ثانيا محولا آلية الضمان الاجتماعي إلى »سيارة إسعاف« اجتماعية. فقد كان منتظرا أن تشهد بعض المؤسسات بفعل العولمة صعوبات اقتصادية ناجمة عن أسباب مختلفة داخلية وخارجية من أهمها ما يتصل باحتداد المنافسة (23). وقد صدر في هذا الإطار القانون المتعلق بإنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية (24) لمساعدتها على مواصلة نشاطها وذلك بإقرار بعض الإجراءات منها ما يهمنا في هذا المجال وهو تمكينها من جدولة ديونها تجاه الضمان الاجتماعي أو طرح خطايا التأخير. ومن الملفت للانتباه إعطاء المشرع الأولوية في إنقاذ المؤسسة للجانب الاقتصادي حتى لو تم ذلك بالتخلص من عدد من العمال الذي قد يؤدي التشخيص الذي يتم القيام به إلى اعتبارهم زائدين عن الحاجة. لذا لم يتخذ هذا القانون أية آلية حمائية لموارد رزق الأجراء باستثناء ما تجود به مصالح الضمان الاجتماعي. فالمشرع يفضل إنقاذ المؤسسة وحدةً للاستثمار المالي لا وحدةً تقوم بوظيفة اجتماعية فتعامل مع الحقوق الاجتماعية للأجراء عبئًا تنوء به المؤسسة تتوجب مساعدتها على التخلص منه (25). ذلك أن التوفيق بين إنقاذ المؤسسة وضمان حقوق العمال يمثل »إشكالية قد تعسر معالجتها لأنها تقوم أساسا على البحث عن أهداف تبدو متضاربة« (26). طرد ثم إحاطة لقد دأب المشرع منذ الثمانينات على الاستنجاد بالضمان الاجتماعي لمواجهة حالات الطرد لأسباب اقتصادية وذلك بإقرار التقاعد المبكر لأسباب اقتصادية (27) أو بالإحاطة الاجتماعية المتمثلة في مواصلة الانتفاع بالمنح العائلية والزيادة عن الأجر الوحيد بعنوان الثلاثة اشهر التي تلي الثلاثية التي توقف خلالها عن النشاط (28) إلا أن هذه الحلول لم تكن كافية لتلبية جاجيات العمال خاصة بعد أن عجز بعض المطرودين على استخلاص مستحقاتهم من أجور وغيرها رغم وجود أحكام قضائية بين أيديهم. وأمام اشتداد الأزمة منصف التسعينات وحتى تكون الحلول في مستوى الأخطار المحدقة بالعمال تم إصدار مجموعة من النصوص القانونية من أهمها قانون سنة 1996 (26)، نص على تكفل الصندوق بالمنح التي يستحقها العمال عند فصلهم عن العمل لأسباب اقتصادية أو فنية والمستحقات المقررة لهم وذلك في صورة ثبوت عجز المؤجر عن خلاصهم كما مكن هذا القانون العمال المفصولين من مواصلة التمتع بالمنح العائلية لمدة أربع ثلاثيات وبمنافع العلاج لمدة سنتين. ولم يكتف المشرع بتوفير الغطاء القانوني لمنح الإحاطة الاجتماعية للمؤسسات التي يتم إقرار الصبغة الاقتصادية أو الفنية لتوقفها أو غلق المؤسسة بصفة فجئية من قبل تفقدية الشغل أو لجنة مراقبة الطرد بل تم بعد خمس سنوات إصدار نص آخر لفائدة المؤسسات التي لا تحترم هذه الإجراءات (30) يضمن التكفل بمنح المغادرة وإسناد خدمات العلاج عند الغلق النهائي والفجئي للمؤسسة دون احترام الإجراءات المنصوص عليها بمجلة الشغل.ولئن كان هذا القانون يضمن حقوق العمال فإنه يعطي ضوءا أخضر للمؤجرين للتنصل من مسؤولياتهم وغلق مؤسساتهم دون احترام الإجراءات القانونية و لا شيء يضمن قدرة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي على استرجاع ما دفعه من مستحقات. ويمكن القول إنّ القوانين التي صدرت بشأن الإحاطة الاجتماعية للعمال ولئن مكنت العمال المطرودين من الحصول على بعض التعويضات فإنها لا يمكن أن تعوض لهم حقهم في الشغل بما يوفره من مورد مالي ومن راحة نفسية. أنظمة عديدة... ولكن... يقوم تنظيم الضمان الاجتماعي في تونس على أسس مهنية ويعتمد بالتالي على مساهمات المنخرطين من مؤجرين وأجراء. ونظرا إلى تأثره بالمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية بصفة وثيقة فإن ضبط الطرق المناسبة لتمويله يكتسي أهمية بالغة حتى يتمكن من تقديم خدماته ومواجهة المفاجآت والطوارئ. ويتجسد هذا التحديد في اختيار النظام المناسب لكل فئة اجتماعية ونسبة المساهمة وقاعدة الأجور الخاضعة والعقوبات المنجرة عن عدم الإيفاء بها والتحكم في الامتيازات أو الإعفاءات. كما تميز الضمان الاجتماعي في القطاع الخاص بتعدد أنظمته التي تبلغ سبعة بقطع النظر عن نظام الطلبة مثلما يبينه الجدول الثاني. الجدول الثاني: قائمة أنظمة الضمان الاجتماعي ويعود هذا التعدد إلى اختلاف القدرة التمويلية لكل فئة من هذه الفئات وهو ما ينعكس على مبالغ الاشتراكات من جهة وعلى نوعية الخدمات من جهة أخرى. كما أدى هذا التعدد إلى ضبابية لدى المنخرطين وتسبب في نوع من التداخل على مستوى التصرف الإداري مما قد يفسر إلى حد ما تردد البعض في الانخراط. ومن بين القطاعات التي تجسد هذه التعقيدات قطاعا الفلاحة و الصيد البحري وهما من القطاعات الاقتصادية الأساسية في البلاد من حيث تشغيلها لنسبة هامة من اليد العاملة. ففي المجال الفلاحي يمكن أن يخضع الفلاح إلى أربعة أنظمة وهي: - نظام الأجراء في القطاع الفلاحي إذا كان العامل يشتغل لدى نفس المؤجر لمدة 45 يوما. نظام الأجراء في القطاع الفلاحي المتطور إذا كان يعمل لدى شركة أو لدى مؤجر يشغل أكثر من 30 عاملا. نظام العملة غير الأجراء إذا كان يعمل لحسابه الخاص. نظام أصحاب الدخل المحدود إذا كان مربيا صغيرا أو فلاحا صغيرا يستغل مساحة لا تفوق 5 هك بعلية أو هكتارا واحدا سقويا. أما في قطاع الصيد البحري فالوضع لا يختلف كثيرا إذ على العامل أن يختار بين: نظام الأجراء في القطاع غير الفلاحي إذا كان يشتغل على مركب تفوق حمولته 30 طنّا. نظام الأجراء في القطاع الفلاحي المتطور إذا كان يشتغل على مركب تقل حمولته عن 30 طنا. نظام أصحاب الدخل المحدود إذا كان يشتغل على مركب لا تفوق حمولته خمسة أطنان. لقد أصبح التفريق بين الأنظمة من المسائل المعقدة التي تتطلب شهادات عليا في الاقتصاد أو في الحقوق لفهمها مما خلق بلبلة لدى المستحقين للتغطية. وقد اختار البعض بكل بساطة عدم الانخراط وقام البعض الآخر بالانخراط ثم تغيير النظام أو شريحة الدخل عندما أصبح غير قادر على مواصلة دفع المساهمات أو اكتشف أن الخدمات دون انتظاراته وحاجياته بينما فر آخرون مخلفين ورائهم ديونا متراكمة في حسابهم. خلط وتداخل تجسد الخلط أو بالأحرى التداخل في فترة لاحقة أيضا في تحويل بعض الأجراء رغم أنفهم إلى عملة غير إجراء ويتعلق الأمر بسائقي عربات النقل العمومي المخصصة لنقل الأشخاص أي العاملين على سيارات التاكسي واللواج وكذلك الطيابة (31). وهؤلاء الأجراء لا تنطبق عليهم صفة العملة غير الأجراء التي حددها الأمر الصادر في جويلية 1995 كما يلي »يعتبر عاملا غير أجير كل شخص يقوم بصفة أساسية بنشاط مهني مهما كانت طبيعته لحسابه الخاص أو بصفته وكيلا«. فسواق التاكسي أو اللواج ليسوا بالضرورة أصحاب الرخص و لا مالكي السيارات و يعملون بنسبة معينة من الدخل. أما الطيابة فإنهم لا يملكون غير سواعدهم فضلا عن الطبيعة الموسمية لعملهم وعدم انتظام دخلهم. كما أنهم غير قادرين على الإدلاء بما يثبت اختصاصهم لعدم وجود هيكل يمكنهم من بطاقة مهنية. هذا وقد كان إصدار الأمر المنظم لنظام العملة غير الأجراء قد شهد في وقت سابق إشكالا يتعلق بالخمّاسة و الحرفيّين العاملين في قطاع الصناعات التقليدية. ورغم كل محاولات الكر والفر في المستويين التشريعي والترتيبي فقد بقيت عدة ثغرات على مستوى النصوص نفسها إذ لم يجد المشرع حلولا للفئات التالية: - العملة الأجراء في القطاع الفلاحي (الذين يشتغلون أقل من 45 يوما في الثلاثية لدى نفس المؤجر أو أولئك الذين يشتغلون أكثر من 45 في الثلاثية لدى أكثر من مؤجر واحد). المتدربون. التلامذة الذكور الذين تجاوز سنهم 20 سنة. كما طرح البعض إشكال تعدد الأنشطة لشخص واحد والذي ينعكس لاحقا على صرف المنافع »إنّ الإشكال يبقى قائما بالنسبة إلى الأشخاص متعددي الأنشطة في ظل غياب مرجعية نص واضح يسمح بإيجاد حلول تبيح هذه الظاهرة أو تمنعها خاصة أن قواعد الخضوع الحالية نشأت لتطبق على الوضعية الأكثر تقليدية واعتيادية وهي قيام الفرد بنشاط مهني واحد (32) ويمكن أن يتعلق هذا التداخل بالعمال العرضيين وأشباه العاطلين الذين يعملون شتاء في قطاع وصيفا في قطاع آخر أو الذين يتنقلون من جهة إلى أخرى ولا يعرفون الاستقرار في حياتهم. أين نحن من نسبة 95٪؟ يتضح من خلال هذا العرض أن الحديث عن تعميم التغطية الاجتماعية وشموليتها يدعو على الأقل إلى المراجعة للأسباب التالية: إن نسبة التغطية الاجتماعية قد تم احتسابها عل أساس مقارنة عدد المنخرطين بعدد اليد العاملة الخاضعة أي دون اعتبار العاطلين عن العمل الذين لم يشملهم الضمان الاجتماعي قانونيا. فهل أن العاطلين عن العمل غير تابعين للمجتمع أم أن هناك أرقاما أخرى عن نسبة التغطية الاجتماعية تأخذ بعين الاعتبار العاطلين عن العمل. إن هذه النسبة تشمل القطاعين العام والخاص في حين أن القطاع العام تبلغ نسبة التغطية فيه %100 لأن الأعوان التابعين للدولة عادة ما يكونون قارين وبالتي فهم منخرطون بالضرورة في الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية. أما عملة الحظائر الذين تشغلهم الدولة فقد أصبحوا تابعين منذ سنة 2002 إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. فلماذا لم تنشر سابقا نسب كل قطاع على حدة ؟ - رغم محاولات التضخيم والمغالطة فإن بعض المقارنات كانت كافية لكشف عدم صحة بلوغ نسبة %95 من ذلك ما ورد بأحد المواقع الالكترونية (33) حيث ادعت وزارة الشؤون الاجتماعية أن عدد المضمونين الاجتماعيين بلغ 2.357.042 آخرَ سنة 2008 بينما أفاد المعهد الوطني للإحصاء أن اليد العاملة النشيطة تعد في نفس التاريخ 3.500.000 وهو ما لا يعطي حسابيا سوى نسبة %67 فأيّ من هذه الأرقام هو الصحيح؟ إن الشعب قد فقد الثقة في كل الأرقام والاحصائيات بداية من نسبة الفوز في الانتخابات الرئاسية في المجال السياسي مرورا بمؤشرات النمو في المجال الاقتصادي وصولا إلى معدلات البطالة في المجال الاجتماعي. فهل ستنطلي عليه نسبة التغطية الاجتماعية؟ وغدا...؟ وفي ضوء هذا الوضع يمكن طرح جملة من الاقتراحات التي من شأنها أن تنهض بالتغطية الاجتماعية بصفة فعلية وتعيد الاعتبار إلى نظام الضمان الاجتماعي بمفهومه الشامل والعميق الذي يستمد مقوماته من تاريخنا وتراثنا ويفضي إلى تصورات وقائية وعلاجية، علما أن النقائص التي تم التعرض لها أو السلبيات التي يمكن أن تُكْشَف لا تقلل من أهمية المكاسب التي يتمتع بها الشغالون في هذا الميدان وحصلوا عليها بفضل نضالاتهم ولم تكن منة أو صدقة من أحد. وتتمثل هذه المقترحات في: 1) مراجعة النصوص القانونية والترتيبية في مجال الضمان الاجتماعي بهدف تجنب الخلط والتداخل وإيجاد الأنظمة المناسبة لكل فئة خاصة من حيث قدرتها التمويلية وإلغاء القوانين التي تمنح امتيازات للأجانب وإرساء منظومة قانونية تشجع الاقتصاد الوطني.. 2) تكريس مبدأ الاستقلالية المالية للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الذي يتصرف في أنظمة القطاع الخاص الذي يموله المنخرطون من مؤجرين وأجراء حتى لا تتحول إلى مساهماتهم إلى احتياطي تلجأ إليه للدولة لفض الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي لا علاقة لها بالضمان الاجتماعي. 3) إعادة الثقة والمصداقية بين الصندوق والمنخرطين فيه ومن بين الآليات المقترحة تفعيل اللجان الاستشارية لدى المكاتب الجهوية التي نص على إحداثها القانون المؤسس للصندوق منذ 1960 (34) والتي لم تر النور رغم صدور قرار في الغرض يضبط تنظيمها وطرق عملها (35). 4) اعتماد الشفافية والديمقراطية في التصرف والتسيير عبر »مراجعة آليات تسيير الصناديق وإرساء مجالس إدارة فعلية ذات تركيبة متناصفة تراقب التصرف فيها« (36). 5) إعادة الاعتبار للعاملين في الصندوق الذين ما انفكوا يبذلون جهودهم لدعم إشعاع مؤسستهم وتحسين خدماتها بما فيها تعميم التغطية الاجتماعية والذين وقع إقصاؤهم وتهميشهم عديد المرات وآخرها ما حدث بمناسبة الاحتفال بخمسينية تأسيس الصندوق في ديسمبر 2010 . »حيث تمّ تكريم بعض الأشخاص منهم من أجرم في حق الصندوق وبالمقابل تم تجاهل بعض الرموز الذين خلفوا بصماتهم واضحة في تطور وظيفة وخدمات المؤسسة« (37). هوامش: 23) القبطني (سامي) »برنامج إنقاذ المؤسسة الاقتصادية«، الإعلام الاقتصادي عدد 240، ديسمبر 2006 ، ص .16 24) القانون عدد 34 لسنة 1995المؤرخ في 17 أفريل.1995 25) التومي (محمد صالح) »قراءة عمالية في الآجال القانونية لإنقاذ المؤسسات التي تمر بصعوبات اقتصادية«الشعب عدد 1033، 1 أوت 2009 ص .10 26) المولهي (عبد الستار) »الضمان الاجتماعي والنهوض بالتشغيل« الشعب عدد 592، 17 فيفري 2001 ص13 . 27) الأمر عدد 1030 لسنة 1982 المؤرخ في 15 جويلية .1982 28) القانون عدد 71 لسنة 1982 المؤرخ في 15 أوت .1982 29) القانون عدد 101 لسنة 1996 المؤرخ في 18 نوفمبر 1996 . 30) القانون عدد 24 لسنة 2002 المؤرخ في 27 فيفيري2002 . 31) الأمر عدد 3018 لسنة 2002 المؤرخ في 19 نوفمبر 2002 . 32) بن عبد الله (حنان) »مؤسسة تحت الضوء، الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي«، القانونية عدد 23/22 أفريل 2007، ص19 . 33) http://www.tunisia-today.com/archives/59589 34) القانون عدد 60 لسنة 1960 المؤرخ في 14 ديسمبر 1960 الفصل 15 . 35) قرار وزير الشؤون الاجتماعية مؤرخ في 27أفريل 1977 . 36) بيان النقابة العامة للضمان الاجتماعي بتاريخ 7 فيفري 2011 . 37) بيان النقابة العامة للضمان الاجتماعي بتاريخ 15 ديسمبر 2010 .