في حكومتنا المؤقتة كثر الحديث عن الوزراء التقنوقراطيين والولاة والمعتمدين من حاملي الشهادات العليا، بل والعالية جدا التي ليس لها سقف، فأتانا وزراؤنا وولاتنا ومعتمدونا تقنوقراطيين قادمين من الخارج وغالبيتهم من فرنسا، ولست أدري لماذا تحديدا من هناك؟ أو أنني أدري وأتغابى؟ فبتنا ازاء احتراف سياسي بعد أن كان رياضيًّا.. والحال أن مشاكلنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي مشاكل تونسية من بنزرت الى الذهيبة. والتقنوقراطية أو التكنوقراطية اصطلاحا هي كلمة مكونة من كلمتين: الأولى »تكنو« وتعني فني، والثانية »قراطية« وتعني السلطة، أي بما يعني حرفيا حكومة الفنيين. أما »التقنوقراط« أو »التكنوقراط« فهم النخب المثقفة الأكثر علما وتخصصا في مجال المهام المنوطة بعهدتهم. وهم غالباً غير منتمين إلى لأحزاب -وإن تحزبوا لاحقا-. و"التكنوقراط" كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين: "التكنولوجيا" وتعني المعرفة أو العلم و"قراط" وهي كلمة اغريقية معناها الحكم، وبذلك يكون معنى "تقنوقراط" أو "تكنوقراط" حكم الطبقة العلمية الفنية المتخصصة المثقفة. ومهما يكن من أمر التقنوقراطيين القادمين علينا من وراء البحر، فهم في النهاية كفاءات تونسية مئة في المئة تتلمذت وتعلمت نصف عمرها في تونس وغالبيته في المهجر خاصة على مستوى التخرّج، لتعود اليوم الى البلاد بما ينفع الناس ويمكث في الأرض، وهو ما نتمناه عليهم جميعا تونسسين مواطنين صادقين مصدّقين الى حين.. إلاّ أن حكم التقنوقراطيين ان جاوز هذا الحد انقلب الى الضد خاصة في المجال الثقافي، فالعلم بالشيء شيء والابداع فيه شيء آخر. ولنا في ذلك أكثر من مثال حي، فكم من فنان تونسي فذ تم تحويل وجهته في العهد السابق من مبدع الى مسؤول، فخسرنا المبدع ولم نربح المسؤول. وكم من تقنوقراطي خلناه فنانا، ولم يثبت ذلك لا من خلال فنّه ولا صوته ومسرحه التنظيري وسينماءاته التأليفيّة المندرجة ضمن ما يصطلح على تسميته بسينما المؤلف، لا أكثر. فالفن بالأساس احساس، ويا حبذا لو دُعّم بالثقافة والتخصّص والتعمّق في التخصّص ان اقتضى الأمر أصلا، لكن هذا لا ينفي ذاك، فالابداع الحق وليد محيطه وظروفه وفاعليه لا يحتمل النظريات والفلسفات والتقنوقراطيات التي عادة ما تأتي متأخرة كطائر »المينارفا« الذي لا يبدأ بالطيران الاّ عند حلول الظلام، والحال أن الفن اشراقة نور أو لا يكون. فليكتفي التقنوقراطيون من المثقفين فنيا -ولا أقول من الفنانين منهم، لقلّتهم- بدور الناقد العارف بالأشياء حتى لا يسقط الشعب في السفاسف الفنيّة والشعبويّة الثقافيّة التي كانت، وليشمّر الفنانون الحقيقيون عن ساعد الجد بالتوغّل عميقا في الشارع التونسي بكل آلامه وأحلامه بعيدا عن سلطة الرقيب ولجان التوجيه التي تحّكمت لسنوات في الضمائر قبل الألسن.. فأنتجنا مسرحا فرديا وغناء أحادي النمط وسينما السير الذاتية التي لا تهمّ أحدا سوى منجزها، ثمّ يتّهمون اثرها بكل فوقيّة الشعب بالتخلّف.. وخالف تخلف!