في ندوة فكرية نظّمها قسم التكوين النقابي في الحمامات ألقى الأخ عبد السلام جراد الأمين العام للاتحاد مداخلة جاء فيها: تتنزّل هذه الندوة الفكرية في سياق ثورة 14 جانفي وما تعيشه بلادنا من حالة مخاض بعد انتصار الشعب على الاستبداد، وهي حالة مخاض ستكون نتائجها محدّدة في مستقبل بلادنا. نجاح الثورة يقتضي تحقيق مهامها التي تتحدّد تأسيسا على دوافعها وأسبابها المتمثلة بالأساس: أوّلا: الأسباب الاجتماعية والاقتصادية: البطالة، تدهور المستوى المعيشي لعموم الشعب وبالأساس العمال والفئات ذات الدخل المحدود، الفساد، الثراء الفاحش للأقلية على حساب الأغلبية، توظيف مؤسّسات الدولة وتسخيرها لفائدة مصالح هذه الأقلية، اختلال التوازن بين الجهات. ثانيا: الأسباب السياسية: الاستبداد، الاضطهاد، التفرّد بالسلطة، ارتهان الدولة ومؤسّساتها والتصرّف فيها وكأنها ملك خاص. الثورة يجب أن تحقّق نقلة نوعية في حياة الشعب التونسي وتؤمن له حياة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية تقوم على مبدأ المواطنة الكاملة الرافضة لجميع أشكال الميز والإقصاء والتهميش والانغلاق. وانطلاقا من مبدأ المواطنة الكاملة بما تعنيه من حريات عامة وفردية وعدالة ومساواة وديمقراطية يجب تصوّر الدستور الجديد للدولة التونسية، هذا الدستور الجديد لا يجب بناؤه من عدم بل لا بدّ من تأسيسه وبنائه على أهداف الثورة والعوامل المحركة لها وعلى أساس ما تحقّق للشعب التونسي عبر تاريخه الطويل من مكتسبات وخصوصيات، ومن ذلك لا بدّ أن يكرّس الدستور الجديد قيم الحداثة والمساواة بين المرأة والرجل ولا بدّ أن يصحّح ما طرأ من تراجع في المستوى الاجتماعي ومن ذلك: مجانية وعمومية الصحة ومجانية وعمومية التعليم وتوفير السكن الاجتماعي... في إطار تحقيق أهداف الثورة لمهامها يتنزل دور المجلس التأسيسي المدعو إلى وضع دستور جديد للدولة التونسية بالتوازي مع دوره في إدارة البلاد خلال الفترة الانتقالية التي تستمرّ إلى حدّ إعداد الدستور الجديد والمصادقة عليه وإجراء الانتخابات. إن النظام السياسي الذي سنختاره سواء كان نظامًا رئاسيًّا أم برلمانيًّا أم صيغة مختلطة يجب أن يكون وفيا لأهداف الثورة متلائما مع طموحات الشعب التونسي في الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة متلائما مع حالة التنمية السياسية التي وصلت لها بلادنا وضامنا لاستقرارها وحتى يوفر الإطار لإنطلاق الشعب في عملية التنمية الشاملة وفي إطار الوحدة الوطنية. كما أن النظام الانتخابي الذي سنختار يجب أن يكون أداة لتكريس حقيقة إرادة الشعب ويضمن الشفافية، والتمثيل الحقيقي ويوفر الإمكانية لتمثيل مختلف الحساسيات حتى يكون البرلمان تعدّديا حقيقيا عاكسا لتنوع حساسيات الشعب التونسي وضامنا ليس فقط لحقّ الأغلبية بل كذلك لحقّ الأقلية حتى نوفّر الديمقراطية الحقيقية. لقد كان للاتحاد العام التونسي للشغل دور فاعل في أعمال المجلس التأسيسي الأول لسنة 1956، وهو دور طبيعي بالنظر إلى ثقل هذه المنظمة العتيدة ولدورها الريادي في الحركة الوطنية وانخراطها الطلائعي بقيادة زعيمها فرحات حشاد في معركة التحرّر الوطني، وقد قدّم النقابيون تضحيات لخدمة وتحرير هذه البلاد ولعلّ استشهاد زعيم المنظمة فرحات حشاد خير ما يجسّد هذه التضحيات. والاتحاد اليوم بعد هذه الثورة المباركة التي فجّرها شباب تونس واحتضنها الاتحاد تصاعديا بمختلف هياكله القاعدية والوسطي والقيادية يطمح كذلك إلى لعب دور فاعل مع قوى الشعب في أعمال هذا المجلس التأسيسي الثاني. إنّ الاتحاد العام التونسي للشغل ليس حزبا سياسيا ولا يطمح إلى أخذ السلطة وليس ذلك من مهامه لكنه مع ذلك معني بالسياسة لأنه معني بمستقل البلاد وبتطورها وباستقرارها وتحولها إلى ديمقراطية حقيقية، ولأنّ الدفاع عن مصالح العمال المادية والمعنوية مرتبط بالخيارات الاقتصادية والاجتماعية وبتطور النظام السياسي بالبلاد. إنّ الخيارات الاقتصادية والسياسية لها انعكاس مباشر على أوضاع العمال وعلى مصالحهم المادية والمعنوية لذلك فإنّ شأنها يهمّ الاتحاد العام التونسي للشغل بدرجة أولى، كما أن المنظمة الشغيلة تنبّه إلى الطابع العاجل لبعض الإصلاحات الاجتماعية التي نعتبرها اليوم مفتاحا للاستقرار وضمانا للتنمية الاقتصادية ومن أهمّ هذه الإصلاحات التي يتوجّب تنفذها في أقرب الآجال تجسيم الاتفاق بشأن إلغاء المناولة وتقنين العلاقات الشغلية وتكريس الحقّ النقابي في الوظيفة العمومية وخاصة في قطاع التربية والتعليم فضلا عن التركيز عن مسألة التشغيل لا سيما من حيث حفز المؤسّسات على توسيع مجالات الانتداب سواء لتغطية حاجيتها في هذا المجال والتي تقدّر بنسبة ما بين 20٪ و 25٪ مع إضافة نسبة 10٪ فوق حاجياتها مساهمة منها في حلّ أزمة التشغيل. إنّ من ينكر الدور السياسي للاتحاد ومن يسعى إلى إبعاده عن المساهمة في بناء مستقل البلاد لا يريد لبلادنا الاستقرار والتوازن ويسعى إلى تحييده كقوّة توازن في المجتمع من القوى الضامنة للاستقرار والحداثة والتقدّم. إنّ ندوتنا هذه تعكس اهتمامنا بمستقبل تونس وإصرارنا على المساهمة فيه وعلى نحته إلى جانب القوى الشعبية الأخرى والنخب وعلى تمسكنا بإنجاح الثورة وضمان التحول الديمقراطي الحقيقي لبلادنا. هذه بعض الخواطر، أردت المساهمة بها في هذه الندوة التي حرص الاتحاد على تنظيمها إسهاما منه في توضيح آفاق المستقبل وتكريس أهداف الثورة.