لا بدّ من العودة إلى الشّعر حيث الفكرة أمضى من السّيف والمعنى أبلغ من انتخابات رئاسيّة أو برلمانية حيث »كلّ حزب بما لديهم فرحون« (1). ففي زمن التّرّهات وضجيج المعادن الباردة أحتمي بالشعر. يصفّق الشّعر بداخلي في ليالي الصّقيع وتصطفق ريحٌ وراء الباب منادية شجر الغابات. هكذ حدّثت نفسي وسط هذا الرّكام من الألاعيب والأفاعيل الزّرقاء لمحترفي الكذب واللّفّ والدّوران. هكذا حدّثتُ نفسي وسط هذه الفوضى العارمة من النظريّات الفوقيّة التي يمارسها المتحزّبون والمبذّرون للشعارات، حتّى أنّ المبذّرين كانوا إخوان الشياطين حسب الأدبيّات الإسلامية. ومبذّرو الكلام والشعارات الطّنّانة الرّنانة هم من تنطبق عليهم صفة التبْذير تلك فحُقَّ عليهم القول. ومن هذا يجبُ معاقبة كلّ الكذّابين ومحترفي الأقوال السياسية الجوفاء بقطع ألسنتهم ودابرهم. وعلى الشعب التونسي أن لا يصدّق هؤلاء وأن يقصّ أظفارهم وشواربهم (إن كانت لهم شواربُ أصلاً). لن أصدّق أحدًا، ولن أعوّل على العجائز والجدران السّاقطة ولن أعوّل على جدار ليس لي أو ليس منّى، أنا المواطن الشاعر »حامل الفانوس في ليل الذّئاب« (2) لن أصدّق العجائز حاملي فكرة الهاجس الأمنيّ والفئات الصّامتة وعظمة الزّعيم الواحد الأوحد... فليس ثمّة زعيم حقيقيّ من الشعب إلى الشعب سوى فرحات حشّاد. فقد طُمس تاريخ الرّجل أكثر من نصف قرن وهو الذي يقيم حذو الشمس تمامًا بل هو الشمس الوحيدة التي كانت تسكن قلوب النّاس. كان الرّجل كوكبًا جميلاً في ليل مظلم باردٍ. وما أتفه أولئك الذين يقولون بالمجاهد الأكبر وزين العرب في محاولات سافرة لقتل النّجوم: فرحات حشاد ومحمد علي الحامّي والطاهر الحدّاد ومحمّد الطاهر بن عاشور... ❊ 2 ❊ في شارع لا أعرفه وحريّة لم أعرفْها ولدتُ يتيمًا وعشتُ لأروي هذا اليتم، حيث يكون »الغياب المركّب« (3) ضاربًا أوْتادَهُ لكن »يبدو أنّ الاشياء قطيع والأفكار ذئاب فضيّة« على حدّ عبارة علي أحمد سعيد (أدونيس) الذي لا يتكلّم إلاّ رمزًا من حيث هو يثوّر بنية العقل والفكر، لكن هيهات لزعيم تثوير العقل فقد فاجأته الثورة التونسيّة الجبّارة من حيث لا يدري، حيث كان خارج أحلام الشعوب العربيّة. اختار المنفى وترك الخارطة العربيّة منذ عقود أشبه بشجرة خرّوب كبيرة، سوريالية جرداء تصفّر الرّيح بين أغصانها، أو أشبه ببقعة زيت كبيرة ممتلئة بالاقمشة والنّيران. حتى القائلون بالأمّة العربيّة رأيتهم يتحدّثون عن هيكل سليمان، لأنهم كانوا يتحدّثون عن إبرة في قشّ أو رمادٍ، في الوقت الذي كانت فيه الشعوب العربية ترزح تحت نير الطّغاة وعملاء الامبريالية والموساد وأعوان الماسونيّة... ❊ 3 ❊ في شارع لا أعرفه وحرّية لم أعرفها ولدتُ هناك، في ممرّ ضيّق لكنّّه يفتح على الينابيع، عشتُ يتيمًا حاملاً فأسًا لقلع الأشجار الهرمة ومشطًا لكشط الحجارة من حقل الشعر المطلّ على أودية ووهادٍ ونيران. ربع قرنٍ وأنا أحمل الكلمات التي لم أستطع أن أغيّر بها شيئا، حيث لم أكن سندًا لهذا الشعب الأبيّ. لم أكن فوهةَ بركان أو بندقيّة قتال تُصَوّب نحو رأس الدّكتاتور لكنّي كنت أعرفُ أنّ عام 2010 كانَ العشاءَ الاخيرَ على موائدهم. لم أعوّل، على أحد من سدنة النظام ولن أعوّل على أحد من الغبار المؤقّت لأنّهم يواصلون قتلنا كلّ يوم. إنّ الرّقصة الأخيرة للوزير الأوّل المؤقّت في ندوته الصّحافيّة الأخيرة، هي رقصة »نوح« على سفينة عمره الطّويل. وزير مخضرمٌ مازال يتوهّم أنّ بورقيبة »مخلّص البلاد والحبيب الغالي«. هيكل عظميّ مؤقّت ينظر في ساعته كلّ دقيقة في عجلةٍ من أمره فلم يحترم من الصّحافيين أحدًا. لذلك أطلبُ من جميع الرّفاق الصحافيّين مقاطعة كلّ النّدوات الصّحافيّة لهذا العجوز ومطالبته بالتّنحّي فورًا لأنّه مثير للشفقة ممّن حُقّ عليهم القول ولْيخْرُج منها ملُومًا مدْحُورًا! حذار أيّها الرّفاق يا حملة المشاعل والأقلام إنّ الوزراء العجائز مضرّون بالصّحة: صحّة الثورة وصحّة الشعب وصحّة الحرّية! »نفسي حزينة حدّ الموت« (4) لأنّ الظّلام يخيّم من بنزرت إلى الذّهيبة ومخيّمي »شوشة« و»راس جدير«. فلْتخْرس كلّ الأصوات المأجورة من عملاء الامبرياليّة والبنك الدّولي وبنوك الاتحاد الاوروبي والبنك الافريقي للتنمية. حكومة تصريف أعمال وغبار مؤقّت تغرق البلاد في ديون أخرى وتقبل الهباتِ حسب أجندات خارجيّة! (❊1) آية من القرآن الكريم. (❊2) سركون بولص. (❊3) سليم دولة. (❊4) من أقوال السيد المسيح عليه السلام.