محمود المسعدي اسم تردّده الأجيال باحترام وتبجيل.. اسم يثير فينا الحنين إلى ربيع العمر.. إلى التعليم الذي انتشر في ربوع البلاد منذ نهاية الخمسينات. شخصية الرجل متعدّدة الجوانب والابعاد.. فهو الوزير والسياسي والأديب الفيلسوف وهو أيضا المناضل النقابي الذي عايش التأسيس ورافق حشاد واستلهم من ملحمة الحركة النقابية الكثير من المعاني والمبادئ الانسانية. زرناه في بيته استقبلنا الأستاذ بحرارة وحفاوة.. وحدثنا بصدق.. كان سعيدًا باللقاء إلى حدّ التأثر.. قال لنا بلطف: »هذه اللفتة الكريمة من طرفكم أحيت في وجداني ذكريات عزيزة وأعادت إلى ذهني سنوات الكفاح النقابي قبل الاستقلال فالاتحاد كان جزءًا هاما من حياتي النضالية... وحشاد كان قدوة لنا جميعًا«. الحديث مع محمود المسعدي ذو شجون.. روى لنا صفحاتٍ من تاريخ تونس الحديث بعفويّة وايمان.. حدثنا عن سنوات الجمر التي سبقت الاستقلال.. عن الدولة التونسية الناشئة.. عن اصلاحات التعليم.. عن نضال زوجته شريفة في الميدان النقابي والاجتماعي والتربوي. خواطر ومعلومات على لسان رجل دولة، ورجل فكر ومناضل متشبّع بروح النضال النقابي واكب عن قرب وساهم في صنع مرحلة من مراحل الاتحاد العام التونسي للشغل مرحلة التأسيس والكفاح الوطني. عن هذه الفترة حدثنا الأستاذ محمود المسعدي فقال: مساء يوم 4 ديسمبر طلب منّي حشاد ان انتظره بمنزلي وكنت أقطن في شقة بشارع باريس حتى يعود من أريانة ولما عاد أعلموني أنّه سيتقال في الغد مع الشاذلي بَايْ وطلب منّي مرافقته. واتفقنا على أن نلتقي في صباح يوم 5 ديسمبر على الساعة التاسعة بدار الاتحاد لنذهب معا إلى قرطاج. وصلت في الصباح إلى دار الاتحاد بنهج سيدي علي عزّوز اعترضني المولدي عسّاس دار الاتحاد وهو مضطرب قال لي حشاد ضربوه والا شدوه.. الأخبار موش واضحة« تذكرت فجأة التهديدات التي كانت تصل حشاد.. كنّا دائما ننبّهه وندعوه إلى تغيير أوقاته ومكان اقامته.. كان حشاد في تلك الأيّام عرضة لحملات استعمارية مسعورة. الصحافة الفرنسية المتطرّفة تحرض عَلَنًا على التخلّص منه وتصفه بأنّه الرأس المدبر للمقاومة الشعبية لكن عزيمة حشاد كانت أقوى من التهديدات، رفض ان يختبئ وأصرّ على مواصلة النضال المباشر وقيادة الحركة الوطنية في أصعب الظروف بقينا كامل الوم في دار الاتحاد بحثًا عن الخبر اليقين قالوا إنّه في عزيزة عثمانة وقالوا إنّه مجروح كانت دار الاتحاد تملأ وتعجّ بالوافدين عليها بقينا في حيرة واضطراب إلى أن تأكدت الفاجعة فبدأنا التفكير في ردّ الفعل وقد امتلكنا الحزن والألم.. في المساء قرّرنا الاضراب العام ليوم 6 ديسمبر ولن أنسى تلك الليلة التي بكينا فيها حشاد بحسرة وقلوب دامعة. في الصباح توزّع الرفاق على القطاعات ومختلف النقابات لتنظيم الاضراب وتعبئة العمّال غادرت زوجتي شريفة البيت باكرًا لإعداد الاضراب في قطاع التعليم وبينما كنت أتأهّب للخروج دخل على الكوميسار وقال لي: »إنّه مكلّف بحراستي وطلب منّي مرافقته.. أخذني إلى مركز الجندرمة بلافايات وهناك وجدت الأخ الطيب المهيري وعددًا كبيرًا من قادة ومناضلي الاتحاد بقينا في محلاّت الجندرمة كامل اليوم.. وفي المساء أخذونا في طائرة عسكرية ونقلونا إلى ڤابس وفي اليوم الموالي التحق بنا الأخ الصادق المقدم ثمّ أخذونا إلى رمادة وبعد ذلك نقلونا الى ثكنة بتطاوين وقسمونا إلى مجموعات منعزلة. في يوم 7 ديسمبر اعتقلت الجندرمة زوجتي شريفة وحملوها إلى بنزرت وأدخلوها إلى المستشفى العسكري وادعوا أنّها مصابة في مداركها العقلية. بقينا في تطاوين عدّة أشهر ولم يطلق سراحنا الاّ في شهر ماي 1953 بعد التدخلات الصادرة عن السيزل وضغوطات الأوساط التقدمية وفي مقدّمتهم الصديق David Roussef الذي تحرّك كثيرًا لاطلاق سراح المناضلين التونسيين. ويواصل الأستاذ المسعدي سرده للظروف التاريخية التي عقبت اغتيال حشاد فيقول: عندما رجعنا من المنفى لم نجد الاتحاد وكذلك الحركة الوطنية في حالة طيّبة نتيجة للرعب الاستعماري الذي اشتد في تلك الفترة... موت حشاد ترك فراغا كبيرا في قيادة الاتحاد والبلاد وهو فراغ لم يكن من السهل تداركه بسرعة كنّا خائفين من أن تتخّذ السلط الاستعمارية قرارا بحل الاتحاد وكنّا حريصين في ذلك الوقت على أن يبقى الاتحاد قائم الذات بوصفه الوسيلة الوحيدة التي نمتلكها للتعبير والنضال وحتى يبقى التغطية القانونية لمواصلة النضال الوطني. لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل في تلك الفترة بمثابة التغطية القانونية التي بفضلها استطعنا نقل الحركة الوطنية من الطور الاحتجاجي الى طور الكفاح المسلح.. هذا الانتقال لم يكن ليتحقّق لولا الاتحاد. كنّا نذهب يوميا إلى دار الاتحاد لمتابعة الأخبار وتنظيم العمّال.. بدأت المظاهرة تعود تدريجيا كان هاجسنا ان تترسخ أكثر فأكثر المقاومة الوطنية وأن تدوم لقد عجزت فرنسا في ذلك الوقت عن حلّ الاتحاد نتيجة ضغط السيزل والحركة التقدمية في العالم. سنة 1953 كانت فترة عصيبة جدّا واجه فيها الاتحاد مصاعب جمة.. النوري البودالي بقي في فرنسا والأخوة محمود الخياري ومحمد كريم وعزالدين العباسي وغيرهم الذين تحمّلواا القيادة في ذلك الوقت لم تكن لديهم خصال حشاد النضالية.. كانت فترة أليمة اتسمت بتزايد الضغط الاستعماري وانحسار المقاومة الوطنية. طلبوا منّي أن أتحمّل مسؤولية قيادة الاتحاد.. قلت لهم أنا: انسان عقلاني ولا يمكن أن أقبل أي تجاوزات فالأخ نور البودالي هو المساعد الأول للزعيم فرحات حشاد وهو متفرّغ وهو أولى منّي بهذه المسؤولية.. كانت هناك نيّة من قِبَلِ البعض لابعاد البودالي.. رفضت هذا الأمر وقلت لهم أنّ الوضع لا يمكن أن يتغيّر إلاّ في المؤتمر. وفي انتظار ذلك قبلت أن اضطلع بمسؤولية الاتحاد بصفة مؤقتة الى أن انعقد المؤتمر الخامس للاتحاد في سنة 1954 وانتخب أحمد بن صالح كاتبا عاما له وللتذكير فقد ترشّح بن صالح بمفرده لهذا المنصب وكان ترشحه مفاجأة للكثير من النقابيين. وتحدّث المسعدي عن تجربته الخاصة في النضال وكيف تراوح بين الالتزام السياسي والممارسة الفكرية والأدبية فقال لقد كانت الوطنية في البداية مجرّد عاطفة وكأنّ النضالَ محصورٌ في نطاق نخبة صغيرة... لقد درست في فرنسا وتأثرت باليسار والحركة النقابية وفكرة التقدم الاجتماعي.. كان المثقف عموما في ذلك الوقت يعيش في برج عاجي ويترفع عن الممارسة النضالية شخصيا كنت مقتنعًا بالالتزام السياسي لقد شاركت في المؤتمر التأسيسي للاتحاد في سنة 1946 وترأست احدى اللجان ووجهت اللّوم الى المثقفين ودعوتهم إلى الانخراط في صلب النضال الاجتماعي والوطني.. كنت مقتنعًا أنّ دور المثقفين هو الدخول في المعركة الاجتماعية الي جانب الطبقات الشعبية وتحدثت في المؤتمر عن التزام المثقفين والموظفين حتى لا تبقى الحركة الشعبية منفصلة عن النخبة الوطنية. لقد كان الاتحاد العام التونسي للشغل حريصا منذ نشأته على تقوية الحركة الاجتماعية وتجنّب التفرقة بين العمّال والمثقفين وقد ضمّ حشاد الفاضل بن عاشور إلى قيادة الاتحاد للتأثير على النخبة والبلدية. وعن سؤال يتعلّق بعلاقته الشعبية مع الزعيم حشاد أجاب المسعدي قائلا: لقد كنت من أقرب الناس إليه، وكمنت ارتاح كثيرًا لتواضعه وعمق تفكيره، وقد أبهرني فيه قدرته على الاقناع والتأثير فحشاد استطاع ان يقهر اللغة العربية وان يكتسبها الى حدّ الابداع. فقد كان له أسلوبه الخاص في الكتابة الخطابة والتحليل بحيث خلق لغة عربية حيّة تستجيب للأفكار والمضامين الاجتماعية والسياسية التي كان يرغب في تبليغها وهي لغة تختلف جوهريا عن العربية الكلاسيكية التي كنت استعملها في الكتابة لكنّي كنت معجبا كثيرًا بالخصوصية الأسلوبية التي كان يحذقها حشاد والتي جعلت مقالاته وخطاباته تحظى بشعبيّة كبيرة في ذلك الوقت. الأصول المذهبية والفلسفية لنشأة الاتحاد والحركة الوطنية تاريخ الاتحاد ليس احداثا أو نضالات متفرّقة بل هو في صميم تاريخ تونس هذه الناحية الفكرية والسوسيولوجية لم تغب عن الأستاذ المسعدي الذي تحدّث بإسهاب عن فلسفة الاتحاد الاجتماعية والسياسية ودوره في بلورة مقاصد الحركة الوطنية وابعادها التحرّرية.. يقول المسعدي. لقد تخلّص حشاد من النقابية الأجنبية بفضل العاطفة الوطنية فعندما لاحظ التمييز داخل النقابات الايديولوجية قرّر الانسلاخ منها وبعث حركة نقابية تونسية متأصلة في الواقع الشعبي. كان الوازع الاجتماعي في البداية هو الدافع إلى هذه الفكرة أي البحث عن العدالة الاجتماعية ثمّ انضاف إليه الوازع الوطني وهكذا تكوّن البُعْدُ الاجتماعي في المسألة الوطنية وهو بُعْدٌ كانت تفتقده الحركة الوطنية ويبدو هنا جليا تأثير حركة النقابية والتقدمية الفرنسية. فحشاد استطاع ان يُخَلّصَ الفكرة الوطنية من بُعْدِهَا النخبوي ويُكْسِبَهَا بُعْدًا اجتماعيا شعبيا فقد كنّا في تلك الفترة نقول انّ الاستقلال لا يعني خروج المعمرين الفرنسيين واستبدالهم بمعمرين تونسيين... كنّا ضدّ الاستغلال الاستعماري ولكنّنا ناضلنا أيضا ضدّ الاستغلال الاجتماعي بوجه عام. ويعود الفضل إلى الاتحاد العام التونسي للشغل في بلورة هذا المفهوم التحرّري والتقدمي للاستقلال الوطني. ولم تقتصر الحركة الوطنية في ذلك الوقت على بلورة هذين البُعْدَيْنِ: الاجتماعي والسياسي (تحقيق السيادة الوطنية) بل حرصنا على بلورة بعد ثالث هام وهو البُعْد الثقافي اي الدفاع عن الهوية الثقافية الوطنية ضد المسخ والاغتراب. وهكذا التقت هذه الأبعاد الثلاث ضمن سياق الحركة الوطنية فأصبحت الحركة الشعبية التونسية ثرية بأهدافها ومضامينها التحررية. وفي اعتقادي شكّل هذا الترابط احدى الخصائص الجوهرية للحركة الوطنية التونسية ممّا ميّزها عن الحركات الوطنية في المغرب العربي. ففي الجزائر مثلا كانت الحركة الوطنية سياسية فقط وهو ما يفسّر التعثرات اللاحقة التي عاشتها الجزائر خاصة في المجالين الثقافي والاجتماعي. في تونس كانت حركتنا الوطنية مستعدّة للاستقلال وتجلّى ذلك في الاصلاحات الاقتصادية واصلاحات التعليم وتحرير المرأة وهي اصلاحات مستوحاة من برامج الاتحاد وساهم في تطبيقها رجال الاتحاد أنفسهم. انّ تونس تنفرد منذ الاستقلال بهذه الخصائص. وقد شكّل الاتحاد دوما عنصرًا من عناصر الحياة الوطنية ساهم بقسط وافر في بلورة تنظيم حياة المجتمع وفي ترسيخ الاتجاه السياسي العام من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية. وحول طبيعة الاتحاد والعلاقة بين العمل النقابي والعمل السياسي يقول الأستاذ المسعدي: الاتحاد ليس منظمة مهنية حِرَفِيَّةً منعزلة عن بقيّة المجتمع، فهو في صميم الحركة التاريخية للمجتمع ودوره يتلاءَم مع المصلحة الوطنية العامة والمصلحة الوطنية تقتضي فيما تقتضي العدالة الاجتماعية فالعدالة الاجتماعية ليست شعارًا أو مطلبا نقابيا بل هي واجب وطني لضمان استقرار المجتمع وسلامته. الاتحاد العام التونسي للشغل هو نموذج متميّز ولا يوجد في أي بلد عربي تنظيم نقابي يشبه اتحادنا، وأعتقد أنّ الاتحاد استرجع منذ سنوات مكانته في صلب الحركة التاريخية للمجتمع وهي حركة تهدف الى اقامة بُنْيَان متين للبلاد وللدولة التونسية.. هذا المسار الايجابي مستوحى من القيم الأساسية التي غرسها فرحات حشاد وهي العدالة والكرامة ونبذ التطاحن. وعن سؤال يتعلّق بمساهمة الاتحاد في بناء الدولة التونسية الحديثة قال المسعدي بعد الاستقلال حاول البعض ابعادنا عن العمل السياسي ولكنّنا شاركنا بكثافة في الحكومة، في الادارة التونسية فاتهمنا البعض بأنّنا أصبحنا حكوميين.. فسّرنا لهم موقفنا فقلنا: نحن لا نقبل ان نكون تحت الحكومة ولكنّنا نساهم مع السلطة في بلورة الاتجاهات التنموية لتحقيق التطور الاجتماعي وتحسين أوضاع الأفراد والفئات الاجتماعية وضمان الحرمحة الفردية والكرامة المادية والمعنوية للمواطنين فنحن كمؤسسة اجتماعية وسياسية من واجبنا ان نساهم في بلورة الخيار الوطني الحضاري. هكذا كان الحوار ممتعا ومفيدًا مع الأستاذ محمود المسعدي حدثنا بحماس وحرارة المناضل واتزان المفكر فكان وفيًّا للتاريخ... ويا لنضاله.. وفيًّا للمبادئ.. وفيًّا لزوجته المناضلة الفقيدة شريفة المسعدي التي كان كلّما يُذكر اسمها أو يُتَحَدَّثُ عن خصالها وتضحياها الاّ واغرورقت عيناه بالدموع. أجرى الحوار: محمد الطرابلسي وعبد الحميد عاشور