(كلّما قلت فرِغْتُ منَ الشعر، أرّقتني الصُّوَرُ) تراجعي مدنَ الزّجاج، هذا زمان اللا مدن هذا زمان مدن الغبار / مدن السّواعد الخضراء مدن النّشيج العميق، وزعيق الكبار... لم نقل للشرطيّ اُغربْ أيّها الشرطيُّ، قلنا اُغربي أيّتها «الماتْراك»! أيتها الزنانين الضيّقة المظلمة اُغربي أيّتها الخوذات الشيطانية كرؤوس الجراد اُغربي، فقد فككنا أسر النّمور النبيلة فهل تسمع؟ أنين الشهداء الذين لن يشهدوا فجر ولادتنا، هدير الوديان يقطع صوت ببغائكم المبشّر كذبا بالأمن والأمان، فهل تسمع صوت تكسّرِ الخوف في النفوس؟ صوت تحطّم التمثال؟ لم نشهد فصل القطاف، لم نعرف من الرّقم المقدّس غير السبع العجاف... قبل عتمة الليل، أفاقت المدن المهملة، المخنوقة كصرخة قبل الانفجار، تقيّأت تعب رجالها، ولعقت دماءها المراقة على الأرصفة، وجوعها المركّبَ. لم نقطع الحبل السرّيّ الذي يربطنا بالتراب الرماديّ، عجنّا خبز الصغار بجرف الجبال كتمنا الصرخة، وابتدأ المسار على الطريق الملطّخ بالفرح، صعودا إلى الرقعة الخضراء التي ندعوها وطنا. ليست الأفواه وحدها من غنّتْ الأيادي غنّت، والأرجل غنّت، الخليقة كلّها غنّت في نهر الهدير الموحِّد... هذه المدن أرادها ملك السّاحات زاحفة فلم ترفع يدا ضارعة نحو التماثيل بل حفرت عميقا في الطّين من أجل فجوة في الفضاء. مادام هنالك رجال ضباع ورجال سباع سأكون الرجل النّمل / الرجل الصرخة الرجل القمح / الرجل الرّجل... سأجد سرّ الاتصال بين المجرّات تركيبة الانفجارات، وأقول الوردة، أقول الدّواوير الرملية، أقول الورقة وأكون الشجرة، أتحمّم بكلّ الأمطار، أمتصّ نسغ الأرض وندى أوّل الفجر، أُجري الكلمات كأحصنة مجنونة، كأطفال في المرْج، أُجري الكلمات كمجردة أيّام الغضب كدماء شهيد على الإسفلت كلهفة أمّ قبل حضْرِ التجوّل واستباق الرّصاص، لا مناص أيّتها الأشباح الكيميائية أيّتها الأجساد المركّبة من خردة المصانع وعفن السردين وزوايا الخمّارات لا مناص من القصاص. وأقول صوتي صوت الأفواه التي لا صوت لها صوتي بلون الطّين، بلون الغرف التوقيف والزنانين، وأقول عيني ليست للفرجة بل لحفظ ملامح الأعداء، لأن بحرا يضطرب ليس أكواريوما للزينة لأن ثديا يُرضع الكرامة ليس نهدا يكوّره السليكون لأن رجلا يرقص في علبة ليليّة ليس رجلا يرتعد تحت السّياط... في عتمة الليل وهذه الحياة العرجاء أمامي هذه الحياة الموت أمامي، هذا الموت الأعرج الذي يجول حاصدا حفنة أرواح في سفوح جبال الكاف: كاف الكرامة والكينونة والكفاف كاف الكبير والكثير والكتاب كاف الكون وكفّ الكرم وكسر للكلاب، كاف الفحل الظّامئ للحريّة الأنثى والعطش الرّاكض خلف السّراب... قبل عتمة الليل يرتعش الأفق كسجّان أمام همهمة القضبان. من أنت؟ رجل وحيد قال لا لصمت الشوارع الحزين لا للبحر العقيم، لقاطرات الفسفاط تحمل العرق والأذرع المقطوعة والدّموع المجفّفة في عرق الكبرياء. رجل ريم الموت فوق رأسه نجمة رجل خرّب موته برامج ملك الساحات والسّاعات المعطّبة تيك تاك، تيك تاك... دقّت ساعة الجنون،اِحذرْ أيها النّظام نحن عشقنا الخطر احذرْ صهيلنا، والجنون الذي يذكر أسباب جنونه، الجنون المنفلت من عقال الخبز الجنون الذي يعلن كافة جرائمه: أحرقت آلهة جنوني، نتفت ريش الببّغاء بصقت على الصدقات المعجونة بالذلّ / المجموعة بالقهر وصحت dégage ليهطل المطر وصحت dégage لأمنع الظّل من خنق الجنوب وصحت dégage لأنقذ السماء من النبوءة الكاذبة. لكن، من حاول خنق صرختي؟ ثلاث وعشرون سنة من السّياط، من الحقد المخزّن، فلتثوري أيّتها الأزهار الشوكية أيّها الصبّار/ أيّها البُكُّ/ البوحليبة/ أيّتها الحفاء والتلّغودا! يا قمحنا المسعَّرَ حسب المواقف المشبوهة يا حليب صغارنا المنهوبَ يا دمى طفلاتنا انفجري في وجوههم... من أنت؟ قالت ربطة العنق البنفسجيّة والبسمة الصفراء الماكرة. أنا صانع الكلام: أعجن الكلمات، أخبزها في تنّور الغضب، أعجن الكلمات تماثيل لأكسرها كلمات تحرّك أحياء الفقر تدفعها إلى الهذيان كلمات من طفح/ من قيح/ من حمم بركانية كلماتي خوازيق للطغاة / محاكم شعبية. وفي عتمة الليل عرف الشعب أعداءه أولئك الذين نفخ فيهم الشيطان من روحه، كل الذين أقسموا بحماية الوطن لكنهم لم يقسموا بدمائهم، ربطات عنقهم أقسمت، أفواههم/ ألسنتهم/ بطونهم المستكرشة قالت أقسم. ورأينا الفراغات تتجمّع كثقوب سوداء حتى أصبح الوطن شباكا عملاقة ونحن السردين الصغير داخلها نحمل التراب الأسود والحجارة الرمادية تحت القمر المستدير يضيء وحدتنا الموحشة، ليل الدواميس عطش النهارات الموحلة، تلك بصمتنا على كل العمارات والكلّيات والنزل والقناطر، بصماتنا على الحجر، على الحديد المفضّض، على الخشب، على ورق الكرّاسات على الملح، على السكّر على الفحم والإسمنت على الحرير على الطين المجفّف، على القمح واللوز، على إسفلت الطرقات، بصماتنا من أصغر حبّة رمل في برج الخضراء إلى أعلى موجة في المتوسّط، من أجل صبيّة تشرق قبل الشمس في عتمة المصانع نزلنا إلى الساحات الحاشدة تشابكت الأيدي، رُفعت القبضات، وخبزها يحميه الدم... لن تغفر هذي البصمات الحاقدة وضعت أرواحها في الحجر الصلد في الحديد المحمّى في المناجل الحاصدة من أجل صبية صرخت بكل مسامّها: «يسقط جلاّد الشعب» فسقط كبيضة فاسدة!!!