دومًا وفي كلّ الأزمات يشتقّ الكثيرون لأنفسهم طريقا سالكة أحيانا ومعبّدة بالمخاطر أحيانا أخرى لتحقيق منافع لا يمكنهم الحصول عليها في سائر الأيّام... هم في الغالب من المنتفعين القدامى يتلوّنون في الظاهر بمتطلبات الوضع الجديد: خطابا وأفكارًا وسلوكًا، ورأسمالهم مال سابق مكدّس وخبرة واسعة في انتهاز الظروف وعلاقات متشعّبة قديمة لم يهملوها رغم المحن... سوقهم متنوّعة فكل الفضاءات مباحة للانتفاع منها، ووسائلهم بلا محرّمات ولا ممنوعات يغدقون المال بلا حساب على كلّ من هو مؤهّل لفتح مجالات الربح أمامهم... ولا يراهنون إلاّ على الحصان الرابح.. ويعرفون أنّ المال المغدق لا شكّ خَراجُه عائد أضعاف أضعاف ما صرفوا... وفي الأزمات ومنها الثورات تقوى المضاربة ويتصاعد الاحتكار... وتشتدّ أساليب التحيّل.. وينفلت التهريب من عقاله... هذا ما عشناه أسابيع قليلة بعد ثورة 14 جانفي 2012: أطنان من الحليب والأسمدة والأدوية والماء والحديد والبنزين والزيت و...تهرّب على الحدود من كلّ الاتجاهات... آلاف الأطنان من السّلع تدخل بلادنا عبر المعابر نفسها التي كان يهرّب منها «الطرابلسية» بضائعهم وتأخذ طريقها عبر المسالك نفسها للترويج وبالسهولة ذاتها: تماما كما في عهد «الطرابلسية»... ذات الحاويات بما فيها المشحونة بالسلاح... حدثان برزا في اليومين الاخيرين: شاحنات محمّلة بمئات الاطنان من مادة د.ي.ب ترابط اسبوعا علي الحدود في اتجاه ليبيا ليسمحا لها بالعبور مقابلة إتاوة 200 دينار على الطنّ!! اكثر من 30 شاحنة محمّلة بالموز تقتحم معبر الذهيبة وتدخل التراب الوطني عنوة دون رقابة او متابعة!! فتتكدّس ثروات طائلة بين عشية وضحاها وتبرز مظاهر النعمة على الأثرياء القدامى المتجدّدين تمامًا كما في عهد «المخلوع»... ف هم تمامًا كأثرياء الحروب، وفي المقابل يزداد فقر الفقراء وينهك المواطن أمام التهاب الاسعار وغلاء المعيشة وتدهور المقدرة الشرائية ويصير أسير المحتكرين في خبزه اليومي وحليب أطفاله.. وليس لديه غير الانصياع لأنّ العصيان والاعتصام محرّم ومجرّم... هكذا سنة بعد الثورة نعيد انتاج الفساد ونستعيد اشكال الاستعباد القديمة ولكن بمساحيق جديدة... هذا النوع من الفساد مسكوت عنه.. بل هناك من قال «يصعب القضاء عليه»... فكأنّ هناك تواطُؤ معه.. وقد آن الأوان لكشفه ومحاربته..