أبرز ما جاء في زيارة رئيس الدولة لولاية الكاف..#خبر_عاجل    زاراها قيس سعيد...كل ما تريد معرفته عن مطحنة أبة قصور في الكاف    سعر ''بلاطو العظم'' بين 6000 و 7000 مليم    عيد الاضحى 2025: الأضاحي متوفرة للتونسيين والأسعار تُحدد قريبًا    الصين تدرس عرضا أميركيا لمحادثات الرسوم وتحذر من "الابتزاز"    لي جو هو يتولى منصب الرئيس المؤقت لكوريا الجنوبية    الجولة 28 في الرابطة الأولى: صافرات مغربية ومصرية تُدير أبرز مباريات    الرابطة المحترفة الثانية : تعيينات حكام مقابلات الجولة الثالثة والعشرين    نهائيات ماي: مواجهات نارية وأول نهائي لمرموش في مانشستر سيتى    لأول مرة في التاريخ: شاب عربي لرئاسة ريال مدريد الإسباني    الرابطة المحترفة الأولى (الجولة 28): العثرة ممنوعة لثلاثي المقدمة .. والنقاط باهظة في معركة البقاء    تشيلسي يهزم ديورغاردن 4-1 في ذهاب قبل نهائي دوري المؤتمر الاوروبي    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    طقس اليوم: أجواء ربيعية دافئة وأمطار رعدية محلية    عاجل/ أمطار أعلى من المعدلات العادية متوقعة في شهر ماي..وهذا موعد عودة التقلبات الجوية..    الأشهر الحرم: فضائلها وأحكامها في ضوء القرآن والسنة    رئيس الجمهورية: تونس تزخر بالوطنيين القادرين على خلق الثّروة والتّوزيع العادل لثمارها    وجبة غداء ب"ثعبان ميت".. إصابة 100 تلميذ بتسمم في الهند    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستُحدد لاحقًا وفق العرض والطلب    "نحن نغرق".. سفينة مساعدات متجهة إلى غزة تتعرض لهجوم جوي (فيديو)    صفاقس ؛افتتاح متميز لمهرجان ربيع الاسرة بعد انطلاقة واعدة من معتمدية الصخيرة    سقوط طائرة هليكوبتر في المياه ونجاة ركابها بأعجوبة    توتنهام يضع قدما في نهائي الدوري الأوروبي بالفوز 3-1 على بودو/جليمت    بقيادة بوجلبان.. المصري البورسعيدي يتعادل مع الزمالك    قضية منتحل صفة مسؤول حكومي.. الاحتفاظ بمسؤول بمندوبية الفلاحة بالقصرين    مخاطر الاستخدام الخاطئ لسماعات الرأس والأذن    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    المسرحيون يودعون انور الشعافي    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    بنزرت: إيقاف شبان من بينهم 3 قصّر نفذوا 'براكاج' لحافلة نقل مدرسي    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    تونس: تفاصيل جديدة عن متحيل يتجوّل 10 أيام كمستشار حكومي ويزور إدارات رسمية    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    أذكار المساء وفضائلها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العالم العربي والعولمة (2/2)
علي المحجوبي
نشر في الشعب يوم 07 - 10 - 2006

إن سياسة التوسع التجاري والمالي تلك التي ترجمت عن نفسها بامتصاص البلدان الغنية لخبرات البلدان الفقيرة، كانت لها انعكاسات وخيمة على مصر وتونس والمغرب وأدت الى خضوعها لفرنسا وبريطانيا العظمى.
وبالفعل، لقد أدت المعاهدات غير العادلة التي فرضتها القوى العظمى على هاته البلدان الثلاثة في الوقت الذي حدت فيه من سيادتها الى تقويض اقتصادها وبالخصوص صناعتها المحلية التي لم تستطع، بسبب الحماية الجمركية، الصمود في وجه منافسة المنتوجات المعملية الاوروبية المصنوعة صناعة متسلسلة والموافقة لحاجيات السكان وأذواقهم، هذا كان حال مصر التي رأت مشروعها التنموي الذي قاده في النصف الاول من القرن 19 محمد علي، يجهض اثر معاهدة 15 جويلية 1840 التي أدت الى اغراق السوق المصرية بالمنتوجات الاوروبية ومن ثمة الى تقويض الصناعة المحلية. ونفس الامر حدث للصناعة التقليدية التونسية التي قوضتها ايضا المنافسة الاجنبية حتى صناعة «الشاشية» التي كانت تزود حينذاك تركيا وافريقيا الشمالية ومصر، وجدت نفسها في تونس ومثلما هو الحال في ميادين الاخرى الخاصة بالتصدير التقليدي منافسة من قبل طربوش فرنسا والنمسا المجر الذي كان يباع بأسعار منخفضة جدا، وهكذا انخفضت قيمة صادرات «الشاشية» المقدرة بأكثر من 3 ملايين فرنكا ما بين سنة 1861 و 1863 الى اقل من 250 الف فرنكا بداية من سنة 1875، وكان هذا ايضا حال الصناعة التقليدية المغربية التي كانت تعاني حينها بالاضافة الى ضعف الحماية الجمركية، من مزاحمة القوى العظمى التي كانت في سبيل الفوز بسوق الامبراطورية الشريفية، تقلد المنتوجات المحلية بل وتمارس حتى سياسة الاغراق.
لقد ازدادت هذه الحالة خطورة بفعل التوسع المالي الذي ادى الى افلاس مصر وتونس والمغرب التي وجدت نفسها حينئذ مضطرة الى تخصيص الجزء الاساسي من مداخيلها لدفع فوائد ديونها بداية من 1876 ستة ملايين ليرة استرلينية، اي اكثر من نصف مداخيلها التي لم تكن تتجاوز حينها 10 ملايين .
وفي نفس الفترة بل ومنذ 1870، كانت تونس تخصص لتسديد فوائد ديونها 065.456.5 فرنكا في السنة من ميزانية تقدر حينها ب 265.11 فرنكا، ونفس الامر حدث للمغرب التي كانت قروضها المقترضة فقط من البنوك الفرنسية والانجليزية والاسبانية سنوات 1902 و 1903 و 1904 تمثل 28 مليون فرنكا وتحمل الخزينة الشريفية مالا طاقة لها به.
وعندما كانت هذه البلدان تعجز عن دفع فوائد ديونها تتدخل القوى العظمى حينئذ بذريعة حماية مصالح دائنيها الوطنيين من خديوي مصر وباي تونس وسلطان المغرب، بهذه الطريقة، فرضت فرنسا وبريطاينا سنة 1876 انشاء الصندوق العام للديون لتضمن استخلاص فوائد الديون المصرية، وفي نفس السنة اتهمت هاتان القوتان او حياءها على مالية مصر ايضا، وقد ترجمتا ذلك الاتهام بمراقبة ايرادات الدولة عن طريق موظف انليزي ومدفوعاتها عن طريق وكيل فرنسي.
وقد بلغ أوجه التدخل في الشؤون المصرية سنة 1878 مع تشكيل حكومة مصرية جديدة عهدت فيها المالية الى انليزي والاشغال العمومية الى فرنسي.
ان هذه الوضعية التي كانت تحد كثيرا من سيادة مصر، ادت سنة 1882 الى غزوها من قبل بريطانيا العظمى والهيمنة عليها. وقد جرى نفس السيناريو في تونس التي فرضت عليها فرنسا وبريطانيا العظمى وايطاليا سنة 1869 انشاء اللجنة المالية الدولية لتأمين فوائد ديون الباي، ولقد كانت تلك اللجنة المتركبة من تونسيين ومن أوروبيين خاصة، ما بين 1870 و 1884، بمثابة وزارة مالية حقيقية لجميع مداخيل المحمية، كما ادت هذه الوضعية الى غزو تونس سنة 1881 من قبل الجيوش الفرنسية ومن ثم الى الهيمنة عليها. وهكذا كان الامر ايضا في المغرب الذي ارتفعت ديونه سنة 1906 الى 206 مليون فرنكا، ووجد نفسه بالتالي مجبرا على اقتراض بشروط مجحفة قدره مليون فرنكا سلمت الى فرنسا والمانيا من اجل تسديد ديون المملكة أساسا.
ولكي يضمن السلطان هذا القرض تنازل عن مجموع الجمارك وعن احتكار التبغ مقلصا بذلك من ايرادات الضريبية وجارا بلاده الى الافلاس والخضوع المالي اولا ثم ثم العسكري وأخيرا السياسي مع قيام الحماية الفرنسية في المغرب سنة 1912.
لقد استمرت هذه السياسة الامبريالية غداة الحرب العالمية الثانية بعد زوال الاحتلال، الذي عن طريقه، واقتداء بالنموذج الاستعماري الامريكي، تخلت فرنسا وبريطانيا العظمى عن هيمنتها السياسية على مستعمراتها مع المحافظة على سيطرتها الاقتصادية عليها. وهكذا انتقلنا من الاستعمار الكلاسيكي الى الاستعمار الجديد. ان هذا الاخير الذي سمى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الثنائية القطبية، أولا ب «نظام عالمي جديد» ثم عولمة، بدا امتداد الامبريالية لا يختلف عن ذلك الذي ميز العلاقات بين الشمال والجنوب طوال القرن 19 وحتى نهاية الثمانيات في القرن العشرين ويتجلى ذلك في عديد القواسم المشتركة بين هاتين الظاهرتين.
يوجد التشابه بينهما على مستوى العلاقات بين الشمال والجنوب التي تظل غير عادلة في العمق والتي تتسم بالتبعية الاقتصادية للبلدان الفقيرة وبالمديونية التي تزداد تفاقما اكثر من قبل، ويوجد بالمثل على مستوى بنى الهيمنة التي أبقي عليها تحت تسيمات اخرى، فما كان يسمي في القرن 19 معاهدات غير عادلة يأخذ اليوم هيئة اتفاقيات دولية تعرف باسم الات «GATT» (معاهدة التعريفات الجمركي والتجارة) التي أنشئت سنة 1947 وصارت بعد اتفاقية مراكش في شهر افريل 1995 «المنظمة العالمية للتجارة OMC التي ترمي الى اعطاء دفع جديد للعولمة التجارية اي الى فتح المعمورة بأكملها في وجه التجارة الغربية ان هذه المنظمة الجديدة التي أنشاها الغرب وقفا لمصالحه، تشكل أداة بأيدي البلدان الغنية من اجل فرض هيمنتها الاقتصادية على البلدان الفقيرة. كما انها تؤمن لها من خلال الانتقال الحر للخدمات (بنوك، شركات تأمين)، علاوة على العولمة التجارية، العولمة المالية، اي انها تفتح لرؤوس أموالها مجالات جديدة للاستثمار، كما انها من جهة اخرى اكثر فاعلية من المعاهدات غير العادلة التي كانت البلدان الغنية تفرضها على البلدان الفقيرة خلال القرن 19.
وعلى شاكلة المؤسسات المالية مثل اللجنة المالية الدولية والصندوق العام للديون المفروضين على التوالي على تونس سنة 1869 وعلى مصر سنة 1876، حل مكانها بعد الحرب العالمية الثانية البنك الدولي وصندوق النقد الدولي (F M I) اللذان يمثلان افضل مؤجرين للاموال الى القوى الغربية وبصفة خاصة الى الولايات المتحدة الامريكية. انهما أداتا توسع مالي يسهران على تسديد فؤائد ديون البلدان الفقيرة التي يقرضانها رؤوس اموال مقابل التزامها بتوخي سياسة اقتصادية قائمة على التبادل الحر وبالتالي على الغاء الحماية الجمركية وعدم تدخل الدولة وخصخصة صناديق التعويض قبل إلغائها تدريجيا. ان هاته المؤسسات المالية الدولية التي مثلت قبل فترة من انشاء منظمة التجارة العاملية أداة للعولمة التجارية والمالية كانت من جهة اخرى اكثر قدرة من التنظيمات المفروضة في القرن 19 على بعض بلدان الجنوب لأجل ضمان هيمنة الغرب اقتصاديا على العالم وما هو اكثر غرابة انه اذا كانت المعاهدات غير العادلة والمؤسسات المالية خلال القرن 19 قد فرضت بالقوة احيانا على البلدان الفقيرة، فان هذه تبدو اليوم لها صحيح انها تخضع لضغوطات خفية ولكنها مع ذلك تتباهى من حين لآخر بأنها تلامذة نجباء للمنظمة العالمية للتجارة او للبنك الدولي.
ولكن التشابه بين الامبريالية والعولمة لا يقتصر على طبيعة العلاقات بين الشمال والجنوب وعلى بُنى الهيمنة، بل يتعدى ذلك الى الانعكاسات الوخيمة لهاتين الظاهرتين التي تتجلى على المستويات التجاري والاجتماعي والسياسي والثقافي.
فعلى المستوى الاقتصادي ومثلما كانت المعاهدات غير العادلة خلال القرن 19 تؤدي بسبب التقليص من الرسوم الجمركي واغراق الاسواق بالمنتوجات الاجنبية، الى تقويض الصناعات المحلية في مصر وتونس والمغرب، فان اتفاقيات ال م . ع . ت O M C بفرضها التبادل الحر، تهدد جديا النسيج الصناعي لتلك الدول التي لا تقدر منتوجاتها على الصمود في وجه المنافسة الغربية.
فتونس والمغرب، اللذان أبرما سنة 1995 في اطار العولمة اتفاقيات شراكة مع الاتحاد الاوروبي يتوقع بموجبها انشاء فضاء للتبادل الحر بين المنطقتين والالغاء التدريجي الجمركي حتى الوصول الى ازالتها تماما سنة 2008، بدأ يشعران بانعكاسات ذلك سواء على الرسوم وارداتهما الضريبية او على اقتصاد يهمها، ففي تونس واضافة الى تقلص الواردات الضريبية بنسبة 20، فمن المتوقع حسب بعض التقديرات ان تحرير المبادلات مع أوروبا سيؤدي الى زوال ثلث النسيج الصناعي والى خلق صعوبات للثلث الاخر من المؤسسات الصناعية.
من المؤكد انه يعوّل على تأهيل المؤسسات حتي تحسّن من ادارتها وتتمكن بذلك من الصمود امام منافسة الشركات التجارية الاوروبية، ولكن علاوة على انه من الصعب جدا بوسائل محدودة بالطبع من هنا الى 2008 الوصول الى مستوي الصناعة الغربية التي تتقدم باطراد مع ثورة الاعلامية والاتصادات، لابد من الاشارة الى ان التطور ليس ظاهرة ذات طابع اقتصادي فحسب بل وخصوصا ثقافي فلا يمكن الوصول الى ذلك اذن الا بخلق ثقافة تطور حقيقية اولا، ومن اجل ذلك لابد من تغيير العقليات التي هي وفق تعبير مؤرخ المتوسط فرناند برودال «Fernand Braudel» «سجون لأمد طويل»، ومن جهة اخرى، لا يبدو ان المتعهدين المغاربة يؤمنون الى حد كبير بمزايا التأهيل فهم يميلون الى تفضيل الاستثمار في السياحة او التجارة او الفلاحة حيث الاخطار اقل والارباح اسرع، وعلى الاستثمارات الصناعية، في هذه الظروف توشك الصناعة المغاربية ان تنهار ويمكن ان تتحول البرجوازية الوطنية الى بورجوازية كمبرادورية مرتبطة بالمصالح الاجنبية في اطار المناولة والشراكة، اضافة الى ذلك، فان بند الامة الاكثر خُطوة الذي كان امتيازا، اصبح اليوم القاعدة العامة، وان الانتقال الحر للخدمات (بنوك وشركات تأمين) المنصوص عليه في اتفاقيات ال م . ع . ت O M C، يفتح بلدان المغرب العربي في وجه رؤوس الاموال الغربية.
تمثل هذه العولمة المالية تهديدا حقيقيا للبنوك المحلية وتسمح لبعض الشركات الاجنبية بالمضاربة في البورصة، بل وبالتلاعب بالعملة الوطنية وبالتسبب اذن في أزمات اقتصادية خطيرة مثل تلك التي حصلت سنة 1997 في اسيا لدى «التنانين» «les Dragon»، اي في بلدان أقوى اقتصاديا من بلدان المغرب.
من البديهي ان الصعوبات الاقتصادية التي تتسببت فيها العولمة تؤدي بالضرورة الى مشاكل اجتماعية، وبالفعل ان الاتجاه نحو غلق العديد من الشركات التجارية العاجزة عن الصمود امام المزاحمة الاجنبية وتضاف اليه المنافسة المتعاظمة من الفلاحة الاوروبية المدعومة بقوة، لا يمكنهما الا ان يزيدا من خطر ظاهرة البطالة المزمنة اصلا في البلدان المغاربية، فهي تطال بصفة اخص الشباب ويعاني منها اكثر أصحاب الشهائد الجامعية الذين تبدو الافاق امامهم مسدودة مع العولمة وايضا مع العجز المتنامي للاقتصاد الوطني عن تشغيلهم.
ان هاته الوضعية الاجتماعية التي تتزايد خطورتها بسبب تفاقم النظام الجبائي للتعويض عن تقلص الواردات الجمركية يتوقع ان تؤدي الى توترات بالتالي والى تهديد الاستقرار السياسي، وهكذا، قد تؤدي بالسلطان العامة الى رد قوي لاستعادة النظام وبالتالي الى تشدد الانظمة السياسية ولاعتداء على حقوق الانسان وعلى الحريات العامة رغم ان احترام هذه الاخيرة يمثل احد شروط الاتفاقيات التي أبرمتها تونس والمغرب سنة 1995 مع الاتحاد الاوروبي.
وهكذا، وفي مفارقة محيرة، فان العولمة التي تنادي بتعميم النموذج السياسي الغربي على بقية بلدان العالم، توشك بشدة، من خلال تعميقها للعلاقات غير العادلة بين الشمال والجنوب، ان تؤدي الى ايجاد انظمة ذات طابع قمعي واستبدادي متزايد بهدف احتواء التوتر الاجتماعي.
إن الاضطراب السياسي مهدد بالتفاقم من قبل العولمة الثقافية التي تمس ثقافة واذن هوية البلدان العربية التي لا تبدي رد فعل قوي على غرار الاتحاد الاوروبي وخصوصا فرنسا، من اجل حماية خصوصياتها الثقافية من غزو الثقافة الامريكية. هاته العولمة الثقافية تخاطر حتى بالنخب الحداثية في العالم العربي وتساعد بالتالي على بروز الاصوليين الذين يقدمون أنفسهم اليوم واكثر من اي وقت مضى باعتبارهم المدافعين الحقيقيين عن الهويات الوطنية، وهذا ما يقوي التوتر السياسي وما يرافقه من قمع ومن اعتداءات على الحريات العامة وعلى حقوق الانسان.
الحاصل ان الغرب، مع زعيمته الولايات المتحدة الامريكية، رسولة العولمة، قليلا ما يهتم بطبيعة الانظمة السياسية عندما يتعلق الامر بالدفاع عن مصالحه. وهكذا، فاذا ما كان راضيا تماما على الانظمة العربية الرجعية التي تدعم مصالحه في المنطقة، فانه يكون متشددا خصوصا مع الانظمة الحداثية وبالاخص عندما تكون حاملة لمشاريع تنموية على النمط الغربي، فمثل هاته المشاريع تنذر فعليا بتغيير موازين القوى في الشرق الاوسط وبتهديد الهيمنة الغربية على هاته المنطقة التي تنطوي على القسم الاكبر من احتياطي الطاقة في العالم، اضافة الى انها تطالب لأسباب ثقافية وخاصة لأسباب تتعلق بالسوق بوحدة البلدان العربية وبالتالي يتأسيس مجموعة ضخمة يمكن ان تشكّل خطرا لا فقط على المصالح الغربية بل وعلى دولة اسرائيل.
ان هذه السياسة الغربية ازاء العالم العربي تعود من جهة اخرى الى القرن 19 وتفاقمت اكثر مع سقوط الاتحاد السوفياتي ومع العولمة التي تلته، فسابقا خلال الثلاثينات من القرن 19، تدخلت بريطانيا العظمى وحلفاؤها الغربيون في مصر لإعاقة المشروع التنموي الذي قاده حينها محمد علي حسب النموذج الغربي، وايقاف سياسته التوسعية في العالم العربي التي كانت تهدد المصالح البريطانية في المنطقة.
وفي النصف الثاني من القرن العشرين، تدخل الغرب ضد مشروع شبيه قاده في مصر عبد الناصر الذي نادى على غرار محمد علي بسياسة تنموية ودعا الى وحدة البلدان العربية. وقد تجلى ذاك التدخل في حربين ضد مصر، الاولى قامت بها بريطانيا العظمى وفرنسا واسرائيل سنة 1956 والثانية قامت بها سنة 1967 اسرائيل المدعومة بقوة من الولايات المتحدة الامريكية. وكان الهدف هو القضاء على النظام الناصري الذي مشروعه ينذر بتغيير موازين القوى في الشرق الاوسط، وبالتالي بتهديد المصالح الغربية في تلك المنطقة وحتى اسرئيل. وقد تجلى تدخل الغرب اكثر ضد العالم العربي في التسيعينات مع العولمة، واتضح ذلك في أزمة الخليج التي تحولت الى تدخل عسكري نفذته الولايات المتحدة الامريكية وحلفاؤها وتابعوها ضد النظام العراقي لصدام حسين الذي كان مشروعه التنموي والوحدوي بدوره يهدد مصالح الولايات المتحدة في الشرق الاوسط ويهدد دولة اسرائيل.
الحاصل ان الغرب غيور كثيرا على تفوقه التكنولوجي الذي يعتبر مصدر قوته، وهو يميل اذن الى قطع أية محاولة ترمي الى التمكن من تقنيته في بقية الاقطار وبصفة أخص في البلدان العربية التي في الشرق الاوسط، هذا على الاقل ما يبرز من تصريح الوزير البريطاني للشؤون الخارجية في أوج ازمة الخلية والذي جاء فيه ان التكنولوجيا هي منتوج من الغرب الذي ليس مستعدا للتنازل عنه لفائدة بلدان اخرى قد تستخدمه ضد مصالحه.
فهل هذا يعني ان الآفاق قد انسدت تمام في وجه البلدان العربية التي تجد نفسها حينئذ محكومة بالتخلف وبالتبعية الى الغرب التي تتعمق باطراد مع «العولمة»؟ هذا مؤكد، الا اذا اتخذ العالم العربي، لمواجهة القزن 21، مكانا له في مدرسة أوروبا الغربية، واسس على غرار الاتحاد الاوروبي اتحادا عربيا، اي مجموعة كبرى ليساعد على تحقيق تقدم اسرع لا فقط في الميادين الاقتصادية بل وايضا في البحث العلمي والتكنولوجي الذي يعتبر اليوم اساسا لتطور حقيقي. انه الشرط الوحيد الذي يمكّن البلدان العربية من الخروج من التخلف وتجاوز عقبات العولمة وصيانة استقلالها وسيادتها السياسية والاقتصادية والثقافية من السيطرة الغربية وبالخصوص الامريكية. ان ما كان ممكنا بالنسبة الى أمم أوروبية ليس بينها قواسم مشتركة كثيرة وعرفت عدة حروب على امتداد قرون، يمكن تحقيقه على صعيد الشعوب العربية التي عاشت طويلا مع بعضها البعض ويجمعها تاريخ ولغة وثقافة مشتركة.
زيادة على ذلك، يملك العالم العربي ثروات طبيعية وبشرية ضخمة لو يتم استرجاعها واستخدامها بطريقة حكيمة فسوف تساعد على تطوره وعلى تمكينه بالتالي من مواجهة تحديات «العولمة» ولكن الوحدة العربية حتى لو كانت مقصورة على الميدان الاقتصادي تفترض مسباق حرية تصرف الانظمة العربية ازاء القوى الامبريالية، وتتطلب اذن بروز حريات ومؤسسات ديمقراطية اي ان تصعد الى السلطة في البلدان العربية حكومات منبثقة حقا عن طريق الانتخاب الحر لتعبّر مباشرة عن تطلعات الجماهير الشعبية الداعمة إجمالا لتمتين الروابط بين العرب بل وحتى للوحدة فيما بينهم، وسيكون بإمكان هذه الانظمة الديمقراطية القوية بدعم الشعب لها، ادارة العلاقات مع الغرب طبقا لمصالح بلدانها وحدها. غير ان مسؤولية مثل هذا المشروع، لا يمكن ان يضطلع بها في الظروف الراهنة، الا نخب البلدان العربية الكثيرة الد ولكن أفضل عناصرها عموما مرغمة على الغربة او على الهامشية.
بالفعل، ان النخبة اليوم هي المؤهلة اكثر من غيرها لايجاد ثقافة ديمقراطية تلزم البلدان العربية بالدخول في مسار ديمقراطي، وهذا من ناحيته يتطلب الكثير من الشجاعة والتضحية والاصرار وفي غياب ذلك، ستتورط البلدان العربية اكثر مع العولمة في التبعية والتخلف في اخر التحليل، ليس اذن كما تكون الشعوب يُولى عليها بل تكون النخب.

نشر الجزء الاول من هذه الدراسة ضمن منارات
في عددها 26 27ماي جوان 2006


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.