كنت على امتداد السنوات التي قضيتها في الميدان الاعلامي استمع إلى بعضهم يقولون أنّ مشاكل أقسام الاستعجالي أخذت حجمًا أكبر من حجمها الطبيعي، بعد أن وصلت حلقات هذا المسلسل الطويل إلى مرحلة الغموض والضبابية وساهمت في ذلك جميع الأطراف المنتمية للقطاع لتتخذ الأمور خاصة بعد ثورة 14 جانفي مسارًا آخر يعكس صورة غير مريحة عن العلاقة بين الاستعجالي والمواطنين، نحن في الشعب خيّرنا بعد اتفاق مع أسرة التحرير أن نميط اللثام عن الحاصل من أحداث داخل هذه الأماكن الاستشفائية خاصة في ظلّ تعدّد الحكايات. ولن نذيع سرّا إذا قلنا أنّه لم يكن من اليسير الولوج الى داخل «مركز العمل في استعجالي الياسمينات» خاصة وأنّ موعد حضورنا كان تزامن مع تسجيل حالة وفاة شخص عمره 50 سنة كان يعاني من مرض السرطان عافانا وعافاكم اللّه منه. وسط هذا المشهد الحزين كان لابدّ من الانتظار إلى حدّ تهدئة الخواطر وكان لابدّ من مراقبة المكان بحذر وكذلك الأشخاص الذين كانوا بداخله لأنّ ردّة الفعل كانت واردة في كلّ لحظة وحين، ونحن على تلك الحالة سمعت صوتا للسيد فؤاد الرياحي (المتصرّف في مصلحة المرضى) وهو يطلب من بعض الذين اصطحبوا المتوفى وقد كان عددهم أربعة أن يسارعوا بإعداد الوثائق المطلوبة لإخراج المتوفى من استعجالي الياسمينات وذلك قبل انبلاح فجر صبيحة يوم الثلاثاء، وعلى أهميّة هذا الطلب وجدت الفرصة سانحة لأقدّم نفسي ثمّ كان السؤال التالي: كم من حالة مسعجلة يستقبلها هذا الاستعجالي يوميا؟ السيد فؤاد وبعد أن إطمأنت نفسه إلينا قال: «نكاد نستقبل يوميا ما يفوق 100 حالة مرضية استعجالية في ظلّ تواجد يومي ل 3 أطباء و6 ممرضين (من بينهم اطار شبه طبي) ومكلّف بسلامة الاطار الطبي والمستشفى ومحدثكم ومنظفة. قلت وهل هذا كاف لتوفير خدمة صحية ضرورية يحتاجها المتلقي في وقت متأخر من الليل. قال سي فؤاد «نحن نجتهد ضمن ما يتوفّر لنا من امكانيات ولا ننسى أنّ نظام عمل الاستعجالي متواصل ليلا نهارًا، فنحن نستقبل كل الوافدين علينا من كل ولاية بن عروس وهي ولاية مترامية الأطراف وخصوصًا من المحمدية وفوشانة والياسمينات والمدينة الجديدة وحمام الأنف ورادس وحتى من حلق الوادي وكذلك من الكرم... وسي فؤاد يعدّد الأماكن التي يأتي منها المرضى، فاجأته بالسؤال عن استعجالي مستشفى الحروق ببن عروس، فكانت الاجابة سريعة جدّا إذ قال محدّثي (سي فؤاد) أنّ هذا المستشفى لا يقبل إلاّ الحالات المتمثّلة في الكسور والحروق. العجب العجاب! ... بين حديث هذا، وصمة البعض الآخر كانت تصدر من بعض المنتظرين «آهات، أوجاع» لا يعرف وخزها الاّ من عايشها ولحظات الانتظار هذه وعلى قصرها فإنّ بعض المرضى لا يتسّمون بالصّبر وهو الذي لابدّ منة خاصة إذا كان الاطار الطبي وشبه الطبي. منشغلاً ومباشرًا للحالات التي تكاد تصله في كلّ لحظة وحين، هنا اقترب منّا السيد سالم الحامدي وهو المكلّف بحماية الاطارات العاملة في الاستعجالي وقد بادرنا بالقول: «أنّه على امتداد 8 سنوات التي قضاها في استعجالي الياسمينات، شاهد العجب العجاب وذلك من خلال ما حصل في ذلك المكان والذي يقصده على حدّ تصريحه «الباهي والخايب» وهو يدرك معنى الباهي الذي تأتي به حالة مرضية مفاجئة، أمّا الخائب فهو ذلك الذي يأتي في حالة سكر واضحة ليشتم الجميع ولأتفه الأسباب، يتنّهد سي سالم ثمّ يقول: «إنّنا نعاني ظلم ذوي القربى الذين لا يتوانون في شتمنا وإهانتنا والاعتداء علينا وتهديدنا وهنا استحضر لنا واقعة كان تعرّض لها أحد الأطباء «الاعتداء» إن لم يقل التنكيل به أمام المرضى ضمن مشهد حزين جدّا، كما لم تفته الاشارة للاعتداء الذي تعرّض له كذلك عون أمن ممّا جعل زملاءه يرفضون بعد ذلك استمرار التواجد على امتداد ساعات اليوم في استعجالي الياسمينات رغم أنّ الادارة وفّرت مكانًا كان بالامكان استغلاله كمركز أمني يؤمن الاطمئنان للجميع على امتداد النهار واللّيل وقد ساعدنا الأخ سالم الحامدي في أن مكّننا من زيارة هذا المكان والذي لابدّ من استغلاله على الأقل لتوفير ضمانات معنوية للعاملين في هذا المكان الاستشفائي. تجاوزات كثيرة ... وبما أنّنا كنّا جزءًا من ديكور ذلك الاستعجالي في الليلة الفاصلة بين الاثنين والثلاثاء فإنّه كان لابدّ من تسجيل بعض الخروقات لبعض المواطنين الذين لا تهمّّم راحة المرضى خاصة في الساعات الفاصلة بين منتصف الليل والرابعة صباحا إذ فيهم من يتحدّث بصوت عالٍ وفيهم من لا يحترم نظافة المكان إذ يتعمّد «البصاق» على أرضية قاعة الانتظار وفيهم من يدخن غير مُبالٍ بما كتب في أعلى القاعة بما أنّ التدخين ممنوع في ذلك الفضاء الصحي، وفيهم حتى من «يطبق الباب بقوّة، كلّ هذا والسيد سالم الحامدي متحّكم في أعصابه وهو الذي حدّثنا عن حجم المعاناة التي يجدها من «الذين تذهب بنت العنب بعقولهم بما أنّ هؤلاء لا يحترمون أي طرف مهما كانت مسؤولياته داخل المستشفى». الصبر والمكابدة ... وبما أنّنا كنا هناك فإنّنا في الحقيقة شاهدنا الكثير من الغرائب والتصرّفات والتي كنّا نعتقد أنّها ذهبت مع فوضى أيّام الثورة لكن يبدو أنّ بعضهم مازال يحنّ إليها، على كلّ الدكتورة سارة وهي صراحة من المتخرجات الجديدات لم يمر أكثر من عامين على مباشرتها لمهامها في صلب استعجالي الياسمينات قالت أنّها تجاوزت مفاجآت الأيّام الأولى وتعودت بشكل كبير مع الحاصل خاصّة أمام الاكتظاظ الكبير الذي تعرفه أروقة الاستعجالي سواء ليلا أو نهارًا، إذ أطلعتنا على كراسي تسجيل الحالات في الساعة الرابعة و23 دقيقة فوجدنا أنّ الاستعجالي زاره ما يزيد عن 100 مريض، وتصرّ الدكتورة على القول أنّ أغلب الحالات المرضية تهمّ «السكر ونزلات البرد» وأنّ أغلب المستوصفات لم تعد تفي بالحاجة إذ أنّها تعمل من الساعة العاشرة صباحا إلى منتصف النهار، وهو عامل يجعل الجميع في مأزق المطالبة بتقديم خدمة صحية في مستوى الانتظارات والتي قد يجدوها في الاستعجالي، وبالتالي يصبح من الضروري العمل على مساعدة الأطباء على أداء واجبهم خاصّة وأنّهم يعملون على امتداد ساعات طويلة جدّا. في الجانب الآخر لهذه «التصبيحة» سألنا بعض المواطنين عن الخدمات المسداة في هذه الأماكن الصحية فقيل لنا أنّ فيها الايجابي وفيها السلبي خاصّة على مستوى الاكتظاظ. تكامل الأدوار الأخت نزيهة الشرطاني (ممرّضة) ترى أنّ القطاع الصحي العمومي في مجمله يقوم بواجبه على أحسن وجه رغم بعض النقائص لكنّ ذلك لا يحجب المجهود المبذول من طرف الجميع لخدمة المريض والانسان التونسي عامة. (يتبع)