«إذا كنّا نحمل قناعا والآخر يحمل قناعًا فإنّ الذي بيننا ليس علاقة وإنما قناع... فنحن نعيش حفلةً تنكريّة» بتصرّف عن «توماس دايزن بوزغ» راودتني الفكرة مرّات عديدة أن اخربش بعض الملاحظات على آخر أثر تركه لنا الدكتور الطاهر الهمّامي «بعل ولو بغل» ولست أدري ما الذي أخر كتابتي وجاءت ذكرى وفاته لتنفض ما تبقى لي من كسل وركود كتابي كأننا لا نعرف الأشخاص الا بعد موتهم يضعنا الموت أمام حقيقة مرعبة لا علاقة لها بالحزن بقدر ما لها علاقة بفاعلية الانسان في حياته وبعدها... وكم هو عظيم، كم هو حيّ وباق ذلك الذي لا يمرّ على الحياة مرور الكرام بل يسّجل اسمه في ذاكرة التاريخ وفي ذاكرة شعبه بكلّ ابداعاته وانجازاته قد يطول الحديث عن انجازات «الطاهر الهمّامي» ولكنّني فعلا وجدت نفسي مشدودة شدّا الى هذا الكتاب لانّه فعلا «نبش عن المسكوت».. عن المحظور عمّا تعودنا ان نغلّفه بألف قناع.. إنّ ضحايا مؤسسة الزّواج كثيرون ولكن هل أنّ هذا المخزون الوراثي من تنشئة أخلاقية ودينيّة متزمتة تقوم أساسا على التعبير بين الجنسين وعلى الكبت الجنسي والضغوط النفسيّة هي التي تجعل من الزّواج حفلا تنكريّا يلبس فيه كل طرف من الأطراف قناعا؟ لقد أثار «الطاهر الهمّامي» في كتابه أهمّ مشكل نعيشه ونعايشه نفعل فيه ونتفاعل معه ولكن بكلّ حذر وبكل تعتيم وبحث عن سوس ينخر مجتمعا بأكمله فلا يؤثر على الأزواج فقط بل يتزامن ليشمل الأولاد.. ورغم انّ مجلة الاحوال الشخصية هي أوّل «دستور» وضع بالبلاد التونسية ورغم ان قوانين هذه المجلّة تعتبر متطوّرة وداخلة في نمط الحداثة مقارنة بالواقع العربي عموما إلاّ ان هناك تناقضًا جليًّا بين نصّ القانون وبين الواقع المأمول فالعقلية الاقتصادية والثقافية والمرجعية الفكرية مصابة بحالة من التكلّس والتصلّب بفعل التراكمات التاريخية هذه التراكمات لم تتقدّم بالمرأة الاشواط المطلوبة ومازالت مشكلة تقسيم الادوار او الدور الهامشي الذي تلعبه المرأة يدعونا اكثر من اي وقت مضى إلى تكسير هذا وإلى النبش فعلا في المسكوت عنه عن واقع مؤسسة الزّواج التي ما هي في حدّ ذاتها الا نتاج لموروث ثقافي وديني ومجتمع ذكوري يحدّد للمرأة دورا هامشيّا ويحاصرها بنظرة دونية تمنعها وتحدّ من فاعليتها فتجعلها ترى في هذه المؤسسة ملجأً وملاذًا لها حتى تحمي نفسها من العنوسة والطلاّق والوحدة ونظرات المجتمع لها واذا كان دخول المؤسسة مثّل للكثيرات الحلّ الاقلّ ضررًا الا انّه في الواقع الأكثر ضررا لأنّه لا يقوم على أساس من الشفافية والوضوح والتفاهم والصّراحة بين الطّرفين وأكاد أجزم بأنّه لا توجد زيجات سعيدة بقدر ما توجد أقليّة تعرف كيف تتأقلم مع الواقع او تقبله... فإذا كانت المرأة مجرّد ربّة بيت ولا تملك اي سلاح (تعلّم ثقافة عمل) فإنّها تستكين وتخضع إلى قوانين هذه المؤسسة والتي تتضمن وجوب الطاعة لزوجها باعتباره رئيس العائلة والعائل لها وتخضع إلى شتّى انواع الظلم والقمع الذي يمكن ان يمارس عليها والذي قد يصل أحيانا إلى العنف البدني.. ومع ذلك لا تقاوم فتكون بذلك «عدوّة نفسها» بل لعلّها تجد في كل هذا العذاب مبرّرات تستسيغها حتى لا تعتبر خارجة عن القانون او ناشزًا فمن واجب المرأة ان تطيع زوجها وفي ذلك التزام بالأعراف والقوانين والتزام اكثر بالدّين الذّي تلجأ إليه وكأنها تطلب مكافأة على صبرها وتجلّدها وفي أحيان اخرى تلجأ الى الخرافات والعرّافين والسحر حتى تحافظ على هذا الصّرح المتين! أمّا اذا كانت الفتاة عاملة فإنّها لن تقدر على الصّمود طويلا امام ضغوط المجتمع فتبحث عن الزواج بكل الطّرق ويكون عادة غير متكافئ فينتهي بسرعة بالفشل الذريع وإنّني لا أستثني من هذه القاعدة المثقفات فكم من امرأة ناضلت وتمرّست بالحياة وكان لها وجود فعليّ وفاعل في كلّ المجالات قبل الزّواج اذ بها بعده تصبح مجرّد عاملة خارج البيت بأجرة وداخله بلا أجرة ولا يرى الزّوج مضضا في أن يثقل كاهلها اكثر بطلباته وكأنّه عاجز عن القيام بأدنى دور له في البيت حتّى يأتي يوم لا تجد فيه هذه المرأة الجهد ولا الوقت لتتصفّح مجرّد صحيفة على حدّ قول الكاتب «إنّ الزّوجة المهدودة لا تعطي». لقد وضع الطاهر الهمّامي يده على الدّاء مباشرة عندما قال «إنّ التطوّر يتم بشكل سمفوني، وجهاز الكفاح السياسي والاجتماعي الخارجي والدّاخلي تتقدّم معًا ولو أنّها غير متكافئة والاصلاح الاجتماعي يخدم النضّال السياسي..». إذن فالنضال السياسي يحتاج اولا واخيرا الى مجتمع سليم من الامراض النفسيّة الى مجتمع قادر على طرح ثقافة بديلة عن ثقافة اصابها التصلب والتكلّس ولم تتطوّر مع تطوّر نمط الحداثة لذلك تبدو الدعوة ملحّة جدا الى الاهتمام بالذاتي ورفعه الى مجال التغيير الاجتماعي والسياسي «لأنّ جدليّة التاريخ تبقى دائما أقوى من مشيئة الأفراد».