يستمرّ المشهد السياسي منذ ثمانية أشهر على حاله محكومًا بالتوتّر والاستقطاب الحاد بعيدا عن خطابات التوافق والوحدة الوطنية التي صارت مثار سخرية الرأي العام الوطني في ظلّ اختلال موازين القوى السياسيّة بين «الترويكا» الحاكمة وبقيّة الأحزاب السياسيّة التونسيّة المعارضة والمعاضدة. ويستمرّ سعي حركة النهضة الحثيث إلى السيطرة على مفاصل الدولة ضاربة بعرض الحائط كلّ المواقف والآراء المخالفة والمنتقدة لها ولو صدرت من حلفائها في الترويكا. أمّا المعارضة المتشرذمة فلم يبق لها من سبيل للتعبير عن نفسها والمشاركة في تأثيث فضاء المجلس التأسيسي سوى الاكتفاء بطرح بعض المقترحات التعديلية للقوانين التي تطرحها النهضة داخل لجان صياغة الدستور أو افتعال بعض الضوضاء الاحتجاجيّة مع كل بالونة اختبار سياسيّة جديدة تطلقها حركة النهضة دوريا للتأكد من مدى جهوزيّة كتائبها الحزبيّة وجماهيرها الشعبيّة المستنفرة في الفضاءات الإعلامية العامة والافتراضيّة للدعاية لبرامج الحكومة وتبرير أخطائها والانقضاض على كل منتقد لها مهما كانت ملاحظاته. لكن يبدو أن جهاز النهضة السياسي قد وجد نفسه بعد حرب الاجتثاث التي أعلنها على كل الأصوات المعارضة بتكفيرها سياسيا وتخوينها وطنيا واستعدائها شعبيا وتشويه رموزها بمن فيهم من كانوا أقرب أصدقائهم في خندق 18 أكتوبر لاغتيالهم سياسيا وشعبيا، أمام معضلة لم يُقْرأْ لها حساب وهي عودة الباجي قائد السبسي إلى واجهة العمل السياسي عنوانا لمبادرة «نداء تونس» والتي يبدو أنها محل دعم وتشجيع عربيا ودوليا بعد الرحلة المكوكية التي قام بها في نهاية شهر ماي والتي حملته إلى عواصم القرار العربية والدوليّة التي تعرف النهضة جيّدا مداخلها ومخارجها. «عاد السبسي من جديد» في صورة المنقذ والمخلص ليجمع حول مبادرته لفيفا متنوعا من القوى الدستورية والديمقراطية واليساريّة والمدنيّة إضافة إلى المستقلين من عديد الأحزاب السياسيّة التي زعزع «نداء تونس» بنيانها الهزيل وأورثها عللا على علاتها التي تنخر كيانها. عاد السبسي بمبادرة خلقت الحدث وشكّلت منذ إطلاقها هاجسا أربك حكومة النهضة ومثّل لها هاجسا مخيفا تمثّل في حالة الإسهال من التصريحات التي أطلقتها قياداتها الحزبية وفي الحرب الإعلامية العنيفة التي يخوضها أنصارها على المواقع الاجتماعيّة باستهداف مطلق المبادرة الباجي قائد السبسي باعتباره «قائد سفينة الثورة المضادة» و«حصان طروادة عودة التجمعيين» بعد أن كان رئيسهم راشد الغنوشي قد مدحه في عديد المناسبات واعتبره الرجل العظيم والشخصيّة العالميّة الفذّة التي ضمنت لتونس التحول الديمقراطي وتسليم السلطة (للنهضة بالطبع) بشكل سلمي. ولعلّ مردّ هذا الرعب الملحوظ من طرف جهاز النهضة يعود إلى إدراكها مدى الخطورة التي يشكلها هذا الحزب الذي جاء تكتيكيا في شكل نداء عام لكل التونسيين بمن فيهم أنصار حركة النهضة، باعتباره حزبا لكل التونسيين باختلاف توجهاتهم الفكرية وانتماءاتهم الاجتماعية حسب ما جاء في خطاب مطلق المبادرة تلبية لنداء تونس، وهو ما أزعج ضمنيا حركة النهضة في هذا النداء الذي تضمّن موقفا مبطنا مفاده أن تونس مهددة في كيانها وثقافتها ووسطيتها والتعايش بين مكوناتها السياسية والثقافيّة من قِبل قوى طارئة وغريبة فشلت في الحفاظ على الوحدة الوطنيّة وخلقت تصدعات عميقة داخل المجتمع وهو حديث بدأ يجد صداه لدى المواطن التونسي ، ولعل السبب الثاني للانزعاج الذي شعر به حزب الأغلبية يعود إلى التفاف قطاعات واسعة و مؤثرة في المجتمع بقيت على الحياد منذ رحيل المخلوع حول المبادرة حتى قبل أن تكشف عن برنامجها من وجوه ثقافيّة وفنّية وأكاديميّة ومدنيّة ومن رجال أعمال لهم تأثيرهم في الواقع الاقتصادي خاصة في ظل أزمات تراجع الاستثمار وارتفاع نسب البطالة، إضافة إلى اعتماد المبادرة على وجوه سياسيّة مخضرمة لها خبرة في الحكم وتسيير شؤون الدولة ومتمكنة من العمل السياسي التعبوي والتعامل مع الجماهير الشعبية في الحقبتين البورقيبية والنوفمبرية جعلها تعمل بصمت وتبتعد عن اللغط الإعلامي وعن الخطابات الإيديولوجية التنظيرية التي غرقت فيها المعارضة وتسعى إلى تقديم خطاب سياسي عملي وواقعي يستجيب لانتظارات الشارع التونسي البراغماتي والمحافظ بطبعه. لقد شكّلت عودة السبسي إلى المشهد السياسي نقطة تمفصل داخل المرحة التأسيسيّة، وإعلان نهاية للصمت الانتخابي المؤقت والاتجاه نحو جولة ثانية من الفرز السياسي، أدت إلى تسارع الأحداث وارتفاع حمّى المشاورات بين القوى والأحزاب السياسيّة في اتجاه إعادة بلورة التحالفات السياسيّة تحضيرا للموعد الانتخابي القادم وكسر حالة الاستقطاب الثنائي بين النهضة ونداء تونس.