يوما بعد آخر يتأكّد سواء لمتابِع الشّأن العام أو حتّى للمواطن العاديّ أنّ الحزب الحاكم يسعى في دأبٍ وبلا كللٍ إلى وراثة الحزب المخلوع في المؤسسات وفي أساليب العمل وحتّى في لون النّظام يشهد على ذلك ما يُطالعنا به الرّائد الرّسمي في كلّ عدد يصدر من إقالات تتلوها تعيينات يتغيّر بموجبها لون الدّولة وذلك في رسالة واضحة فاضحة تؤكّد عزم الغزاة الجدد على استباحة الوطن واختزال الثورة في تجديد الدّماء بجسم الاستبداد، وذلك أربك حتّى حُلفاء النّهضة بما جعلهم يدخلون معها في أكثر من خصومة إحساسا منهم بالتورّط في المشروع الاستبداديّ العقائديّ وسعيًا منهم - يبدو أنّ مآله إلى الفشل أقرب - إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. وبالتّوازي يتأكّد لمتابِع أداء المعارضة أنّها اكتفت حتّى السّاعة بلعب دورٍ أشبه ما يكون بدور المهرّج في مسرحيّة هزليّة،فمن الواضح أنّ المعارضة وألوانها هي كذلك تجدّدت حسب المقاس الجديد انخرطت في لعبة بناء الاستبداد الجديد، وذلك ليس لأنّها تقصد أو تسعى فعلا إلى الإسهام في تجديد الاستبداد وإنّما لعجزها من حيث الأساليب والمقاربات والإرادات عن مواجهة الوحش الجديد خاصّة أنّ اعتمادها في السّابق على الاستقواء بأطراف كان يمكنها إرباك النّظام النّوفمبريّ باتت محدودة الفاعليّة لأنّ الحكام الجدد لا يحظون بمباركة تلك الأطراف فقط، وإنّما هم إلى ذلك لا يخشونها بحكم الخلفيّة العقائديّة التي يصدرون عنها والتي تجرّد خشيتهم إلى جهة وحيدة غير مرئيّة وغير معدّلة بذلك فعليّا لإيقاع المشهد من مختلف جوانبه بما يقلّل من حذرهؤلاء الحكام من مختلف الصّعوبات والمشاكل الدّاخليّة والخارجيّة إلى حدّ الاستهانة الّتي ستعود على البلاد إن آجلا أو عاجلابالوبال وبالخيبات!.. من جهة أخرى علينا الإقرار ودون مواربة ستؤجّل «الأزمة» إلى أجل غير معلوم بأنّ إرادة المعارضة في التّغيير رخوة فهي وكما تقرّ هي نفسها لم تسهم فعليّا في الثّورة ولا في ما سبق من أحداث مفصليّة كانت عاشتها بلادنا زمن الاستبداد البورقيبيّ والاستبداد الّذي خلفه وذلك رغم أنّ قواعد المعارضة شاركت فعليّا وميدانيّا بشكل تلقائيّ في الثّورة، وهذا يدلّ على شرخ في أحزاب المعارضة بين قيادات تمارس« تَرَفًا سياسيّا» ويحرّكها وازعُ «الزّعامتيّة» وبين قاعدة تسعى بصدق إلى إنقاذ البلاد والعباد لإحساسها فعليّا بالخطر، وهِي لذلك مجبرة على السّير في ركاب «الزّعماء» لأنّه لا خيار لها غير ذلك ولا طريق أمامها حتّى السّاعة إلاّ تلك الطّريق.. نعم الحكومة عاجزة وهي لا تبالي لأنّ أجندتها أبعَد من تفاصيل العجز الّتي تراها مؤقّتة، ونعم معارضتنا هي كذلك عاجزة، وهي بدورها لا تبالي بعجزها لأنّ أغراضها بما فيها من تَرَفٍ تسبَح فوق هذا العجز وتتعامى عنه طالما لا يصيبها في الصّميم..وبين العاجِزِين يدفَع البسطاء الضّريبة كاملةً إلى أجلٍ غير معلوم! الاتحاد العام التونسي للشغل وخلافا للفواعل السّياسيّة المعارضة يناور عسى أن يقِف في وجه التيار الزاحف لأنّه، وهو القائم في مختلف تركيباته على عامّة الشّعب إضافة إلى كونه كان بقواعده– دون أن يعترف له بقيّة الشركاء والفرقاء بذلك– الوقودَ الحقيقيّ للثّورة ، يدرك إدراكا عميقا وراسخا أنّ ثمار الثّورة التي سُقيت بدماء عامّة الشّعب بصددِ السّرقة من قِبَلِ لصوص قدموا علينا بأجندات «لا وطنيّة»..نعم يعي النّقابيّون وهم الّذين عايَشوا وعاشُوا قلبا وقالبا أبرز المحطّات المفصليّة في تاريخ بلادنا المعاصر أنّ بلادنا أمام فرصة تاريخيّة لتجذير الديمقراطيّة، وهم على قناعة بأنّ الحكام الجدد يستهدِفون زرع نواتات «إيديولوجيّة عقائديّة» تمثّل القاعدة الشّعبيّة التي تعاني «أميّة سياسيّة» تربةً مناسبة لها حتّى تتفشَّى كما تفعل كلّ الأعشاب الطّفيليّة، ومن هنا نفهم السّعي النّقابيّ لا إلى وضع العصا في العجَلة كما يدّعي الحكّام «النهضويون» وإنّما إلى إنقاذ البلاد من الطّاعون الذي إن تفشّى قضى فعلا على كلّ شيء: المكتسبات والآمال.. ويدفع في اتّجاه الإنقاذ بروح حقيقيّة ثلّة من المثقّفين والفنّانيين والجمعياتيّين الّذين يسعون إلى تدارك دورهم في استكمال الثّورة بعد أن تخلّفوا لأسباب عديدة عن الإسهام في الخطوة الأولى من الحدث الثّوري، وهؤلاء رغم قلّتهم ورغم سهولة الاحتجاج ضدّهم «بفرنساويّة» ثقافتهم ومرجعيّتهم يمتلكون إحساسا قويّا وحقيقيّا بأنّ البلاد هي اليوم أحْوَجُ ما تكون إلى أياديهم ومساعيهم خاصّة وهم الأدْرون بالطّريق الّذي سِيقَتْ إليها تجارب ثوريّة أخرى أبرزُها وأكثرُها إثارةً للخوف والفزع المثال الإيرانيّ..من الواضح أنّ الكابوس حقيقيّ، غير أنّ آليّات إزاحتِه وتجسيم حلم «تونس الجميلة» هي كذلك واضحة..الحلّ هو أن نكون يدًا واحدة:النّقابيّون والجمعياتيّون والمثقّفون والفنّانون وقواعد الأحزاب المعارضة– أقول المعارضة وليس المعاضدة!..وأن نكون هدفًا واحِدًا هو الوقوف في وجه «الفكر الظّلاميّ» بكلّ تمظهراته الفكريّة والمجتمعيّة والسّياسيّة والتّعجيل بدفْع عجَلة المدنيّة الّتي أوقَف سيْرَها الكافرون بها بعْد أنْ تمكَّنُوا من المقود.. حاولت جاهدا أن أجِد العلامة المناسبة الّتي تؤكّد بشكل ملموسٍ أنّه لم يتغيّر شيءٌ بالشّكل الّذي يريدُ «الغُزاةُ» أن يوهمونا به، كنت على يقين من أنّ الدّليل الّذي أبحث عنه موجود بشكلٍ ما..وفعلا وقعت على العلامة الدّامغة: لقد كان يلفت انتباهي في العهد البائد أنّ بعض المواطنين يلجؤون في سبيل إيجاد مورد رزق إلى بناء أكشاكٍ بشكل عشوائيّ ويقُون أنفسهم من عصا السّلطة بحِيلة التّزلف إذْ يعمَدُون إلى طلاء الكشك باللّون البنفسجيّ لون المخلوع المفضّل ويزيدون على ذلك بتسمية الكشك باسم يزيد في تحصين وضعهم من قبيل تسميته بكشك السابع أو كشك العهد الجديد وغير ذلك من الأسماء المؤكّدة لتزلّفهم والتي كانت فعلا تجنّبهم عصا المستبّد..ما لاحظته بعد الثّورة أنّ العديد من أمثال هؤلاء عَمَدُوا وهم ينتصبون عشوائيّا ويبنون الأكشاك اعتباطيّا إلى التّوقّي من المتابعة القانونيّة بارتداء القمصان وإطالة اللّحيّ والطّباعة على الجبين وكذلك بتسمية محلاّتهم بأسماء تناسب الغزاة الجدد فانتقلنا بقدرة قادر من «كشك السّابع» إلى «كشك البركة» والأمثلة للمُتَقَصِّي ظاهرة في أكثر من مكان!..هذا يعني ببساطة أنّ الوعي المجتمعيّ لا يصدّق أنّنا في طريق القطع مع الاستبداد، وهذا يدلّ كذلك على أنّ الحكام الجدد يسعون فعلا إلى استكمال عقود الاستبداد على طريقتهم وبما يخدم أجندتهم « اللّاوطنيّة»..وهذا يفرِضُ على الوطنيّين الصّادقين الاتّحاد بعيدا عن كلّ الأغراض الذّاتيّة والشّخصيّة والحزبيّة حتّى ننقِذَ بلادنا وحتّى لا يسبّنا مستقبلا أحْفادُنا بأنّنا أوْجَدْنا للهدّامين السّبيل والحجَّةَ ليحْرِقُوا 3000 سنة من الحضارة بسبب نزوة عقائديّة لم ينجَحْ لها مثالٌ حتّى السّاعة.. أيّها الأصدقاء - أيّها الرّفاق..أَفِيقُوا.