يشهد قطاع النقل بكل فروعه وأسلاكه أزمات هيكلية، وظيفية ومهنية زادت في تعقيد البدائل وتوفير الحلول العاجلة. وممّا زاد الطين بلّة السياسات المرتجلة وطرق التعاطي المرتبكة سواء تعلّق الأمر بالنقل الجوّي أو بالنقل البحري أو بالنقل البرّي. ولمحاولة فهم ما يجري داخل هذا القطاع إلتقينا الأخ مختار الحيلي الكاتب العام للجامعة العامة للنقل الذي بحكم خبرته الطويلة في القطاع وفي المسؤولية سيقدّم لنا معطيات ومؤشرات على غاية من الخطورة والأهميّة. ماهي الأسباب الموضوعيّة التي تقف وراء حالة الاحتقان التي يعيشها قطاع النقل؟ لعلّ أبرز سبب يعود إلى قدوم حكومة ومسؤولين جدد تنقصهم الخبرة والمعرفة بخفايا القطاع وخاصة بالدور المهم الذي يقوم به. اضافة إلى انتفاء الثقة بين المسؤولين على القطاع والاتحاد العام التونسي للشغل والذين ينظرون إليه عدوا لابدّ من تصفيته وعزله ومضايقته. ولماذا تراجعت وزارة النقل عن تطبيق الاتفاقيات المبرمة؟ التراجع لا يتعلّق فقط بالاتفاقيات بل أيضا بالقانون الأساسي وعدم اصدار هذه القوانين الأساسية المحيّنة والتي تتوفّر على العديد من الحقوق للأعوان وذلك في خطوة مخاتلة وماكرة تجعل من العون غير مدرك لحقوقه وواجباته. وكلّ رئيس مدير عام يعيّن بعد الثورة يقوم من أجل بروزه وظهوره بضرب حقوق الأعوان والحرفاء التي تحقّقت بفضل نضالات تاريخيّة ومجهودات جبّارة لا يمكن أن ينكرها عاقل غير هؤلاء الرؤساء المديرون العامون الجدد. كيف تتعاطى الجامعة العامة للنقل مع واقع التعدّدية التي بات يعيشها القطاع؟ التعدّدية في قطاع النقل هي تعدّدية مصطنعة ولقيطة ومسقطة على الواقع فهي تتكوّن من الذين رفضتهم القواعد الذين لا شغل لهم غير القرصنة والركوب على مطالب ومكاسب النقابات الشرعية. ويرتكزون بالأساس على مغالطة العمّال من خلال طرح ملفات قضايا كان الاتحاد العام التونسي للشغل وهياكله قد ناضل من أجلها. كما يعتمدون في الانتساب على طرق غير شرعية وبعيدة كلّ البعد عن الواقع ويجدون من الادارات المتواطئة معهم الدعم لقلب الحقائق. هل ترى أنّ بقاء السيد عبد الكريم الهاروني على رأس وزارة النقل هو إصرار على استمرار الأزمة التي يعيشها القطاع؟ للاتحاد مبادئ وقيم لا يمكن الحياد عنها، هذه القيم والمبادئ لا تقصي الأسماء ولا ترفضها بصورة مسبقة. نحن نتعامل بايجابية مع كلّ المسؤولين على قاعدة مصلحة القطاع والعمّال. لكن للحقيقة نقول ونسجّل أنّه ومنذ تولّى السيد عبد الكريم الهاروني الوزارة، انطلقت التعيينات والتسميات ومنحت الامتيازات للذين ينتمون إلى حزب السيد الوزير. وهذا ما ضرب في العمق مبدأ العدالة الاجتماعية وغذّى الولاء الحزبي على حساب الحقوق والواجبات التي يحدّدها القانون وتفرضها استحقاقات القطاع ومن ثمّة هياكلهم النقابية الشرعية. من حيث التمثيلية النقابية أين يكمن ثقل القطاع في الجوّ، في البرّ أم في البحر؟ لا يمكن لمؤرّخ أو لمتابع للشأنين النقابي والسياسي انكار النضالات التاريخية لقطاع النقل، هذه النضالات التي مثّلت شريان الاقتصاد وأوكسيجين الحرية جعلت القطاع متجذّرًا في كلّ الأسلاك برّا وجوّا وبحرًا. وقد ازداد توهّج التمثيلية أثناء الثّورة وبعدها، حيث أصبح القطاع رقما صعبا في المعادلة السياسية والنقابية وربّما هذا ما دفع البعض إلى الشروع في تنفيذ مخطّطاتهم الماكرة لإضعاف القطاع والمسّ من مصداقية مناضليه وهياكله. لكن وبكلّ شفقة نحذّر هؤلاء من مغبّة غضب النقابيين رغم ما يتحلّون به من صبر ونضج وحكمة إلى حدّ الآن. فالنقابيون وطنيون ومفعمون بالعزّة الوطنية ومدركون استحقاقات المرحلة التي تستوجب بذل كلّ الجهود لعودة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والأمني، قد نتقدّم في تحقيق ولو جزء قليل من مطالب الثورة ومن استحقاقات شهدائها وجرحاها ومهمشيها الذين مازالوا يشعلون النيران في أجسادهم بعد أن دبّ اليأس في نفوسهم جرّاء فشل الحكومة في تحقيق مطالبهم والاستجابة لتطلّعاتهم المشروعة في حياة كريمة وفي شغل يضمن لهم القوت ويساعدهم على المساهمة في بناء تونسالجديدة. يشهد قطاع النقل الجوّي محاولات لخصخصة بعض أنشطته وتسريح عدد من أعوانه، فكيف عالجت الجامعة العامة للنقل هذه المشكلات؟ لقد عقدت الجامعة العامة جلسة عمل مع السيد وزير النقل لصياغة تصوّرات استراتيجية تنهض بالقطاع وتسهم في تنمية قدراته التنافسية وتضمن طاقة تشغيلية أوسع وأنجع، غير أنّ عمليّة اغتيال الشهيد شكري بلعيد وما تلاها من استقالة الحكومة قد جعلت هذه الجلسة يتيمة من ناحية ولم تتمكّن الجامعة العامة من ناحية من الحصول على نسخة من محضر الجلسة. فالجامعة العامة لا تطرح الحلول المنقوصة فيما يتعلّق بواقع قطاع النقل الجوّي ومستقبله. ومن سوء الحظّ، فإنّ التعاطي اليوم حُصر في اللقاءات مع السيد الرئيس المدير العام كوسيط بين الجامعة والوزارة التي أغلقت أبوابها. فالجامعة العامة للنقل ومن ورائها قسم الدراسات والتوثيق قد أعدّا دراسة علميّة دقيقة ومنهجية كشفت خواء المقاربة الرسمية وضعف طرحها للحلول. وفي هذا السياق، تطرح الجامعة العامة تشكيل لجنة مشتركة بين خبراء الوزارة وخبراء الاتحاد من أجل صياغة رؤية واضحة وخطّة دقيقة. لكن يبدو أنّ الوزارة تسعى إلى أن تتخّذ القرارات من جانب واحد وهو ما ستتحمّل مسؤوليته كاملة. نحن ضدّ التشريك الصوري والمشاركة الوهميّة، نحن أطراف اجتماعية جادة وفاعلة ومضيفة لا تخشى الحوار ولا تنأى بنفسها على النقاش الذي يخدم المصلحة الوطنية. يرى بعض المراقبين أنّ قطاع النقل قد فقد توهّجه أو حرارته التي عرف بها في الثمانينات، فما رأيك في هذه المقاربة؟ لكلّ عقد من العقود واقع خصوصيات مختلفة وأحيانا متباينة، لكنّ القاسم المشترك يظلّ هو نفسه، وهو دور الاتحاد العام التونسي للشغل في التنمية والعدالة الاجتماعية وفي الدفاع عن الحريّات العامة والفردية. والجامعة العامة للنقل بوصفها جزءًا لا يتجزأ من بنية الاتحاد ومن تاريخه ومبادئه ومواقفه ونضالاته. وهي من هذه الزاوية ليست غاوية اضرابات ومصادمات بل أنّها قدرة فائقة على تقديم المقترحات الوجيهة وبعبارة أدق، فإنّ الجامعة العامة للنقل مثلما تعتمد على قوّة العقل، فإنّها أيضا تعتمد على النضال الميداني. ويمكن القول إنّ ما حققته الجامعة العامة للنقل خلال الفترة الأخيرة من مكاسب لم تحقّقه منذ الاستقلال غير أنّ الادعاء بأنّ هشاشة الوضع في قطاع النقل لا يحتمل زيادات في الأجور أو تحسينا في ظروف العمل هو ادعاء يكشف عن أمرين الأوّل يتعلّق بسياسة المماطلة وضرب مصداقية الاتحاد والثاني يتعلّق بالتمهيد لخصخصة كلّ الأسلاك. وفي كلّ الحالات، علينا أن نحذّر الجميع من التلاعب بالقطاع الذي ضحّى من أجله النقابيون تضحيات جسامًا، ودفعوا فواتير غالية جدّا من قوتهم وسجونهم وطردهم . الجامعة العامة للنقل ومن ورائها الاتحاد العام التونسي للشغل غير مستعدّة لفسح المجال أمام المخطّطات الليبرالية المجحفة والتي لم تتمكّن حكومة الثمانينات من تمريرها. ستشهد سنة 2013 إعادة انتخاب المكاتب التنفيذية القطاعية الجهوية، فهل أعدّ مختار الحيلي خليفة له على رأس القطاع؟ وان كنت قد أعلمت كلّ الاخوة داخل القطاع وعلى مستوى القيادة المركزية، بأنّني لن أترشّح لمدّة نيابية قادمة، إذ يكفيني شرف ما قدّمته من نضالات لهذه المنظمة العتيدة وللقطاع الضارب بتضحياته صلب تاريخ تونس وذلك على امتداد زهاء نصف قرن حيث مرّرنا من 37 نقابة أساسيّة خلال سنة 1983 إلى 327 نقابة أساسية الآن. هذا هو السجل الذهبي الحقيقي للقطاع الذي يوشّح صدري ويترك بالغ أثره في تاريخ الاتحاد. وخلال هذه الرحلة عشت أيّاما حلوة وأخرى كالحنظل من سجن وطرد. وكنت والقطاع لا نتوانى لحظة واحدة في الاستجابة لقرارات الاتحاد أيّام الجمر. ولا أنسى أيضا، كيف عقدت هيئة ادارية وطنية في بيتي حضرتها القيادة الشرعية وذلك اثر تنصيب التيجاني عبيد من قبل الزعيم الحبيب بورڤيبة. فالحكومات المتعاقبة منذ بورڤيبة إلى اليوم، لا تدرك واقع الاتحاد وخصوصياته وخاصة احتضانه لكلّ التيارات ولكلّ الشرائح بما في ذلك من هم في الحكم والذين ساعدناهم ماديا وأدبيا ويبدو أنّهم تنكّروا إلى ذلك. يرى بعض المتابعين للشأن النقابي أنّ استمرار السيد مختار الحيلي على رأس الجامعة لأكثر من ثلاثة عقود، قد أضرّ بالقطاع وبالاتحاد العام التونسي للشغل؟ فبماذا تجيبهم؟ في الأقوال المأثورة، نجدّد التذكير بما هو خالد فيها «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» هذه منجزاتنا وهذا تاريخنا. فقطاع النقل يحتل المراتب الأولى ضمن القطاعات داخل الاتحاد من حيث المكاسب ومن حيث الثقل، فالادعاءات الباطلة مثل الزبد يذهب جفاء.. أمّا انجازات القطاع فتمكث في الأرض. ومن هذا المنطلق أرفع تحدّيًا لكلّ المشكّكين والمناوئين أن يجدوا واحدًا من 54 ألف المنتمين غير سعيد بمنجزات القطاع. وبالمحصلة، نقول إن من يروّج لذلك هو مصاب بمرض عضال سيكون سببا لموته الفعلي ولموته النقابي، لأنّه لا يمكن أن يدخل الجامعة غير الصادقين والمناضلين. إنّ الادعاءات الباطلة هي بمثابة من يحاول تقليد طير النسور وينسى أنّه من فصيلة الدجاج. إذا كانت لديكم نوايا صادقة ماذا تقولون للسيد وزير النقل قبل نهاية مهامه خلال الفترة القادمة؟ خدمة للقطاع ومراعاة للظرف الدقيق الذي تمرّ به البلاد، ندعو السيد الوزير إلى الجلوس مع الجامعة والاتحاد من أجل ابرام «عقد اجتماعي» ومن خلاله تكشف نوايا وأهداف كلّ طرف ويكون هذا العقد سابقة نادرة في بلادنا، لأنّ الجامعة والاتحاد هما عنصرا استقرار وتوازن داخل البلاد. ونقولها بصوت عال ومتواضع في اعتداله ورصانته وحكمته أنّنا لن نطالب الوزارة إلى حدّ نهاية مدّتها إلاّ بتطبيق القانون والاتفاقيات.