عرف الإنسان منذ الأزل أنّ المنع وتقييد الحريّة هما أكبر موّلد للرغبة والحرص والتمرّد، ويكفينا الرجوع إلى ما ورد في القصّة الرمزية عن سيّدنا آدم عليه السلام بزوجيه الذكر والأنثى، وقد مكّنهما الله من السكن في الجنّة والأكل منها رغدا حيث شاءا ونهاهما عن الاقتراب من شجرة واحدة عرّفها لهما حتى لا يكونا من الظالمين. والذي حصل أنّ النفس الأمّارة أو«الشيطان» وسوست لهما و«بلسا» في ربّهما أي لم يظنّا به خيرا شاكّين في أنّ وراء المنع أمر مهمّ كأن يكونا «ملكين» أو كما ورد في التوراة بأنّ «أعِينهما ستنفتح ويعرفان الخير والشرّ». هذه الحقيقة الإبليسية من الثوابت في الذات الإنسانية وملازمة له حتى يفترق الجسد عن الروح، ونشاهد هذا في أنفسنا وفي ما حولنا من الناس في كلّ مجالات الحياة التي يكون فيها المنع أو حبس الحريّة، ومنها محاولات كشف الغيب باستعمال الشعوذة. لذلك أجد أنّ اهتمام مجلسنا الوطني التأسيسي في هذا الوقت بالذات بمسألة حجب المواقع الإباحية، فيه هدر للوقت والجهد على حساب أمور أساسية لها الأولوية الوطنية المطلقة، ولا نزاع في مسؤولية المجلس على حماية الأخلاق وتحصين المجتمع من الآفات المستشرية وليس بأخطرها المواقع الإباحية. من السهل حجب المواقع ولكنه بالتأكيد وبقناعة الجميع ربّما، لن يكون الحلّ لأنّ التقدّم التكنولوجي أوجد أسبابا عدّة للتعويض وكلما أغلق باب فتحت أبواب. لم تمنع الأسوار العالية والأبواب المغلقة ولا ألبسة حجب المرأة المفروضة عليها من وقوع الرذيلة، ولم يمنع التمسك بالعادات والتقاليد من التمرّد عليها، وأخيرا -دون تبرير- في تونس وخارجها أسقط القهر غصن الزيتون من يد المرأة، ودفعها إلى الاحتجاج بكشف صدرها، ليس شهوة وإنما لتعلن أنّ حرمتها وعفتها ملكها وحدها وهي التي تقرّر حفظها أو هدرها، كما لم يمنع تحريم الأديان من حصول الانحطاط الأخلاقي في الأمم لأنّ ذلك كله من طبيعة الأمور فالأخلاق يصيبها داء الشيخوخة لذلك كانت الأرض دائما في حاجة إلى هداية السماء لإصلاح ما فسد. وطالما أنّ الأمر على هذه الصورة الواقعيّة، لا شكّ في أنه علينا البحث عن الحلّ خارج المنع والإكراه ويقيني أنّ التربية السليمة والقدوة الحسنة والحريّة هي المنهاج السليم، لأنّ الإنسان كلما شعر بأنه محلّ ثقة وبأنّه مسؤول عن نفسه وعن مصيره كلما اجتهد في نيل الثقة ورغب في أن يكون القدوة الحسنة لغيره ومثالا يحتذى به. وأسال هنا : هل أنّ المواقع الإباحيّة الوافدة أخطر على أخلاقنا شيبا وشبابا من تشريع الزواج العرفي الذي أوجد مئات من الحوامل العازبات في الجامعات وخارجها، وما ينتج عن ذلك من مواليد فاقدي النسب، وهل هو أخطر من الاعتداء عن البراءة في رياض الأطفال أو في مراكز فاقدي السند، وهل هو أخطر من دعوة الفتيات لهدر شرفهن، وهل هو أخطر من الاعتداء على القاصرات داخل معاهد التربية والتعليم، وهل هو أخطر من جريمة إقحام الطفولة في صراعات الكبار بإحضارهم للمسيرات وتلقينهم عبارات العداء والكراهية، ولا اجده اخطر من المخدرات المستشرية في البلاد وصولا إلى المعاهد، وما هو اخطر من كل ذلك ما غرقت فيه البلاد من نفس الكراهية والحقد اللذى بلغ حد القتل والاغتيال ؟ فلا التحريم الديني ولا الإعدام وقطع الأعضاء والرجم ولا تعدّد الزوجات ولا الزواج العرفي أو القوانين الزجرية كانت الدواء الناجع، لسبب واحد هو أنّ الإنسان خلق هكذا نزّاعا لكلّ ممنوع، طبعا هذا لا يعني أن نترك الأمور عل حالها ولكن علينا أن نبحث وفي الوقت المناسب وقبل حصول الآفة وبعدها عن السبيل الأصلح للتوقي والعلاج، ويكون الهدف الحدّ من الفواحش والانحرافات وليس إزالتها من الوجود لأنّها باقية ببقاء الإنسان وما دامت السماوات والأرض. لم يعد زمن السلطة الدينية واحتكار المعرفة قائما ولم يعد التمييز بأنواعه مقبولا، عالمنا اليوم قائم على مبادئ وقيم جديدة أساسها حقوق الإنسان الكونية والمساواة بين الجنسين ونبذ التعصّبات وحريّة التديّن، وقائمة على المشاركة العامّة في القرار والفعل وعلى المواطنة، فهذه القيم والمبادئ لم تكن من قبل، ولذلك لابد من التعامل معها بعقلية الزمن الحاضر وتسامح وتفهّم كبيرين بين الأجيال حتى يتمّ الانتقال السلس بينها ويحصل التطور الحضاري بشكل سليم ناجح دون أحقاد وضغائن، لأنه أساسا لا توجد ضديّة بين الأجيال وإن حصلت فهي مفتعلة ممن لا يسلّمون بسنّة الله ويرفضون التغيير متمسّكين بموروثهم وما وجدوا عليهم أجدادهم. إنّ الإنسانية اليوم ليست تلك التي كانت منذ ألف سنة، وأمراض وعلل اليوم لم تكن في القرون الخالية، ولذلك لا يصحّ أن تعالج بأدوية انتهت مدّة صلوحيتها أو لا علاقة لها بالداء أصلا، لا يمكننا أن نقنع أطفال اليوم بما كان يقتنع به آباؤهم وأجدادهم منذ عهود، ولا يوجد عاقل يقبل العيش في الحاضر بعقلية الماضي، والإصرار على ذلك سيدفع إلى رفض الأديان وقد بدأ يحصل، وهذا خطير لأن الدين أساسي وما وجود الإنسان إلا لعرفان الله وعبادته. أجد أنّ الفرصة مواتية لأوجّه تحيّة تقدير وإكبار لوسائل الإعلام بأنواعها المكتوبة والمسموعة والمرئية والالكترونية النزيهة الأمينة الصادقة منها، لأنها هي التي جعلت العالم قرية وعرّت المستور وكشفت ما يجري من رذائل من رجال الدين بدءا بالكنائس وما يصدر عن القادة الكبار ورجالات الدول من تجاوزات أخلاقية ومالية وسياسية، الإعلام هو الذي فتح عيون الناس والشباب خاصّة على حقيقة الكبار، لذلك لم يعد يمكنهم احترامهم أو تصديق مواعظهم التي يطلقونها باسم الدين والأخلاق، لأنّ الأقوال دون أفعال لا تصلح إلا لإهانة وازدراء أصحابها ليس إلا. إنّ الحلّ في التربية السليمة والقدوة الحسنة وهي أضحت مفقودة في عالمنا المادي الذي بلغ الشيخوخة المزمنة وتداعت أركانه للانهيار وقد حصل كما هو مسموع ومشهود وفقدت الثقة من الجميع. لابد من ابتكار أساليب جديدة للتربية يكون فيها الطفل والشاب والكهل والشيخ شركاء في حواراتهم بدءا من العائلة إلى الروضة وانتهاء بالإدارة والحياة السياسية العامّة حتى يكون القرار دائما بمشاركة واتفاق الجميع ويسهم الكلّ في تنفيذه ويكون الاختيار للمواطن بين الحسن والأحسن بدل السيّء والأقلّ سوءا من الأحزاب والمترشحين للمناصب.