تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في المخيال والتاريخ:الفكر العربي المعاصر والموقف من المخيال
الحلقة الثاثية والاخيرة: بقلم: سمير أبو زينب
نشر في الشعب يوم 07 - 04 - 2007

كل الظواهر المعاصرة تشير الى اننا نمو بمرحلة حافلة بالتقلبات محفوفة بالمخاطر تستوجب منا التوقف وإعمال الرأي ومساءلة التاريخ. في خضم هذا الغموض والفوضى تتعالى اصوات بعضها يدعو للرجوع الى الماضي واخر يطالب بعقلنة المسيرة البشرية وضبطها بأخلاقيات وقوانين واخر يعلن نهاية التاريخ (فوكوياما) ومبشرا بانتصار ساحق للنيوليبيرالية الفاحشة.
اننا اليوم امام سؤال تاريخي لا يقبل بأنصاف الحلول والاجوبة: الى اين نسير؟ هل هذا الاتجاه محتم على البشرية؟ ألا يحق لنا ان نسأل الماضي القريب والبعيد والحاضر لكي نضيء طريق المستقبل؟ هل ننفض عنا غبار الماضي ولا نعبأ الا بم سيحيل ويأتي؟ كل هذه التساؤلات تحيلنا الى قضية واحدة: ما معنى التاريخ؟ ما تاريخ الشعوب والحضارات والافكار والفنون؟ كيف يخلق الانسان تاريخا ومؤسسات ومجتمعات وحضارات؟ هل نجزم كما فعل هيجل بأن التاريخ يتقدم في اتجاه العقلانية ويخضع لمنطق فاذا بنا امام جدلية تاريخية واذا بالاختلافات بين الحضارات والثقافات والافكار ليست سوى أوجها للعقل ويصبح «كل ما هو واقعي عقلاني» حسب عبارة هيجل نفسه: هل يسير التاريخ في خط تصاعدي بحيث تكون افكارنا السابقة حالات خاصة لأفكارنا الحاضرة وينتج عن ذلك تماثل وتطابق بين مسيرة العقل الانساني ودرجة تعقد المواضيع التي يتوجه لها فكرنا؟ هل التايخ تواصل واستمرار؟ ام هو نحو الارقى ام هو استئناف للحظة توقف بعدها التاريخ وظل يجتر فيها نفسه دونما تجديد فنأخذ بيده ونسوقه الى حيث يجب ان يتجه ونصالحه مع العقل؟ ام هل ان التاريخ انتهى ولم يعد موضوع درس الا لمن بقلوبهم مرض وعلة وحنين؟
في الحقيقة و «منذ أفلاطون ومرورا بالليبرالية المعاصرة وصولا الى الماركسية فان الفلسفة السياسية قد تسممت بمسلمة مفادها انه يوجد نظام عام و «عقلاني» للعالم قاطبة ومنه يمكن استنتاج نظام (Ordre) للشؤون البشرية ونسمي ذلك بالانطولوجيا التوحيدية، هذه المسلمة تخفي وتزيف الحقيقة الجوهرية ألا وهي ان التاريخ البشري هو خلق لولاه لما كان هناك تساؤل واصدار أحكام ولما تحدثنا عن اختيار سواء تعلق الامر بالامور الموضوعية او الذاتية كذلك فان الاعتقاد في نظام (Ordre) يحكم تطور المجتمعات يعنى الغاء المسؤولية. ان هذه الانطولوجيا التوحيدية مهما كان تمظهرها وسواء تلحفت بهذا القطاع او ذاك ترتبط اساسا بالهيترونوميا (عكس الاوتونوميا). ففي اليويان القديم فان انبثاق الاوتونوميا ارتبط برؤية غير موحدة او توحيدية للعالم وتشهد على ذلك الميثولوجيات الاغريقية» (11).
ولكن اذا كان المنطق يحكم تطور التاريخ كيف نفسر ظهور الاديان والفلسفة والديمقراطية والكليانية والفاشية؟
«ان التاريخ هو المجال والميدان الذي يخلق فيه الانسان اشكالا أنطولوجية بما فيها تاريخ الانسان نفسه وتاريخ المجتمعات» (12).
فالتاريخ خلق بشري انساني لدلالات وضوابط ومعايير ولا وجود لتاريخ خارج الارادة البشرية او تاريخ تحكمه قوى متعالية وقوانين تاريخية موضوعية او اقتصادية خفية. فها هي ذي قوانين التاريخ التي وضعها ماركس (المادية التاريخية) تتحطم وتتبخر على وقع الاحداث التاريخية وذلك لا فقط بسقوط «البيروقراطية السوفياتية» ولكن وبالاخص بانصهار الطبقة العاملة في المجتمع الرأسمالي وانسياقها وراء مجتمع الاستهلاك. ثم ها هو ظهور الفاشية يؤكد مرة اخرى ان «لا براءة للتاريخ» وانه «مازال لنا ما نفعله... ولا ضمان للتاريخ» (كاستور ياديس) وانه سيظل الفعل البشري والمساءلة والتقيم الذاتي مسألة قائمة.
التاريخ خلق، انه خلق ذاتي (Auto-création)، تأسيس اجتماعي تاريخي، التاريخ لا يخضع لمنطق عقلاني وقوانين ثابتة بحيث «ننتقل من مرحلة منطقية الى اخرى وكلها تخضع لحتمية منطقية» كما يقول الجابري. طبعا لا يمكن لأي كان ان يشتغل على موضوع تاريخي دون اللجوء الى منطق السببية لكن» الاجتماعي التاريخي يفترض ايضا اللاسببية ويبرز ذلك على مستويين: مستوى تصرف الافراد مقارنة مع ما هو تصرف طبيعي ومتلائم مع ما هو معهود ومألوف... وبالاخص مستوى التصرف الغير قابل للتكهن ألا وهو التصرف الخلاق للأفراد والجماعات والمجتمعات... (فبخلاف الميكروبات) فان رد الكائن التاريخي اي الانسان على الاوضاع الجديدة يتجاوز حدود الكائن الطبيعي الذي يغير أجوبته وردوده فالانسان يتجاوز ذلك التأقلم الى خلق اوضاع جديدة فذة لا يمكن التكهن بها» (13).
كل ذلك لا يخضع لحتمية ولا لقانون تاريخي.
اذن نقيم التاريخ؟ بادئ ذي بدء اقرارنا بجعل الماضي موضوع درس وفحص ونقد ومراجعة هو في حد ذاته موقف خاص. فالذين يعتبرون التاريخ تعاقب حوادث مقدرة وان الزمان يخفي اسرارا تمتد الى المستقبل لا يكلفون انفسهم عناء البحث فنظام الفكر الذي ينضوون في ظله مريح مطمئن. فهم في حالة اكتفاء ذاتي وفي حل من المشاق والمتاعب. اما اذا اعتبرنا انه لا ضمان للتاريخ وان هذا الاخير مسرح للتراجيديا والمخاطر وان التقدم التاريخي المضمون محض وهم، اما اذا اعتبرنا انه لا يمكن لنا الحكم على الماضي بأنه ترهات لاننا بذلك نكون قد حكمنا على كلامنا بالنسيان والتفاهة بمجرد مرور اللحظة التي نطقنا فيها حينئذ نقر بمسؤولياتنا تجاه التاريخ ونرفض الاستقالة والانصياع للاحكام والقوانين عندما نقر بأن التاريخ خلق لمعنى فذلك يعني ان لا وجود لتفسير لهذا الخلق فكل الذين حاولوا تفسير نشأة الحضارات والاديان والديمقراطية... وقرنوا ذلك بأسباب غاب عنهم انه للقيام بذلك لابد من تمثل المخاييل التي سادت تلكم العصور وبالتالي وضع انفسهم في دائرة مخيالية سابقة وهذا ما يعجز عنه كل مفكر. ما يمكن فقط القيام به هو فهم هذا التاريخ (لا تفهمه) وذلك بعد عملية الخلق الاجتماعي والتاريخي لانه لا وجود لاتجاه ومعنى للتاريخ الا ما يخلقه ويتمثله الانسان والمجتمع. فالمعنى يخلق.
اذن كيف الماضي حاضرا في الحاضر والمستقبل؟
«انه حاضر بما يعطيه له الحاضر والمستقبل من معنى ودلالة» (14).
اما محاولة البعض استخراج المعاني والدلالات من النصوص على ان في هذه الاخيرة إمكانا لا ينضب وقابلية للتأويل لا حصر لها (على حرب) بحيث ينطقوها بما لم تنطق بها فذلك هراء لأنه ليست النصوص هي التي نطقت ولكنهم هم الذين نطقوا وصاغوا افكارهم ونسبوها للنصوص فالحضر والتفكيك هروب من المسؤولية.
ان الماضي يعيش فينا جزء من مقدمات فكرنا لكننا ككيانات حاضرة غير مسؤولين عما وقع ولا نقدر سوى على تقييمه ونقده ومراجعته بما ادى الى هذا الحاضر:
«فلا يمكن لنا ان نعطي أفضلية وحضوة للحقيقة التاريخية الماضية. فما الماضي والحاضر سوى مادة خاما لا قيمة لها الا بقدر ما نهضمها بصفة نقدية... فالماضي ليس له قيمة افضل من الحاضر وهذا الاخير لا يكون مثالا او نموذجا بل مادة. فالتاريخ الماضي لا يمكن اعتباره طاهرا ومقدسا بل قد يكون هذا التاريخ ملعونا لانه استبعد تواريخ اخرى كانت ممكنة التحقيق. فهذه الامكانيات التاريخية لها نفس الاهمية والمكانة والقيمة بالنظر الى مواقفنا العملية وبالنظر الى التاريخ الفعلي» (15).
من هذا المنطلق نتخلص من كل نزعة تقريضية او احتقارية للماضي ولا نتغاضى عن نقد الدلالات والمؤسسات التي شكلت اطارا ومرجعا للفكر والممارسة وهذا هو الخطأ الذي سقط فيه كبار المفكرين: فهيجل لم ينطق شيئا عن الملكية البروسية وماركس سكت عن التكنيك واعتبره محايدا وماكس فيبر اعتبر البيروقراطية المعاصرة تجسيما للعقلانية وسمة من سماتها الجوهرية التي لا تقبل المساءلة.
الفكر العربي المعاصر والموقف من المخيال
كما سبق وان قلنا لا يمكن ان نفرز ما هو راجع للعقل وما هو راجع للمخيال وبالتالي فكل المحاولات التي استهدفت استخراج «الجانب العقلاني» أو «الجانب المادي» أو «النزعة المادية» (حسين مروة) في اي فكر كان (كالفكر العربي الاسلامي) باءت بالفشل وأدت الى استنتاجات عبرت عن اراء اصحابها اكثر من اي شيء آخر. من ناحية اخرى ان اعتبار معظم مفكرينا المعاصرين ان التاريخ يخضع لمنطق ونظام خارج عن الارادة البشرية يسقطهم في احكام خاطئة وينعكس ذلك في رؤيتهم للحاضر والمستقبل.
حسين مروة على سبيل المثال يعتبر ان «لتاريخ الانسان الواقعي... حركة تطور وسيرورة مستمرة لا تنقطع الا جزئيا وظاهريا... فما قد حدث من انقطاع او ما يشبه الانقطاع... (يعود) الى فترة التسلط الخارجي الاستعماري التركي العثماني الغربي... (فالمطروح هو) تبني الموقف الذي يرى حاضرنا شكلا حركيا تطوريا للماضي... فكما كان ظهور الاسلام تلبية صارخة لحاجات هذا الواقع الاجتماعي وتعبيرا عن تطلعات الفقراء وعن الحتميات التي اقتضاها تطور العلاقات الاجتماعية الناشئة» (16) فان النهضة القومية تصبح حتمية هذا العصر. يدعونا حسين مروة الى استكمال المسيرة من نقط انقطاعها وذلك حتى يكون حاضرنا شكلا حركيا تطوريا للماضي (!).
محمد عابد الجابري يعتبر ان «التاريخ هو تاريخ العقل والفكر، فالعملية التاريخية صميمها عملية منطقية. فالانتقال من عملية تاريخية الى اخرى هو انتقال من مرحلة منطقية الى اخرى في سياق الزمن اذن فالاحداث التاريخية لا تحدث صدفة بل تخضع لحتمية منطقية ومن هنا فكل ما هو واقعي فهو عقلاني حسب عبارة هيجل» (17).
يتحدث الجابري عن «المعقول الديني» و «المعقول العقلي» و «اللامعقول العقلي» وهو يتكون من الغنوص والفكر الهرمسي والنظام المعرفي البياني) ويصمت الجابري عن «المعقول الديني» لانه لا يمكن ممارسة النقد اللاهوتي لأننا بذلك نقوم بهتك حرماتنا» (18) ويبحث عن «مكونات العقل العربي» ويعتبر ان هناك مخيالا دخيلا (آت من الغنوص الفارسي والهندي) حرف وشوه المرامي الاصلية وان العقلانية الصافية نجدها تتجسم في الفكر المغربي الاندلسي (عكس الفكر الشرقي العباسي والفاطمي). وتماشيا مع النظرة التي تقبل بمنطق التاريخ يدعونا الجابري الى «الحلم في حدود الامكان... الامكان التاريخي المنطقي» (19)... ف «الشعوب لا يمكن لهم ان يستعيدوا على صعيد وعيهم تراثا أجنبيا عنهم بمواضيعه واشكالياته ولغته» (20) فالتعامل مع روح العصر «يستند على شخصية لها منظومتها المرجعية الخاصة تستند عليها بوعي وتعود اليها بوعي» (21) اي ان الاطار المخيالي الذي كيف الفكر العربي الاسلامي يجب الحفاظ عليه والانطلاق منه وعدم تجاوزه ولك تحول لابد ان ينطلق من الحدود ومن داخل السياج الذي حددته الدلالات المخيالية المهيمنة اي بصريح العبارة: التراث خصوصا في جانبه الفكري والسياسي.
الموضوع يحدد المنهج لدى الجابري. في الحقيقة ان الموضوع شرط من شروط المنهج ولا يحدده.
اما على حرب فهو ينطلق من نظرية الاختلاف وفسلفة التفكيك ويدعونا الى استيعاب المذاهب والمقالات والملل على انها تجليات للعقل.
«ان اللاعقل (افهم مخيال) يلابس العقل ولا ينفك عنه... لابد ان نتفهم التصرفات الامسؤولة والمجنونة سواء في تعامل الانسان مع نفسه او مع البيئة والطبيعة... وما تحصده البشرية من العنف والخراب والتبديد... (فذالك هو الجانب اللاعقلي في تصرف الانسان) وجل ما نطمح اليه هو ايجاد تسوية بين عقلنا ولا معقولنا» (22) ... فكل ما هو واقعي عقلاني فالتفكيك يفضي الى «تقبل الواحد للآخر والاعتراف بمشروعية ما حقق وما انجز» (23) علي حرب يدعونا بالتفاعل الايجابي مع العولمة. هو يقر ان الحضارة العربية الاسلامية قد بنيت من خلال «فتح العالم والاستيلاء على معظم دوله ومماليكه.. ففرضنا لغتنا وأدبنا وشريعتنا على الذين صدقوا دعواتنا واستجابوا لرسالتنا او على الذين خضعوا لسيطرتنا بعدما غلبوا على أمرهم... فلقد كان تعريب العالم في البداية ابتداعا وابتكارا سبيل انفتاح وتحرر ومظهر حضور وتألق... (اما اليوم) فلقد انقلب السحر على الساحر... (ووجب علينا ان نتقبل هذا الواقع) ما دام لكل أمر وجه اخر... قالزمان ايام تتداول بين الناس يعز أناسا ويذل اخرين» (24).
باسم الاختلاف يعترف علي حرب ان لكل حضارة ديمقراطيتها ونموذجها في الحكم «فالدعوة الى الديمقراطية في بلداننا هي من قبيل السذاجة لانه لا يمكن تبني مفهوم غريب عن الحضارة العربية الاسلامية التي كانت لها نمطها وآلياتها الخاصة في ممارسة السلطة والحرية» (25). كل ما هو واقعي عقلاني. ما كان احسن مما كان.
اما محمد أركون فهو يدعو الى «منهجية تعددية» تستفيد من كل التراث الفلسفي والنقدي الحديث ومن الانتروبولوجيا الثقافية في دراسة التاريخ (وعلاقة ذلك بالمخيال). يرى أركون انه لا يمكن اسقاط مفاهيم العصر الحاضر واشكالياته على الماضي فعملية ربط الحاضر بالماضي عملية دقيقة تتطلب الكثير من ممارسة البحث التاريخي» (26) اذن بماذا نفهم الماضي؟ بمفاهيم الماضي «فلا يمكن ان ندحض كلام السلفيين بنظريات الفلسفة الغربية يمكنك ان تدحضه بكلام الشق الثاني من التراث الاسلامي: المعتزلة. هذا الشق الذي بترو حذف منه اكثر من عشرة قرون بحد السيف» (27).... «لا يحق لنا الن ندين التجليات التقليدية والحالية للظاهرة الاسلامية... فكل ما هو واقعي عقلاني كما يقول هيجل» (28).
محمد أركون يدعونا الى العودة الى روح الديانات وحقيقة مراميها فيمكن ان نجد اشياءا كثيرة في التوارة والأناجيل ويمكن ان نبني عليها. فالعقل اللاهوتي المسيحي يحاول ان يسترجع مصداقيته في هذا الجو من الازمة العامة للفكر» (29).
«فهناك وحدة عميقة للأديان تتمثل في الحاجة الدينية والعامل الديني ذاته» (30)، وكما ان تقييم التاريخ العربي الاسلامي يستند الى نظرة تبريرية باسم تاريخيانية ومنطق تاريخي لا يقبل المساءلة والنقاش فان تقبل الحداثة والعولمة هو الاخر لا يخضع للنقد والتمحيص. كل ما في الامر اننا مضطرون الى ضمان «تواصل المشروع التاريخي للحداثة مع رفع للمظالم واصلاح المسار» (31).
نور الدين أفاية يعتبر انه «بين العقلاني والمخيالي علاقة جد متشابكة فهما في ذات الوقت متلازمان ومستقلان او منفصلان فالعقلاني يرمز الى علاقة رصينة، حكيمة، تعتمد الاستدلال اما المخيال فهويحيل الى مجال من العلامات والصور والرموزز المتفرقة والمتنوعة والمتشعبة. فالمخيال يجتث موضوعه من جذوره ويحرف معناه ومدلوله الاصلي واللفظي وحقيقته الملموسة والمباشرة فيحيطه بهالة من الاعجاب» (32).
هناك اذن معرفة خالصة صرفة كامنة في الاشياء ومعاني مرتبطة بها ويأتي المخيال ليحرفها. المخيال يعني الاوهام والطوباويات والخرافات اما العقل فهو المعرفة الموضوعية التي لا تشوبها شائبة. ان هذه المقاربة الوضعانية للمعرفة والتي فندتها البحوث الفيزيائية المعاصرة وحتى البحوث الاجتماعية والتاريخية تلغى دور الذات العارفة والتي وان تقارب موضوعات مستقلة عنها وملموسة كما يقول زفاية فهي تنشئ المعرفة تصوغها وتتخيلها.
ان هذا العرض الخاطف لبعض آراء المفكرين العرب حول المخيال يؤكد لنا ان ما يعنيه هؤلاء بالاساس هو المجتمع المؤسس (بفتح السين) وهم لا ينطقون شيئا عن المخيال المؤسس (بكسر السين) لأنهم يعتقدون أن التغيير يقع من داخل السياج اما بإصلاح وترميم ما تهدم وانخرم او بالانطلاق من التراث وداخل الحدود التي فرضها الاطار المخيالي المهيمن لانه لا يمكن لنا ان «نهتك حرماتنا» كما يقول الجابري. لكننا نلاحظ ان شاعرنا العظيم ابو القاسم الشابي كان في الثلاثينيات من القرن الماضي اكثر جرأة وشجاعة عندما احتج على التراثيين قائلا: «لماذا هذا التقديس والعبادة والجمود... لماذا يريدون إطباق أبصارنا عن كل ما في السماء من أشعة ونجوم» (33).
أزمة التمثل والتماهي:
ان الدلالات المخيالية المشركة والمميزة لمجتمع ما تكمن كما أسلفنا القول في تأسيس رؤية مشتركة للكون والحياة وتحدد الغايات، ما هو مسموح به وما هو غير مسموح به (هذا مجتمع يحدد غاياته في عشق الله وعبادته واخر في تطوير القوى المنتجة وكهربة البلاد) (34) وتختص بميول ومهج «Affect».
هذه الاخيرة تجعل من لفرد يتعلق بمجتمعه ومؤسساته تعلق الحبيب بحبيبه فينصهر فيه بكل تلقائية واندفاع وايمان ووثوقية سواء تعلق الامر بالايمان بمثل دينية او وطنية او بمثل المجتمع الرأسمالي في «أوج عطائه» حيث الشغف الى الجديد والخلق والعطاء من اجل تحقيق احلام «التقدم» و «الرخاء». كلنا يتذكر على سبيل المثال ذلك الوهج الوقاد والحماس الفياض الذي غمر نفوس المواطنين غداة الاستقلال وهم يندفعون بكل تضحية لبناء الدولة المستقلة والوطن.
ان الدلالات المخيالية تخلق انسانا خاصا، «فردا انطروبولوجيا» على حد تعبير كاستورياديس فريدا ومميزا بحيث يتمثل هذا الاخير ذاته ويجعله يشعر بحالة من التوازن والراحة النفسية الى حد المتعة والانتشاء: أنا العربي، أنا المسلم، أنا اليوناني، أنا الانسان الغربي المعاصر، أنا الفرد والمجتمع اللذان أريد ان يكونا. أنا الفرد الذي يشترك مع الاخرين في صفة ويقاسمهم افكارهم ورؤاهم ومعتقداتهم وأحلامهم وعواطفهم ومهجهم. أنا الفرد والمجتمع المتميزان عن الاخرين. ان هذا الشعور بالانتماء الى مجال مشترك ينغرس في المخيلات من خلال الوسائط: الأم، العائلة واللغة (بصفتها أداة اجتماعية الفرد) والمدرسة وميدان العمل، والمؤسسات الثقافية والنقابية والسياسية، والمسكن... لكن المجتمع المعاصر قد ذرر الافراد واضعف من دور هذه الوسائط. فالعائلة بصفتها عنصرا هاما في التوجيه فقدت مكانتها من دون ان يبرز ما يعوضها في عملية اعداد النشء ونظام التعليم ما فتئ يخضع لسلسلة متعاقبة من مشاريع الاصلاح التي قد تتناقض بل ان التعليم بدأ يفقد قيمته كوسيلة للارتقاء.
لقد انحسر الصراع الاجتماعي وتحولت النقابات الى أجهزة فارغة من كل روح ولم تعد السياسية تجلب ملايين الناس... فلقد ملت الشعوب صلف الاحزاب التي اصبحت الفضائح سمة عالقة بها.
كل الوسائط تعيش ازمة بحيث تفتت النسيج الاجتماعي وروج لفردانية مزعومة وأنانية. سمة لا تقل أهمية عن الظواهر السابقة وتعبر تعبيرا صرخا عن هذه الازمة: انهيار زمانية المجتمع في علاقته بتاريخه وماضيه فهذا الاخير تحول الى متحف لا يخضع لأي نقد ومراجعة يزوره الانسان كما يزور سائح منطقة أثرية. فغياب الاهداف يقابله تجاهل للماضي «فاليوم تختزل العلاقة بالماضي إما في سياحة أركيولوجية بخسة الثمن او في تبحر ومتحفية من كل نوع» (35).
ان اخطر مظهر لهذه الازمة هو افتقاد المجتمعات القدرة على تمثيل ذاتها. «لقد غاب ما سماه دركهايم: نظرة المجتمع لذاته والفكرة التي يكونها حول ذاته... غاب ذلك التمثل الجماعي الذي لا يمكن اختزاله في مجرد وصف وتشخيص او في مجرد مزايدات فكرية... غاب ذلك الخلق الفعلي الذي يضع في الميزان كل القدرات الذهنية الانسانية ويستحضر كل امكانيات الخيال وينغرس في الجوانب الاكثر عمقا من عواطفنا ومهجنا» (36) «النحن يتلاشى» تغيب للتمثيل الذاتي للمجتمعات بصفتها منبعا للمعنى والقيم. عصر المعلومات هو ايضا عصر تذوب فيه الذات. هو ايضا عصر انتشار المشعوذين وكاشفي الطالع والعارفين في الابراج وعددهم يفوق رجال العلم ذاتهم الذين اثرت فيهم هذه الموجة فنرى علماء متحصلين على جوائز نوبل للعلوم... يحضرون مؤتمرات حول «التأويه» و «البارابسيكولوجيا».
في البلدان التي لم تعرف الثورة الديمقراطية والتي فككت فيها التنمية العلاقات الاجتماعية وأحدثت «صدمة ثقافية» من دون ان يؤدي ذلك الى تجاوز الاطار المخيالي التقليدي نلاحظ ارتدادا الى غياهب الماضي الذي يصور في شكل اسطوري فيستحضر في المخاييل في أبهى صورة وذلك كتعويض عن الفراغ والتمزق. لكن رد الفعل هذا لا يمثل سوى بعدا ووجها. في الحقيقة هناك مؤشرات على انفتاح هذه الشعوب على الاوتونوميا والحرية. اما في البلدان الغربية والصناعية عامة حيث تلوح علامات التفكك الاجتماعي وتتعمق هي الاخرى (الانحراف انعدام الأمن تهميش جزء متعاظم من الشعب التذر...) فاننا نعاين في العشر سنين الاخيرة بروز بوادر وعي جديد وانبثاق اشكال فذة للتضامن الاجتماعي والتعبير والمقاومة لا تمت للأشكال القديمة بشيء تعبر عن حركة مواطنية «Mouvements des citoyens» وتتوجه بالنقد الى أسس مجتمع الاستهلاك والى دلالاته وبالاخص تلك التي تدعو لليهمنة المطلقة على الكون والطبيعة مستندة على الكوارث البشرية والبيئية التي خلفتها ومازالت تخلفها. اننا نعيش بوادر وعي كوني جديد يتجاوز الاطار المخيالي الرأسمالية والفردانية المزعومة ويعود النظر في المثل والمعامر التي ورثتها المجتمعات منذ الانوار (الفرد الحقوق الدولة الامة التقدم العقلنة الهيمنة على العالم التحديد الوثوقية العالمية التنمية مفهوم الديمقراطية النيبرالي...).
ان الرهان اليوم يشمل كامل البشرية ولا يتوقف على شعب أو أمة. ان هذه الحركة الكونية الجديدة تقطع مع «الانتاجوية» و «التسلط» و «الهيمنة وتعيد الاعتبار لدلالة الاوتونوميا والاستقلال الذاتي فالمخيال الجذري الذي كبلته عقود من الدعاية النيوليبرالية والاستهلاكية يتحرر شيئا فشيئا ليصيغ الجديد والفذ والمغاير، كما فعل ذلك اكثر من مرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.