في أوضاع مقرونة بأزمات خانقة طالت الحقول الاجتماعية والاقتصادية والأمنية، ارتفعت وتيرة العمليات الارهابية وتوسعت معها برك الدماء وانتشرت في مختلف ارجاء البلاد كل انواع الاسلحة والمتفجرات، مازالت حكومة ما تبقى من «الترويكا» بقيادة حركة النهضة متمترسة في سدة الحكم ومتغلغلة في مفاصل الدولة. جفاف العام الثالث فحكم الترويكا الذي ناهز العام الثالث لم يخلف وراءه غير المصاعب والمصائب الى درجة اختنق فيها المواطن واصيب بضيق التنفس بما خلق لدى قطاعات واسعة داخله حركات احتجاجية استلهمت تسمياتها من الحالة التي تعيش «خنقتونا». فالشباب الذي حطم جدران الخوف وقاوم الديكتاتورية بصدور عالية من اجل الشغل والكرامة، وجد نفسه بُعيد 32 اكتوبر عرض البحر يواجه الموت المحتوم باحلام الهجرة المتداعية، حيث ازداد وضعه سوءا وارتفعت نسب بطالته لتناهز اليوم المليون. وقد رافقت هذه الاوضاع البائسة انتشار ظواهر الفساد والرشوة والشغل بالولاء والرفاه باللحي فلم يجد بعض الشباب من الامكانيات لمواجهتها غير السقوط في أتون الجريمة والسرقة والمخدرات واحيانا «الرذيلة» المفروضة تحت ضنك الحياة وتداعي منظومة الحياء. ومقابل ذلك تعددت مسالك التجارة الموازية واساليب التهريب في المواد الغذائية والمواد الكيميائية وبخاصة الاسلحة التي تكدست بين ايادي الارهابيين الملطخة بدماء التونسيين والذين متعهم حكم الترويكا بالعفو التشريعي العام! وهذه الاوضاع لم تنعكس سلبا فقط على الاوضاع المعيشية للمواطنين، بل ضربت في العمق الحركية الاقتصادية والتجارية خاصة لدى المؤسسات الصغرى والمتوسطة التي لم تتعاف من تبعات ما لحقها فترة الثورة من المتداعيات والصعوبات حيث ارتفعت اصوات الاعراف ورجال الاعمال بعد ان طال أنينهم وخوفهم من بطش حكامهم الذين سلطوا عليهم سيوف تحجير السفر وتهم والمال الفاسد واستغلال النفوذ وغيرها من التهم التي نالت من عزائمهم وكبدتهم خسائر مالية هامة كانت تدفع سرا لكسب الرضا احيانا وتفادي التهم الباطلة والتتبعات العدلية احيانا اخرى. وبالمحصلة انخرطت منظمتهم على غير عادتها في خيارات الثورة ومناهج نضالات المجتمع المدني الضاربة في القدم. الشغالون وجزاء السنمار ولم يكن جزاء الاتحاد العام التونسي للشغل خارج من يتمتع به دائما «السنمار» رغم دوره في الحراك الثوري منذ 71 ديسمبر 0102 ورغم نضالاته الجماهيرية في تصحيح المسارات وتثبيت أسس الانتقال الديمقراطي. هذه المنظمة الاجتماعية العتيدة القوا امام مقراتها القمامة وقاموا باحراق بعضها والاعتداء على كوادرها ومناضليها حتى ان الدماء قد سالت في بطحاء محمد علي يوم 4 ديسمبر بعد ان وقع الاتحاد مع الحكومة صباح ذلك اليوم اتفاق الزيادات في الاجور. حكومة الترويكا عملت منذ وصولها الى الحكم على تدمير مؤسسات الدولة وتفكيك المجموعات الضاغطة في نسيج المجتمع المدني، بدءا بالاتحاد العام التونسي للشغل فالاعلاميين والمحامين والقضاة ثم رجال الفكر والابداع، وكانت وتيرة عنف «الدولة» ترتفع يوما بعد يوم من الرش في سليانة الى قمع المتظاهرين يوم 9 افريل والاستعمال المكثف للعنف في وقت كان الجميع يعمل على ان يكون لتونس امنا جمهوريا. لكن يبدو ان نتائج الثورة وافرازاتها والتي استطاعت ان تغير نظرة الرأي العام للأمن لم تمكن المؤسسة الامنية الى حد الآن من تأهيل ذاتها تأهيلا علميا وحداثيا وحضاريا في التعامل مع الشعب طبقا للقانون. هذه الثغرات والفراغات تسربت منها يد الغدر والخيانة لتغتال الشهيد شكري بلعيد زعيم الوطد الموحد والجبهة الشعبية يوم 4 فيفري 3102، كما تم تحويل هذه الثغرات الى مسالك ارهابية منظمة في الروحية وبئر علي بن خليفة وتطاوين ثم تتغلغل داخل المدن في المنيهلة وحي الغزالة والوردية وسوسة ومدن الشمال الغربي لتكرر عملية الفر والكر في جبال الشعانبي بولاية القصرين المتاخمة لحدود برية طويلة مع الجزائر التي استنفرت قوتها استنفارا كبيرا بوضع نحو 6 آلاف جندي على هذه الحدود ايمانا منها من ان الارهاب لن ينال من تونس فحسب بل يمكن ان يتسرب اليها وهي التي اكتوت بنيرانه وتألمت من جراحاته على مدار اكثر من عقد. ولئن اعلنت حكومة حمادي الجبالي عن فشلها وحلها ليلة استشهاد الزعيم المعارض شكري بلعيد وعبرت عن الرغية في تشكيل حكومة التكنوقراط، الا ان النهضة واتباعها سرعان ما التفوا على دماء الشهيد الذي ودعه يوم جنازته زهاء ربع سكان تونس وعادوا من جديد الى رئاسة الحكومة بزعامة السيد علي العريض الذي عرفت بلادنا فترة قيادته لوزارة الداخلية اكبر موجات العنف. والتي لم تتوقف عند توليه رئاسة الحكومة حيث نالت يد الغدر من دم الشهيد محمد البراهمي زعيم التيار الشعبي والقيادي بالجبهة الشعبية. الشعب لا يلدغ مرتين هذه الجريمة النكراء جعلت الشعب التونسي ومن ورائه القوى الحية من مجتمعين سياسي ومدني يقول «لا يلدغ المرء من جحره مرتين» فالتحمت نضالات القوى الديمقراطية باندفاع جارف من القوى الشعبية وبخاصة بعد استقالة اعضاء المجلس الوطني التأسيسي الذين ضاقوا ذرعا بممارسات النهضة واساليبها الملتوية في التعاطي مع كل الذين يختلفون معها في الرأي وذلك بهدف تأكيد نظرية شيخهم التي بشر بها الشعب التونسي وهي »«التدافع الاجتماعي» الذي غذته صراعات واهية ارتطمت بقضية الهوية أولا ثم بالايمان والالحاد ثانيا وأخيرا بانصار الشرعية مقابل «الانقلابيين». وقد تجسد سعي النهضة الى تقسيم المجتمع منذ تشكيل الحكومة، حيث انحصر التحالف في مرحلة انتقالية على ثلاثة مكونات في حين كانت اللحظة التاريخية تستوجب وفاقا وطنيا واسعا توظف فيه كل الجهود والطاقات الوطنية من اجل صياغة دستور يؤسس لنظام سياسي ديمقراطي ويضمن للدولة مدنيتها وللتداول على السلطة سلميا. لكن تعدد الخطابات والتنكر للوعود والاتفاقيات والمماطلة وربح الوقت، قد ساهم في تسييج مساحة المناورة على حركة النهضة التي لم تفعل بحكمها على النجاج الباهر الا بتعميق الفشل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والامني وتعبئة الرأي العام حول القوي الديمقراطية والتقدمية التي قلصت من المسافات التي كانت تفصل بين حلقاتها، حيث تدعم اداء الجبهة الشعبية وتوسعت دائرة نداء تونس لتتحول الى الاتحاد من اجل تونس، ثم يتقارب هذان القطبان مع حركات ناشئة مثل التحالف الديمقراطي بقيادة الوجه النقابي محمد الحامدي وحزب المجد بقيادة عبد الوهاب الهاني وكذلك حزب المبادرة بقيادة كمال مرجان وذلك حول البدائل المطروحة لمعالجة الازمة الراهنة. القاطرة لا تخرج عن السكة أما عل صعيد نسيج المجتمع المدني فقد ظلت اكبر العربات في تماسك متين مع العربة (الاتحاد العام التونسي للشغل) الذي تماهى في مواقفه مع اتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية والهيئة الوطنية للمحامين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ومن ورائها اغلب مكونات المجتمع المدني والحركات الاحتجاجية لتصنع ربيعا في قمة الحرّ وعلى مقربة من نافورة باردو حتى تتعطل عجلات المجلس الوطني التأسيسي عن الدوران، رغم ارتفاع حدة الاصوات المتعالية من مبنى «مونبليزير» واصوات الساكنين في «قصر القصبة» اصوات جددت تشبثها بكرسي الحكم، كما جددت تمسكها بالخيوط «الحمراء» له، وذلك في تماه مذهل مع رمزية الدماء التي سالت في المنزه وفي برج الوزير وفي الشعانبي، حيث تم التنكيل برجال جيشينا البواسل والاشاوس. وقد بينت المعطيات على أرض الواقع وتيرة العنف والارهاب ترتفع كلما اشتدت الازمة السياسية في الحكم، وكأن هناك اياد وراء برك الدم التي تفتح والعمليات الارهابية التي تندلع من اجل صرف اهتمام الرأي العام عن مآسيه وأوجاعه الى درجة تساءل من خلالها أحد المراقبين قائلا «ألا تمثل الحالة الدرامية التي تعيشها تونس أرضية خصبة لنجاح حركة النهضة وتيارات الاسلام السياسي المسنودة من قبل التنظيم الدولي للاخوان والولايات المتحدةالامريكية مضيفا «لماذا تتولى الحركات الديمقراطية والمدنية اسقاط رؤاها ومناهج تحاليلها الحداثية على منظومة موغلة في القدامة والميتافيزيقا؟ انسداد أفق النهضة وبالمحصلة، فإن المعطيات على الارض اليوم، لا تؤشر على وجود حل سياسي تتبعه حزمة من الحلول خلال المرحلة الانتقالية الثانية وذلك بالرجوع الى أمرين اساسيين : أولا : خطاب حركة النهضة وممثليها في الحكومة والمقرون بالخطوط الحمراء المسيحية للمجلس التأسيسي والحكومة الممثلة في السيد علي العريض. ثانيا : استمرار النهضة وحليفها الازلي المؤتمر من اجل الجمهورية على توظيف كل طاقاتها الحزبية وامكانيات الدولة للضغط على المعارضة واستنزاف الشارع بعد استنفاره من كل أرجاء البلاد مثلما وقع يوم السبت الماضي بالقصبة حيث ناهز عدد الحاضرين حسب المصادر الامنية 09 ألف في حين قالت النهضة ان العدد بلغ 003 ألف! من 3 الى 6 أوت معركة الشارع والشرعية ولئن ستبقى ورقة الشارع مرتبطة بموعد 6 أوت الجاري، حيث ستحتشد جماهير الشعب المفعمة بالديمقراطية وبالقيم الحداثية من اجل استحضار مرور 6 اشهر على استشهاد زعيم الحركة الديمقراطية شكري بلعيد لتعكس صورة من صور احتلال التوازن الشعبي والجماهيري، لأن حركة النهضة لم تدرك الى حد الآن ان جماهيريتها قد تقلصت وارن صورتها قد اهتزت لدى الرأي العام الوطني والدولي رغم عملية صبر الآراء التي قامت بها شركة بريطانية والتي حددت حضور النهضة داخل المجتمع بنسبة لم تتعد 21٪ فقط. عزلة الشيوخ متواصلة ومهما يكن من امر، فإن حركة النهضة تعيش عزلة اجتماعية وسياسية لم تعرفها من قبل وحتى حلفائها لم يسلموا من سطوتها وبطشها، حيث تقلص عدد نواب حزب التكتل اضافة الى ما عرفه من «عمليت هجرة سرية» «وأخرى علنية» الى احزاب اخرى، حيث غدا هذا الحزب بمثابة الهيكل العظمي الذي اكلت النهضة شحمه وشربت دمه. اما حزب المؤتمر من اجل الجمهورية والذي بات مثل جزئيات القارورة البلورية التي سقطت من أعلى الرفوف لتقع على أرض غير مفروشة بالزرابي. هذا الحزب الذي وصل بقدرة قادر الى الرئاسة عاش حالة من «الافراق» حركة وفاء بقيادة عبد الرؤوف العيادي المساند القوى للنهضة والتيارات الديمقرطية بقيادة محمد عبو والذي وضع قدما مع القوى الديمقراطية واخرى مع التحالف الحاكم وحزب عم الطاهر خميلة الذي لا يعرف تسميته أحد الى حدود هذا اليوم. حزب المؤتمر تخلى رئيسه ومؤسسه عن مبادئ حقوق الانسان والقيم الكونية السامية فسحبت منه الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان رئاستها الشرفية ولم يبق امامه غير التقاط ما تبقى من فتات الاصالة البرنصية ورد السلام ثلاثا على منهج السلف الصالح ومقابلة «ريكوبا» وما شابهه من رموز العنف والارهاب من روابط حماية الثورة. رئيسنا الموقر لم يطل علينا ليلة استشهاد الحاج محمد البراهمي ولم يقدر على صياغة خطاب رجل الدولة ورمزها عندما نكل الارهابيون برجال الجيش وهو رئيس اركان هذه المؤسسة العتيدة، فهل سيطل على شعبه اثناء الحملة الانتخابية الرئاسية القادمة وبأي زي سنراه مستقبلا رحم ا& أبا هريرة لقد كان الماء يجري لا يعرف له مستقرا هكذا قال المسعدي في حدث أبو هريرة قال، لكن الكلام اقتصر في حنجرة رئيسنا الموقر ليرتفع صوت الشعب في ميدان باردو وفي شوارع مدن الجمهورية من شمالها الى جنوبها «ارحل» «egagéD». إن حركة النهضة والى حدود هذه اللحظة قد برزت وكأنها تعيش في كوكب دُري لم ينزل بعد من السماء ليتعاطى مع واقعات الواقع المتفجر في كل ركن وفي كل شارع وفي كل مدينة وقرية، حركة مازالت تعتقد وهما انها ممثلة للشعب وان الشعب لن يتخلى عنها خاصة امام ما ابدته من جشع لا يرفض اسناد بعض الحقائب للمعارضة مقابل سكوتها والتخلي عن مطالبها حركة النهضة لا تبدو عاجزة فقط على قراءة الواقع الراهن بل قاصرة قصورا تاما علىاستشراف حركة التاريخ والمجتمع ما بعد 6 أوت الجاري حيث من المتوقع ان يرتفع لهيب حرارة الشارع باتجاه اعلان العصيان المدني. فهل ستقتل حركة النهضة الشعب بكامله حتى ينام جفنها على كرسي الحكم الوثير أم انها ستتخلى مرحليا عن كوامن فشلها في الحكم والانطلاق للإعداد للوصول اليه مجددا؟ تبدو الاجابة في كلتا الحالتين مقرونة بالاستحالة رغم الاستحالة لم تعد مصطلحا تونسيا بعد 41 جانفي عندما اراد الشعب الحياة ورحّل اعداء الحياة قصرا.