ربما لم تخطر ببال القاتل لحظة واحدة، حين عضّ على نواذجه وأطلق النار بحقد، أنه لا يصوّب في تلك اللحظة ليقتل رجلا، بل هو يصوّب ليقلب أوضاع البلاد والمنطقة بأسرها، وليفتح الباب على كثير من المجهول الذي فاق حتى تصوّرات من خطّطوا وأمروا وأعدّوا ونفّذوا. فهذه العملية لم تكن عادية بالمرّة، وتبعاتها وما انجرّ عنها لاحقا، قد يكون تجاوز بكثير العقل المدبّر لها، بل قد تكون من أشدّ العمليات فتكا في التاريخ ضدّ منفّذها وليس ضدّ ضحيتها. وبعيدا عن تفاصيل الواقعة، التي غاصت فيها كل وسائل الاعلام بالشرح والتبسيط والاتيان على أدقّ التفاصيل، والتي أذهلت أيضا الرأي العام الوطني، الذي يقف مشدوها لأول مرة أمام اغتيال سياسي بدم بارد وحرفية في وضح النهار، وأذهلت ايضا وزارة الداخلية التي وجدت نفسها بعد ستة أشهر، عاجزة وتدور في نفق مظلم ولا تملك من المعطيات الا ما يمكن تصنيفه في باب التخمينات والافتراضات ليس أكثر. فهذه العملية، التي أراد منفّذوها من وراءها تحقيق عدة غايات، لعلّ أبرزها: -اسكات صوت أزعجهم وآلمهم كثيرا، لأنه يكشف سوءاتهم مباشرة، ولأني يسمّيهم بأسمائهم، ولأنه لا يخشاهم، بل ويعرف مخططاتهم، ويعرف حتى نيّتهم في اغتياله، ويعرف أيضا ما يفكّرون ويخططّون لانشائه في قادم الايام، ويفضح تآمرهم، ويقول رايه في وسائل الاعلام بلا خوف ولا وجل. -ضرب توجّه معيّن كان يسعى بجدية فائقة لتنظيم الجبهة الشعبية ورصّ صفوفها لتصبح القوة الاكبر في البلاد، ولتصبح بالفعل قادرة على منافسة الجميع وهزم الجميع ايضا في الانتخابات. -قتل نفس تقدّمي كان يرنو الى تونس حرّة مستقلة ذات سيادة ومدنية وديمقراطية وحداثية تقوم على حقوق الانسان والعدالة الاجتماعية وتسودها قيم التسامح والتعايش والاخاء. لكن الذي حدث، أنه لم يسكتوا شكري بلعيد، بل جلبوا على أنفسهم وعلى المنطقة رياحا سرسرا، لن يقدروا هم ولا من يقف وراءهم على التصدّي لها واعتراض مسارها، الذي عبّده الشهيد بدمائه الزكية. فما يحدث اليوم، ومنذ ستة أشهر، في تونس والمنطقة العربية، هو ارتداد طبيعي لزلزال الاغتيال، وهو أيضا نتاج حتمي لمقتل لمقتل الرجل الذي ال لا لمشاريع الهيمنة والاستقواء بالاجنبي ولمشاريع بيع الوطن ولأوهام الخلافة ونبوءات العصر الحجري، والذي قال لا لمصادرة الرأي باسم الدين والاستيلاء على رقاب الشعب باسم شرعية زائفة، والتحكم في مصائر الخلق باسم تعاليم الخالق. لم يكن قاتل شكري بلعيد يعلم بالتأكيد، أنه يسدّد ضربة قاسية لأسياده الذين كلّفوه بالمهمة، أو ربّما الذين تطوّع للقيام بها خدمة لهم، أنه سيجلب عليهم وبالا لا طاقة لهم على مقاومته، وسيحلّ بهم لعنة لن يخفت صوتها حتى رحيلهم. فالرجل الذي اغتيل يوم 6 فيفري الفارط، وضع بمقتله بداية النهاية لمشروع الاسلام السياسي في المنطقة، ودقّ أول مسمار في نعش من كانوا يتصوّرون أن لحظة الانقضاض على مصائر الشعوب قد حانت ولن يفرّطوا فيها، وأن التاريخ قد أعطاهم فرصتهم أخيرا كي يتمتّعوا بالجنة الموعودة على رقاب البشر وعلى حساب الوطن. لكن مقتل شكري سفّه أحلامهم، وكشفهم عن حقيقتهم، بل وعجلّ بنهايتهم، وكي لا نُتّهم بالمبالغة، فسنحاول استعراض أهم ما حصل من يوم استشهاده الى الساعة الحاضرة، في محاولة لاستقراء تبعات هذه الكارثة التي حلّت بتونس والمنطقة العربية، وما أفرزته عملية الاغتيال من تبدّل في المواقف الدولية والوطنية من المشروع الذي كان يحظى بمباركة ودعم من الراعي الأمريكي الغربي والمموّل العربي الخليجي، والصمت الشعبي التونسي، وإذا به يتحوّل في يوم وليلة إلى مشروع منبوذ، ويُعامل بريبة، ويُنظر إليه بتوجّس وحذر، وانقطعت عنه إمدادات المال والدعم، ووصل إلى مرحلة الاختناق، ويقف الآن أمام صرخة شعبية تناديه أن يرحل. بداية حلول اللعنات، كانت على قطر، تلك الدولة الخليجية الثرية، التي وقفت بكل قوتها وراء المشروع الاسلامي وسوّقته في الغرب، وأعطت ضمانتها كلّها من أجل أن يحظى هذا المشروع بالقبول، بل أعطت رشاوى لا يعلمها الا الله، لعواصم الغرب حتى تغضّ الطرف عن الوافد الجديد على عالم من السلطة كان يعتقد أنه سهل المنال. واللعنة التي أصابت قطر منذ مقتل بلعيد، تمثّلت في سقوط كل ضمانتها في هؤلاء، وسقوط كل الاقنعة عن وجوههم التي حاولت الدوحة تجميلها بالمساحيق، فانكشفوا أمام عواصم الغرب، التي كانت تدعمهم وتنتظر، وكانت تأمل أن يكونوا ربّما يدها في المنطقة، أو حتى كانت تتخيّل أنهم يستحقون فرصة تجريب الحكم مثل غيرهم، لكن مقتل شكري بلعيد أصابهم وأصاب قطر ومشروعها في مقتل، وانقلبت عليها الطاولة، ودفعت الثمن غاليا جدا، ولم يكن بأقل من رأس أميرها حمد، الذي انتهى سياسيا وأخلاقيا منذ مقتل الشهيد شكري بلعيد، ولم يُذكر له خبر الى أن غادر رسميا قصر الإمارة الى منفاه الأخير. أما ثاني اللعنات فقد أصابت القلب من الحركة الاخوانية، ودمّرته بلا شفقة، قلب المشروع العالمي للإخوان المسلمين، القاهرة، حيث تبدّدت أحلامهم، وذهبت مشاريعهم تذروها رياح الجماهير التي عصفت بهم في الثلاثين من الشهر الفارط، وأصبحوا بينة ليلة وضحاها في السجون والمعتقلات بعد أن نعموا قليلا بقصور السلطة وأبّهتها التي لم يمكّنهم عقلهم الإجرامي الكامن في داخلهم، من المحافظة عليها طويلا، وانساقوا مباشرة إلى أهواء الانتقام والأحقاد والجوع الى السلطة والمال، فذهبت ريحهم الى غير رجعة، ولن تقوم لهم في أرض الكنانة قائمة الى يوم الدين. اللعنة الثالثة، أصابت بلا شكّ المترددين والمسالمين والمهادنين للمشروع الاخواني، والطامعين في بقايا مقعد، أو نواة من تمر وليمة السلطة، أو حتى برضاء الحاكم الجديد، والمتشدّقين بالتغيير، وبإعطاء الفرصة، وبالتغاضي عن أخطاء قلّة الخبرة، والمتفاخرين بعدد سنوات السجن، والهائمين في خيالات المرض الفكري الذي أعمى أبصارهم، وأغشى بصيرتهم، وبقوا في ذلك المربّع الضيق من عدم الوضوح وعدم الحسم، فأتت عليهم جريمة اغتيال الشهيد شكري بلعيد، لتزعزع كل قناعاتهم، ولتضرب في الصميم كل ما حاولا بنائه من زيف وبهتان، ووضعتهم عرايا أمام أخطبوط القتل والإرهاب والجريمة المنظمة، وطاعون الحقد والتعصّب والتطرّف، وجعلتهم يختارون الطريق الواضحة الفاضحة، وكشفت أيضا المتخاذلين والمتحاذقين والباحثين عن السلامة والنجاة، والمتمترسين بالحياد والنأي بالنفس. فمقتل شكري بلعيد لم يكن بالامر الهيّن، ولا هو حادثة اغتيال سياسي مرّت مرور الكرام، بل هي فعلا فاجعة هزّت تونس وغيّرت وجه العالم، وقلبت كثيرا من المعادلات واسقطت كثيرا من شبه المسلّمات، بل أعادت خربطة كلّ الحسابات، وفتحت جبهات جديدة وعديدة، قد يكون لها ما بعدها، لكن لها بالتأكيد حاضرها، وهو اختلاط الوراق وانقلاب الطاولة على راس من كان يعتقد أنه باغتيال الشهيد بلعيد، سوف يسكت صوتا معارضا، واذا به يفتح باب جهنم في وجهه، ويتلظّى بنار لن تخفت حتى تأتي عليه، وعلى كل أحلامه وأوهامه.