سبعينية هي أو ربما أكبر بقليل، قد يكون عمرها، أقلّ بكثير مما تبدو عليه، جسدها نحيف، نحيف جدا، ترتدي بنطلون جيينز يبدو نشازا قياسا الى نحافتها وعمرها، وايضا ترتدي بذات النشاز حذاء رياضيا كان أبيض اللون ذات يوم، تلتف بشال لونه بسواد أيامها وتغادر دكانا حقيرا في احد الأزقة اتخذته ملاذا بعد ان ضاقت بها سبل العيش، مسكنها هذا الدكان تتقاسمه مع الفئران والعثة والرطوبة وصراخ سكارى اخر الليل زادها فيه حشية مهترئة وبعض الاواني لجلب الماء من بعض المباني المجاورة ماء بالكاد يكفي لغسل الوجه والشراب، لا كهرباء فذاك رفاه مرفوض، شمعة مشعّة ومقتصدة تشعلها كلما عادت، تشعلها لبعض الوقت ثم تنام سريعا لتستفيق سريعا، إنها «زهرة» ملتقطة القوارير التي لم تجد غير ملاحقة القوارير البلاستيكية الفارغة لتجمعها ثم تبيعها سعيا الى البقاء على قيد الحياة تدور زهرة وتدور، تغازل كل الشوارع وكل الأزقة وتتشمم في حركة غادرت معها بشريتها، مزابل كل المقاهي والمنتزهات غايتها القوارير البلاستيكية، قوارير ماء، مشروبات صغيرة، كبيرة، لا يهم. المهم ان تملأ ذاك الكيس الأسود الكبير على ظهرها وتذهب لإفراغه لدى من يشتري المحصول بحساب الكلغرام، تجوع زهرة... تقف تفكر طويلا ثم تقدم على ولوج محل عطارة تشتري نصف خبزة وقطعة جبن تأكلهما وهي تتكئ على كيسها وتحمد رب السماء ثم تعاود رحلة الدوران، لا تخلف موعدها مع شارع ولا زاوية، وأبدا لا تمهل عينيها ما يتناثر من مخلفات البشر القارورية، تساهم هذه «الزهرة» في تنقية أجوائنا واراحتنا من الفضلات، تساهم في «جودة الحياة» و «حماية البيئة» وتصادق لبيب وترتزق بما يتيسر! ما الذي يتيسر! تجوب الارصفة والمعبدات طيلة اليوم من اجل ماذا... من أجل ثلاثة دنانير وربما أربعة اذا أعانها كل ابناء الحي وجمعوا لها قوارير ما يستهلكونه من ماء طيلة الاسبوع... ماذا تعمل هذه المرأة، كيف تتداوى وهي التي بلغت السبعين واكثر، كيف تعيش وهي لا تعيش بدون ماء ولا كهرباء ولا مرحاض، كيف تقاوم الانحناء وهي تكاد تسقط إعياء وإملاقا... انه العمل في القطاعات غير المنظمة الذي أنشأه انخرام التوازن في تركيبة القوة العاملة في العالم منذ التسعينات بسبب انحسار القطاع العام. اليس كذلك، إنه هذا النظام الذي أفرز تسريح العمال وأباح جوع اطفالهم، انه هذا النظام الذي جاء بالمناولة في شكل نخاسة جديدة، انه النظام الذي حوّل عالمنا الى مؤسسة كبرى من لا يجاري أحصنتها يموت قاعدا وجائعا، لن يتعلم، لن يتداوى، ولن يأكل ولن يحلم ولن يحب طبعا وسيعب الهواء سريعا ويتواتر قبل ان تفرض على الاكسجين ضريبة الاستهلاك، اي نظام هذا الذي تجوع فيه الامهات او تضطرهن الظروف لملاحقة القوارير، وكنا نتمنى ان يكون ذلك من اجل لقمة شريفة ولكنها لقمة مغمّسة بالحرمان من أبسط شروط الكرامة الانسانية، كم كنا سنسعد لو ان جمع فوائض استهلاكنا من المعلبات البلاستيكية تقوم به هياكل حكومية او خاصة تراعي حرمة الكائن البشري وتمنحه حقه المشروع في ان يتوازى «الشقاء مع اللُقمْ» ولكن «زهرة» لا تلقى مع الشقاء الا عُشْرَ لقمة ولا شيء اخر سوى العطش والظلام... انها إفرازات العولمة يا صديقي... افرازاتها التي تزيد في عدد اليخوت وتقلّص في عدد اللقيمات...! إنها العولمة التي جاءت بقطاعات العمل الهشة والهامشية وغير المنظمة والمجوّعة، انها العولمة يا صديقي التي عولمت «زهرة» الى حدّ النخاع فسلبتها الموت بكرامة وأبقتها على قيد الحياة بذلّ وعناء... إنها العولمة يا صديقي التي رفعت زهرة الى مصاف اصحاب المشاريع الخاصة وجعلتها سيدة نفسها فهي المتحكمة في قوتها الانتاجية ان شاءت رفعتها وان شاءت خفّضتها... وان شاءت أعدمتها... وهي حرة ساعتها كحرية الاقتصاد في ان تموت جوعا أو تموت جوعا.