استقالة متحدثة من الخارجية الأميركية احتجاجا على حرب غزة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    لدى لقائه فتحي النوري.. سعيد يؤكد ان معاملاتنا مع المؤسسات المالية العالمية لابد ان يتنزل في اختياراتنا الوطنية    ماذا في لقاء سعيد برئيسة اللجنة الوطنية الصلح الجزائي..؟    أخبار المال والأعمال    سليانة .. رئس الاتحاد الجهوي للفلاحة ...الثروة الغابية تقضي على البطالة وتجلب العملة الصعبة    وزير السّياحة: تشجيع الاستثمار و دفع نسق إحداث المشاريع الكبرى في المجال السّياحي    «الشروق» ترصد فاجعة قُبالة سواحل المنستير والمهدية انتشال 5 جُثث، إنقاذ 5 بحّارة والبحث عن مفقود    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    زيتونة.. لهذه الاسباب تم التحري مع الممثل القانوني لإذاعة ومقدمة برنامج    اليابان تُجْهِزُ على حلم قطر في بلوغ أولمبياد باريس    سوسة.. دعوة المتضررين من عمليات "براكاجات" الى التوجه لإقليم الأمن للتعرّف على المعتدين    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    بالثقافة والفن والرياضة والجامعة...التطبيع... استعمار ناعم    حركة النهضة تصدر بيان هام..    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    جندوبة.. المجلس الجهوي للسياحة يقر جملة من الإجراءات    تراجع الاستثمارات المصرح بها في القطاع الصناعي    منوبة.. الإطاحة بمجرم خطير حَوّلَ وجهة انثى بالقوة    برنامج الجولة الأولى إياب لبطولة الرابطة الاولى لمحموعة التتويج    اقتحام منزل وإطلاق النار على سكّانه في زرمدين: القبض على الفاعل الرئيسي    قبلي: السيطرة على حريق نشب بمقر مؤسسة لتكييف وتعليب التمور    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    من بينهم أجنبي: تفكيك شبكتين لترويج المخدرات وايقاف 11 شخص في هذه الجهة    البطلة التونسية أميمة البديوي تحرز الذهب في مصر    مارث: افتتاح ملتقى مارث الدولي للفنون التشكيلية    تحذير من هذه المادة الخطيرة التي تستخدم في صناعة المشروبات الغازية    كرة اليد: الترجي في نهائي بطولة افريقيا للاندية الحائزة على الكؤوس    وزيرة التربية : يجب وضع إستراتيجية ناجعة لتأمين الامتحانات الوطنية    وزارة التعليم العالي: تونس تحتل المرتبة الثانية عربيًّا من حيث عدد الباحثين    سليانة: أسعار الأضاحي بين 800 دينار إلى 1100 دينار    الرئيس الفرنسي : '' أوروبا اليوم فانية و قد تموت ''    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    باجة: تهاطل الامطار وانخفاض درجات الحرارة سيحسن وضع 30 بالمائة من مساحات الحبوب    وزير الشباب والرياضة يستقبل اعضاء فريق مولدية بوسالم    الڨصرين: حجز كمية من المخدرات والإحتفاظ ب 4 أشخاص    قيس سعيّد يتسلّم أوراق اعتماد عبد العزيز محمد عبد الله العيد، سفير البحرين    الحمامات: وفاة شخص في اصطدام سيّارة بدرّاجة ناريّة    أنس جابر تستهل اليوم المشوار في بطولة مدريد للماسترز    التونسي يُبذّر يوميا 12بالمئة من ميزانية غذائه..خبير يوضح    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 25 أفريل 2024    كاس رابطة ابطال افريقيا (اياب نصف النهائي- صان داونز -الترجي الرياضي) : الترجي على مرمى 90 دقيقة من النهائي    سفينة حربية يونانية تعترض سبيل طائرتين مسيرتين للحوثيين في البحر الأحمر..#خبر_عاجل    هام/ بشرى سارة للمواطنين..    لا ترميه ... فوائد مدهشة ''لقشور'' البيض    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    الجزائر: هزة أرضية في تيزي وزو    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل أصبح الوسيط هو الرسالة؟
في معنى النقد الفني: بقلم: محمد بن حمودة
نشر في الشعب يوم 28 - 04 - 2007

تصدير : أعاد الفنان التشكيلي والناقد عمر الغدامسي نشر مقال يتهمني فيه بانتحال صفة النقد وبالجهوية ( بعد أن كان نشره حرفيا في جريدة القدس بتاريخ 27 مارس وقد قمت بالرد بتاريخ 14 أفريل وردّ الصديق نزار يوم 2 منه). وهو ما يدعو للتساؤل عن الحكمة من تكرار نشر النص. خاصة وأنني حاولت أن أجيب على تساؤلاته بما يربط المسألة بالتباين الحاصل على مستوى طبيعة المنابر : من جهة المنبر الجامعي والكتاب ومن جهة أخرى المنبر الصحفي. ومع ذلك، فقد ذكّرت بأنّه لا بد لعمر ولأضرابه أن يعلموا أن رهاننا واحد وحيد مهما تعددت الاختصاصات والمجالات، ألا وهو الحداثة. وأضيف هاهنا أنه لا حداثة خارج دور مركزي يعود للكتاب. وللوعي بذلك يكفي أن ننتبه كيف أنّ الانترنيت هو الآن بصدد إفساد ما أسسته المطبعة غربيا طوال قرون. ولعله إذا كان كافيا للمجتمع الغربي أن يكتشف المطبعة ليوسم بالمجتمع الطباعي، فذلك لأنه على هذه القاعدة أمكن تحويل الكتاب إلى نص، وبالتالي أمكن استكمال تحويل ما يسميه ستراوس 'الفكر البري' إلى فكر مشكّل بالنصوص ويتم تحيينه دوريا من خلال النصوص.
ومنذ ذلك الحين ترسخ الفرق الذي تحدث عنه الجابري بين مدلول مصطلح 'الإصلاح' في العربية ومدلول réforme في الفرنسية مثلا. وهكذا، يقول الجابري، «فمعنى réforme التي تقابل 'إصلاح' في لغتنا العربية، هو 'إعادة تشكيل' أو 'إعطاء صورة أخرى للشيء'. والمرجع الفلسفي لدى الفكر الأوربي في هذا المعنى هو ذلك الفصل الحاسم الذي تقيمه الفلسفة اليونانية أرسطو بصفة خاصة بين 'المادة' و'الصورة' في الموجودات الأرضية.» 1 وفعلا، فإنه في الوقت الذي كانت فيه كلّ مكونات وشروط إمكان الكتاب تحفز على المقاربة الفكرية، فإنّ الأنترنت، بوصفها الصيغة القصوية التي انتهى إليها الوسيط الصحفي، تدفع بعيدا عملية الخلط بين المعلومة والفكرة. وها نحن في عصر أصبحت فيه الأفكار نادرة وذلك بمقدار شيوع وذيوع المعلومات. ومنه شيوع العلاقات الخارجية بالأشياء والمسائل وتراجع مساحة العلاقة العضوية والداخلية بها. إذ المعلومة لا تعدو أن تكون خبرا، أما الفكرة فهي قيمة ووجهة ومحصلة وموقف ينزع البداهات ويربط المسائل بالاختيار.
يوم السبت الماضي، شاهدت 'آخر فيلم' للنوري بوزيد، وكان رد فعلي وأنا أشاهد اعتماده طريقة كسر نسق الفيلم ليعيد صياغة بروتوكول المشاهدة، بأنه يصدر عن مبدأ واقع يعي أولا، بأن المشاهد العربي لا يُؤطر مشاهدته للأشرطة بعملية قرائية تقوم بتوسيع دائرة مقبوليتها، وثانيا، بأن النقد الصحفي يقف عند الانطباعات التي لا تعيد تشكيل الفهم والذائقة. وفعلا، ما إن انتهى عرض الفيلم حتى سارعت ابنتي ذات الإثنى عشرة ربيعا تسألني عن ذلك الفاصل : هل هو صادق أم مُفتعل؟ وقد أحبتها بما مفاده أن المخرج اضطر إلى ضرب من التعليمية لعدم اطمئنانه إلى توفر شروط المقروئية. فما هي شروط الأخيرة؟ أهمها وجود سياق فكري يسمح بممارسة الفكر لخصوصيته، ألا وهي قدرته على الإحاطة بموضوعه. وهو شرط لا يقدر عليه إلا الكتاب ولا يستفيد منه إلا القارئ من حيث هو متوحد.
وبالعودة إلى سياقنا النقدي التشكيلي، فإنه يبدو أنّ عمر أسقط عليّ مقاربته الخارجية للمسائل فسوي في نظري منزلة خليل قويعة وفاتح بن عامر ونزار شقرون النقدية، بما أنه اختزلها إلى وحدة انتمائهم الجهوي. والحال أنه لو انتظر إلى يوم السبت 29 أفريل لاستمع إلي محاضرا بالحمامات ناقدا لخليل قويعة بسبب انتقاله لكتابة الكتب بنفس المنوال الصحفي الذي كان يكتب به مقالاته. وكما مرّ ذكره، فإنّ المقال الصحفي لا يُعيبه كثيرا غياب الفكرة والحضور الطاغي للمعلومة، أما ضمن الكتاب فإنّ هذا العيب يصبح عطبا 'قاتلا'، إن صح المجاز. كما أنّه ليس من الأكيد أنّ عمر كان مدركا لعلة صلاحية قوله بأنّ فاتح بن عامر ناقد جيّد. والواقع أنّ فاتح بن عامر يحسن المراوحة بين السجلين، بما أنه يكتب في السياق البحثي بغير الأسلوب الذي يوظفه في السياق الصحفي. وفي اعتقادي أنّ ما أحنق عمر على نزار شقرون كل ذلك الحنق الذي طفح به مقاله إلا لأن نزار شقرون ما انفك يتسافى من الحامل الصحفي ويعمق انخراطه في الشاغل الفكري والبحثي وهو سيناقش أطروحته يوم 12 ماي القادم.
مع ذلك، وبالرغم من درجة حسن الرجاء التي يغدقها الفكر على مريديه، فإنني أجدني محبطا حين أواجه حقيقة أنّ عمر قد أعاد نشر مقاله دون أن يغيّر فيه حرفا واحدا، كأنه أراد أن يقول لي : ليس الغرض هو الحوار والصراع الفكري، وإنما هو الفضح الذي لا قصد منه إلا التشنيع والتشهير ... آنذاك وجدتني أسأل نفسي : إذا كان عمر يتهمني بانتحال صفة النقد بالمعنى الحرفي لكلمة انتحال، فإن القضاء يصبح فكر من لا فكر له ... وليس في الأمر حرج، فإذا كانت تقوى الإنسان الملّي تقتضي منه مراجعة الفقهاء كلما ضاقت به السبل، فإنّ التقوى المدنية تقتضي مراجعة القاضي كلما انعدمت الوسائل...
2) عود على بدء
بنى االغدامسي حملته على الأطروحة التالية : محمد بن حموده منتحل لصفة الناقد، والمنابر الفنية العربية، من قبيل الشارقة وبينالي القاهرة، تشجع مثل هؤلاء المنتحلين للصفة النقدية. والظاهر هو أن عمر الغدامسي مطمئن تماما إلى عدم انخراطه في خانة من بيته من البلور ومع ذلك يرمي جيرانه بالحجر، بما أنه بدا واثقا أنه من غير الوارد أن يكون منتحلا للصفة النقدية: أليس هو صاحب الصفحة التشكيلية في جريدة 'الصحافة' التونسية !
جلي كيف أن الوسيط بالنسبة له هو الرسالة بما أن منطوق الكلام هو أن انفتاح صفحته التشكيلية لا يمكن أن ترقى إليه عزلة الجامعة. وبناء على هذه المقدمة المُضمرة، بما أنه تم توظيفها بشكل بديهي، ستتفرع كل النتائج الموالية. فعلى أساس هذه المقدمة كان عمر الغدامسي معروفا وكان محمد بن حموده مغمورا، وعلى أساسها أيضا كانت الصفحة التشكيلية مرجعا لا يقبل الإهمال وكان التعامل مع الجامعة والجامعيين ضرب من نقص الجدية إن لم يكن ضربا من السفاهة الغفل من كل صلاحية تذكر ...الخ. وعلى هذا الأساس بني السيد عمر اتهامه لما جرى إعداده في الشارقة بالسرّية. والحال أنه، وهو الذي يفضل جريدة ذات انتشار عربي لنشر ما لم ينشره على صفحته التشكيلية التونسية، لا يطالع ولو بالأنترنت ما كتبته صحف الشارقة عن الندوة عموما وما نقلته من مقاطع عن مداخلتي ضمنها إن كان يهمه هذا الجانب بشكل خاص. كما أنه، وفي الوقت الذي نزل فيه مقاله على ضفحات جريدة القدس، نشرت جريدة الفنون الصادرة عن المجلس الوطني للثقافة بالكويت تغطية للندوة المذكورة قام بها الدكتور صلاح صالح. وقد تحدث ضمنها عن ورقتي بأن بدأ ملاحظا «أنها تندرج في سياق فلسفة الفن وترسيخ التعامل مع الفن التشكيلي بوصفه جزءا قارا في السلسلة الثقافية العربية، والمساهمة الموازية في جعل تلقيه على الصعيد الاجتماعي جزءا أساسيا من التقاليد الاجتماعية المدينية المعاصرة، منطلقا من أن الفلسفة والنقد صنوان متلازمان».
لا سرّية إذن، ولكن السؤال هو : هل تتسع الصفحة التشكيلية التي يشرف عليها عمر لمجمل قضايا الممارسة التشكيلية؟ فإذا كانت هذه الأخيرة أوسع بكثير من صفحة تشكيلية، فإنه حتى في حال حتى لو أشرف عليها شخص واسع المقبولية ومعنيٌّ بما هو كلّي، فلن تتحوّل الجريدة إلى كتاب ولن يصبح المنبر المدني منبرا مختصا ومستنيرا. لهذا اختلف مثلا تعاملي مع الفنان سامي بن عامر عن تعامل عمر معه. فهو تحدث عنه بوصفه أمين عام اتحاد الفنانين وهو ما يستوجب منه ما أسماه الموضوعية والتي، بصرف النظر عن مدلولها الدقيق في هذا السياق، فهي تفترض حسبه حيادا على المستوى العملي مؤداه الضمني والصريح أنه لم يكن متفرغا للنقد التشكيلي. والحال، حين أتجرأ وأتخذ لهنيهة من الزمن نفسي مرجعا سألاحظ أن الفنان سامي بن عامر قام، على الأقل في مناسبتين، ليس فقط بممارسة النقد من موقع الباجث الشخصي بل وفّق أيما توفيق في تحويله إلى حركة جماعية. المناسبة الأولى عندما قام بإعداد الندوة الموازية لمهرجان المحرس للفنون التشكيلية تحت عنوان: القيم الجمالية وسوق الفن: التقاء أم تناقض؟ وقد اغتنمت من ناحيتي الفرصة البحثية المتاحة لأتمعن في ما يبيعه المصور تحديدا حين يبيع لوحة. ولأني انطلقت من ملاحظة أن الفن المعاصر برمّته معاد للصورة (منذ مانيه إلى البوب آرت، لا شيء يجمع بين التيارات التشكيلية سوى رفضها للصورة بالمعنى التشخيصي للكلمة) ولعلمي المسبق بأن اللوحة الكلاسيكية كانت تبيع الصورة- إلى حدّ أنها لا تبيعها فقط كمضمون للوحة إبداعية بل وكذلك كلوحة منسوخة- فقد اخترت عنوانا لبحثي: «أي ثمن للوحة تفتقد لعيار الصورة؟» ومن بين ما اهتديت له في هذه المناسبة التي وهبها لي سامي بن عامر كمنسق لندوة ومهرجان المحرس كصاحب منبر، أن معيار الصورة اشتغل منذ اليونان كرافعة للنظرة الحداثية العالم، وفي ذلك أقول : «فإنه ما نكاد نرفع 'معيار الصورة' إلى مقام النظرة للعالم حتى يرقى تباعا إلى مرتبة القيمة الاستطيقية التي تنجح نجاحا باهرا في تمكين الإنسان من «قيامية تستند إلى المصطنع» La survie par lartifice ونعنى بالقيامية التصور الذي يقول بالبقاء بعد الموت. والقيامية التي تستند إلى المصطنع هي التصور الذي يُخضع المجال الجنائزي لقيم الشرعية القانونية وللشرط الإنساني عموما. إذ بقي الفن إلى يوم الناس هذا ظاهرة غربية بالأساس وذلك لأن الغرب ظل هو الوحيد الذي اعتمد على الفن في مهمة بقيت حكرا على الدين والأساطير في باقي المجتمعات. وفعلا, استطاع الفن غربيا أن يتصدى للأسئلة القصوية لأنه تصدّى للمهمة الأخطر، ألا وهي دنينة الجنائزي. في المقابل، لا زال الفنانون في المجتمعات العربية الإسلامية يشاركون جميع الناس نفس المنوال الجنائزي، أي نفس الصلاة على الميت, ونفس مراسم الدفن ونفس التأبين وخاصة نفس قانون الأحوال الشخصية. إذ لم يتحول الموت في أوطاننا إلى مسألة فكرية فيخضع إلى مقاييس الفكر. ومعلوم أن أبسط مقاييس الفكر هي ربط كل المسائل بالاختيار وهي القدرة على نزع البداهات وهي كذلك القدرة على تقويم مسألة الرابطة على ضوء مقياس الانفتاح.» ومنذ ذلك الحين بدأت جديا في التفكير في علاقة الشعر بالفن على ضوء الانزياح الذي قام به اليونان من اجل استبدال أفق الانتظار بتحويل دلالة مصطلح 'بووزيس' من الإشارة إلى الشعر نحو التّعبير عن الفن، مستهلين بذلك سياقا اجتماعيا يقيم تعارضا ضروريا ومبدئيا بين القيم الثقافية والقيم الإبداعية. ولذلك فبعد كتابتي لمقال عنوانه «هل الشاعر فنان؟» (نشر ضمن أعمال ندوة الأيّام الشعرية محمد البقلوطي في دورتها الخامسة) فقد رحت إلى الشارقة حيث رأيت من واجبي التذكير بمهمة الفن الأولى والتي تخطاها الفن الغربي لأنها أصبحت في عداد القيم الثقافية في حين أنها لازالت عندنا من أولويات الإبداع، ألا وهي مهمة دمج الأحوال الشخصية في المواطنة (فالمواطنة تجمع مثلا المصريين على مقاومة إسرائيل ولكنها لا تسمح للمصري القبطي بأن يتزوج المصرية المسلمة) وبموازاة ذلك تحدثت ضمن كتابي «ابن خلدون والصناعات والمهن» عن دور الصورة في بلورة المواطنة من خلال تكريسها الحسي لقيمة 'الكياسة' la civilité وعلاقة كل ذلك بقيمة استهلّيت الحديث عنها في المقال عن عيار الصورة ألا وهي القيمة الاستعلانية أو الافتخارية la valeur ostentatoire. مع العلم أن وقائع الندوة المذكورة قد تم نشرها في الكويت من طرف جمعية الفنون التشكيلية بالكويت.
كل تلك الهواجس لا أعتقد أن الصفحة التشكيلية لجريدة الصحافة التونسية ولا المشرف عليها بقادرين على استقبالها بين ظهرانيهم، فهل هو لجوء للسرية حين نبحث عن حامل أرحب؟ وهل ينبغي لهذه الهواجس أن تخضع نفسها لكل ضروب الاقتصار المعياري والمعرفي.. حتى لا تحرم نفسها من وسام الانتماء للمجال التشكيلي من حيث هو 'منطقة نفوذ ترجع بالتظر للقييمين عليه والساهرين عليه»؟
المناسبة الثانية التي أتاحها لي سامي بن عامر هي عندما قام بتنسيق ندوة عن الزيتونة. وهي أيضا قد تم نشرها. وضمن هذه المداخلة فقد تمكنت من بلورة فكرة طرحتها منذ سنتين على طلبتي في الماجستر وهي 'الفن المعاصر وتخطي مشكلية الفن.» وباختصار شديد بدا لي أن فراغ الغرب من مهمة دنينة الوجدان وإدخال التاريخ والمجتمع في صميم حميمية الفرد، جعله ينتبه أن التشكيلي قد بالغ في استيعاب التخييلي le fictionnel وهو ما جعل الإنسان الغربي إنسانا مقطوع الصلة بالعالم، فهو بقدر ما يطور قدرته على التفكير بالعلامات بقدر ما يعجز عن التفكير بالأشياء، ومنه إحياؤه لضرب من التدين الكوسمولوجي وفق عبارة سيزان. وفي سياق هده المشاغل كتبت مقال la part des choses Lart abstrait etلأتوقف بالخصوص عند الفارق بين الأغراض والأشياء، وهي المسألة التي حاولت، ضمن مقال سيصدر خلال الشهر القادم بمجلة علامات المغربية، متابعة حيثياتها الإسلامية من خلال مقال بعنوان 'ابن خلدون والعلامات'.
على أساس هذه الشواغل وغيرها كنت أولا دائم التعقب للوسائط التي هي من النزاهة بحيث تلتزم بدورها كوسيط ولا تتورط في الوثنية التي تجعلها تريد أن تجعل من نفسها مضمون الرسالة، علما وأن الوثنية، في تعريفها العام، هي استيعاب الوسيط لأطراف الاتصال. وحين يتنزه الوسيط عن رذيلة الوثنية فإنه يسمح آنذاك لنفسه بالاضطلاع بدور الرابطة وهو ما حصل في الشارقة إذ بلغ انتشاء المشاركين بصفاء التواصل الفكري وصدق نيته أن تنادى الجمع إلى التفكير في الارتفاع به من مستوى الطارئ إلى صعيد المؤسس والمؤطر. وكنت ضمن المجموعة المؤسسة على نحو تلقائي، بحيث لم يكن غيابي عنها ليلحظه أحد ولا كذلك حضوري، إلى أن أعلن عمر ما أعلن من استنكار وتنديد ولكن بماذا ندّد : بانتحالي لصفة الناقد.
هنا وجدتني محتاجا إلى الاستزادة في الفهم قبل القدرة على المبادرة إلى الرد. فالانتحال على حد علمي هو جريمة موصوفة ... وعموما القصد منها حيازة ملك على غير وجه حق. فما الذي جعل الناقد عمر الغدامسي يتأكد من أنني لست ناقدا ؟ لعله من المفيد أن نحاول تعريف النقد حتى نستوضح موقف الناقد عمر.
منذ أقل من شهر استدعتني إذاعة المنستير أنا والصديق فاتح بن عامر لنتحدث عن الجمعية النقدية التي بدأ الحديث عنها في الشارقة. وقد تدرج الحديث ليتوقف عند تعريف النقد فذكّر الصديق فاتح بأن للمصطلح في الأصل دلالة حرفية لها صلة بوهب النقود، إذ كان الخليفة ينقد كل من يقول له شعرا. وبخصوص هذا المعنى فإني أقدّر أن عمر الغدامسي ينزهني عن التعامل مع النقد كتعامل بعض الصحفيين الذين لا ينقدون عملا ما إلا بعد أن ينقدهم صاحبه، ولا يسعون في جمع التبرعات لنشاط تشكيلي إلا بعد الحصول على ثلث القيمة المجموعة. ولكن هل النقد واقف عند هذه الدلالة الحرفية؟ طبعا لا، فالنقد تقويم، والتقويم هو أخطر الأفعال وأهمها لأنه يفترض الاحاطة بموضوعه من كل جوانبه ولذلك فهو يقوم من المعرفة مقام شرط الإمكان، بما أن الأخيرة تستند إلى الموهبة التركيبية (ولذلك كان الناقد يطلق على ما يسمه الناس بالمعقّد صفة المركّب). الناقد إذن هو من توفر على حظ يزيد وينقص من الموهبة التركيبية، فكيف اهتدى عمر الغدامسي إلى أنني لست فقط عار تماما عن هذه الكفاءة، بل حكم بأن النزر القليل الذي ظهر للعيان، فهو منتحل يبدو أنه ليس هناك إلا عمر يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال. لكن المشكل هو أنه ليجيب شخص ما عن سؤال بعينه لا بد أولا أن يعيره قدرا من الاهتمام ولا بد من التوقف عنده، ولكن الناقد عمر يبدو أن الجانب العلمي من المسألة لا يعنيه كثيرا، بل هو يهتم بالانتحال فقط ليوظفه كتوطئة تبرر ما سيكيله لي من اتهامات بالجهوية.
حين قرأت ما كتبه عمر الغدامسي عن سلوكي الجهوي، وحين سلمت جدلا بأنه أمسك بحقيقتي التي هي غائبة عنى، وذلك على اعتبار انه لا ينبغي أن نُقيّم أحدا بما يظنه في نفسه، هالني عندها ما أعيشه من فصام. وفعلا، كيف لا أعاني الفصام وأنا الذي من دون أن أذهب بعيدا في الزمن لسبر بنائي الذهني والمعياري_ منذ سنين وأنا أجتهد في بلورة الفارق الفاصل بين الإنسان الملّي والإنسان الكوسموبولوتي، حتى أني قد اقترحت على هيئة مهرجان المحرس أن تضع شعارا لدوراتها الأخيرة ولهذه السنة أيضا الشعار التالي « من أجل قيم كوسموبولوتية مبدعة.» ثم كيف أكون جهويا من ناحية ثم أحيا أنا وزوجتي وابنتنا خارج كل ضرب من ضروب العلاقات الدموية ما عدا منها ما يتصل بالعائلة النواتية، هدفي من ذلك إفساح المجال للصداقة، التي هي من صميم الفكر، إذ يشتركان (الصداقة والفكر) في ربط المسائل بالاختيار، في حين أن القريب لا نختاره ... وحين نقف عند تعريف المتن النقدي كما ورد في كلام الغدامسي المُثبت أعلاه فإنك تجدني إما أكتب عن أعلام يصادقها الإنسان فكريا أو عن أصدقاء يدخل معهم المرء في تواشج كياني ... فمنذ سنة 1990 استمتعت بالكتابة عن بعض الأحداث التشكيلية الباريسية كمراسل لمجلة أدب ونقد المصرية، وفي أول منسبة كتبت بشكل حميمي فلكي أغنم صداقة أعنز بها لليوم، وذلك حين كتبت عن الفنان أحمد فؤاد سليم. وليس لي أن أصف غبطتي حين تسلمت منه في شهر ديسمبر الماضي كتابا لخمسة فنانين هو أحدهم وقوام الكتاب سيرة شخصية لكل فنان وبعض النماذج من أعماله ثم أحد النصوص التي يختارها من بين ما كُتب عنه، وكان نصي هو الذي اختاره أحمد فؤاد سليم لتمثيله. وحاليا، أجدني دائم الاستحضار لأعمال الأصدقاء جمال عبد الرحيم وأحمد معلا وعادل السيوي وطلال معلا بحكم تلمسها على أنحاء مختلفة لعلاقة مستحدثة بين التخييلي والتشكيلي ... وعمر يجهل هذا الجانب من ممارستي النقدية وهو ليس مطالب بمعرفته ... ولكنه مطالب بالدقة في معلوماته الصحفية على الأقل، فهو عندما يقول أن الناصر بالشيخ قد تقاعد فمعنى ذلك أنه غرق في صفحته التشكيلية إلى حدّ الانقطاع عن العالم، فالناصر بالشيخ ليس فقط لم يتقاعد بل لا زال يرأس ويشارك في لجان الانتداب ولعله سيكون بهذه الصفة أو تلك في لجنة انتدابي في الخطة الجامعية التي أنوي الترشح لها. وبالمناسبة أسأل : هل قصد عمر الغدامسي أن يبالغ في تأويل السهو الحاصل في خصوص الناصر بالشيخ أقدر أن المسألة لا تخرج عن ذلك الحد ولا أستطيع الجزم بأي شيء لأنه البتة لم تكن لي أية صلاحية تسمح بذلك ليصرف في المقابل النظر عن السهو الذي طال الفنان رشيد الفخفاخ وهو العليم أن الأخير هو ليس فقط مدير المعهد الذي أدرّس به بل هو كذلك صفاقسي لا حظوا الهوان والابتذال الذي صار إليه الخطاب ثم إن الغدامسي يخطىء أيضا عندما يقول أن الناصر بن الشيخ أشرف على بحوثي، وليس في خطئه ما يزعجني سوى أنه يحرمني من الاعتزاز بإشراف مؤرخ للفن لا يشق له غبار ألا وهو السيد جلبار لاسكو، وهذا أيضا جانب من تكويني النقدي والتشكيلي الذي جهله عمر الغدامسي ولا وزر عليه في ذلك لولا أنه أراد أن يقوم بمهام الشرطي الذي يراقب الهويات، ولا أخاله أيضا يعلم أني في حال تكوين مستمر، إذ حصلت خلال شهر جوان الماضي وما بالعهد من قدم على التأهيل من جامعة بنمسيك بالدار البيضاء وقد كان الكتور موليم العروسي هو الأستاذ المشرف على ملفّي وكان الدكتور نور الدين افاية رئيس لجنة المتاقشة...
لماذا إذن- حتى إن واصلنا التسليم جدلا باشتمالي على ضارب ما من الجهوية الذي قد لا يسلم منه العربي بحكم سياقه العام حتى إن اجتهد ليسلم منها شخصيا-لم ينتبه عمر الغدامسي إلا إلى الجهوية كمحرك لمناشط أفعالي وهو الصديق الذي يضطلع بمهمة الوكيل الصحفي لمهرجان أنتمي لهيئته المديرة؟
لعلّ الأمر بكل بساطة لا يخلو من عدم إيمان بما هو منشأ وتسليم مسبق بكل ما هو معطى، وكما هو معلوم فإن الجهوية معطاة أما الكوسموبولتانية فإنها منشاة. ومنه خطورة الثقافة التشكيلية إذ يُفترض فيها على الأقل تصحيح مقاييس لوحة القيم الواجب اعتمادها بما يسمح للمستقبل أن يأتي، أي للحداثة بأن تتحقق، إذ لا بد لعمر ولأضرابه أن يعلموا أن رهاننا واحد وحيد مهما تعددت الاختصاصات والمجالات، ألا وهو الحداثة.
ومن طرائف الصدف أنه منذ مدة قصيرة أعلنت وحدة البحث المشرف عليها الدكتور سمير التريكي (وهو صفاقسي بحكم مصادفات اللقيا لا بحكم أية ضرورة إدارية أو علمية) عزمها على عقد ندوة حول حاضر الفن التشكيلي في تونس. وقد حدث أنه مباشرة قبل العلم بمقترح الندوة كنت قدمت ديوان بوح الغريب الذي أصدره صديقي نور الدين بوجلبان والذي ينخرط ضمن متعاطي قصيدة النثر، وهو جنس لازال غير مقبول في ربوعنا. وقد بدا لي أن الإشكال يتمحور أساسا حول قصوية قصيدة النثر في استئصال رواسب الشفوية التي قلص من حضورها الشعر الكلاسيكي العربي دون أن يجتثها تماما. من ناحيتها، فإن قصيدة النثر، إذ تقوم بدمج اللغة في الكلام، وكذلك بدمج الشعر في البلاغة، فإنها تحوّل علاقة الإحالة اللغوية تورية، إلماح، الخ إلى علاقة إزاحة من شأنها أن تحصر دور العلامات ليس في 'إبلاغ' الانفعال ولكن في الإعلان عنه. هكذا ينشأ نوع من الزمن المنطقي الذي يمتّ بصلة ضئيلة مع الزمن الفعلي التحقق. على ضوء هذه المعطيات بدت لي صلاحية حديث عبد السلام المسدي عن اعتماد غرض 'المقام' والذي هو تكريس لما يسميه المرور من الشعر إلى القصيدة. وهو المرور الذي يغيّر على مستوى الشعر العربي من ترتيب علاقة كل من الناقد والجمهور بالأثر الشعري. ويكتب في هذا الخصوص عبد السلام المسدي قائلا : «ومع هذه النقلة يصبح الناقد مدعوا إلى إنجاز وظيفة أركيولوجية على دلالة رجال الحفريات- ليعيد بناء العلاقة 'الطبيعة' بين المتلقي والشعر من خلال إعادة بناء نظامية المجاز، ومن خلال رسم خارطة الدلالات. فكأنما الناقد مدعو إلى تمكين الشعر من جواز سفره نحو مملكة الجمهور. فيما مضى حين كانت تسود الشعرية المحايثة- كان الشعر يمر إلى الناقد بعد أن يتلقاه الجمهور. واليوم، مع سيادة الشعرية المفارقة، كأننا بالشعر يأتي إلى الناقد أولا ليقوم بوظيفة 'المصفاة' قبل أن يصل الشعر إلى متلقيه.» 2 وبمقارنة تحولات كل من السياق الشعري والتصويري في تونس خامرني السؤال التالي : هل أصبح التصوير في مجتمعنا التونسي اليوم ينعم بمحايثة ظلت طويلا من اختصاص الشعر، وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا الأخير يعيش أزمة سببها انتشار قصيدة النثر وتأسيسها لشعرية مفارقة؟ وبناء عليه اقترحت على الهيئة المنظمة للندوة العنوان التالي لمداخلتي : التصوير التونسي المعاصر بين المحايثة والمفارقة. وفي غمرة إعدادي لنص مداخلتي طلع علينا عمر الغدامسي بمقاله الذي يذهب بالمحايثة إلى حدّ الوثنية التي ديدنها أنّ الوسيط هو الرسالة. فهل ينبغي أن تضمر أحجام كل قضايانا وكل مقاييسنا حتى لا تفيض عن طاقة احتمال الصفحة التشكيلية الغدامسية لها فتخرج عن دائرة رقابته لها ؟ الجواب عن مثل هذا السؤال هو من الخطورة بحيث لا يحتمل ثرثرة من هذا النوع أو ذاك، ولكني أرجو أن يكون توقفي عن الكلام هو بسبب بلوغه حدا جعل الصمت الموالي له جزءا منه، بما أنني أقدّر أنّ القارئ قد أصبح، إلى حدّ ما، قادر على أن يخصبه وأن يستنطقه كذلك.
1 ) محمد عابد الجابري، مواقف، إضاءات وشهادات، سلسلة كتب صغيرة شهرية من 'ملفات الذاكرة، الكتاب الثاني والثلاثون، أكتوبر 2004، ص 20-21
2 ) عبد السلام المسدي، شعرنا العربي المعاصر والزمن المضاد، ضمن مجلة فصول، العدد 68، شتاء-ربيع 2006، ص 311


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.