المشهد كما التقطته عيناي في «سوق الاحد» بمدينة سوسة يتمثل ببساطة في سوق جلّ بائعاته من النساء. الى هنا لا غرابة في الامر نساء، يبيعنّ مستلزمات بيتية وشخصية لحريفات من النساء، وقد تعودنا في بعض قرى ومدن الساحل التونسي ان نجد بعض الاسواق الخاصة بالنساء كسوق «سيدي الشطي» الذي يقام كل يوم جمعة بمدينة مساكن، وكسوق الذهب (التل) يوم الاربعاء في «حارة اليهود» بمدينة المكنين... وهي أسواق نسائية عريقة وقديمة تستجيب الى حاجيات المرأة التي تتمكن من قضاء شؤونها بمفردها دون ازعاج زوجها أو تدخله او وصايته. هذا قديما اما اليوم فان ما لفت انتباهي في ما رأيته في سوق الاحد هو ان البائعات فيه غدون اكثر من الباعة... إذ تبيع النساء الملابس ومستلزمات تجهيز العرائس، ومستلزمات الديكور وأدوات الزينة والاواني المطبخية والفواكه الجافة والبقول والملابس المستعملة والاقمشة والخضر... باختصار كل شيء باتت النساء يتاجرن فيه، إذن لم يعد الامر كما كان سابقا: أسواق تحترم خصوصية المرأة وحياءها وتجنبها عناء ازدحام الاسواق المختلطة. ولم يتحول الامر الى علامة على مشاركة النساء في التجارة لجمهور مختلط: تجار من الرجال والنساء وجمهور من النساء والرجال. بل إن ما لاحظته هو ان كثيرا من الاسواق قد تأنثت فيها عمليات البيع بشكل لافت وكأن التجارة باتت مهنة نسائية صرفة، ولما سألنا عن ذلك قيل لنا ان جل القاصدين اليوم اسواق الجماهيرية نساء وجل القاصدين اسواق «بن قردان» نساء، وطبيعي ان نجد ان معظم الذين يبيعون نساء. فقد صارت المرأة هي التي تعرف حاجيات السوق اكثر من الرجل لان جل المتبضعات من النساء. وقد اخبرنا قريب اخر يدير مصنعا للملابس الجاهزة في احدى البلدات الصغيرة، ان ما لاحظه في هذه البلدة هو ان جل النساء العاملات فيها ينفقن عادة على أزواجهن وأطفالهن لأن عددا كبيرا من الازواج لا يشتغل طيلة اليوم اكثر من النوم ولعب الورق وانتظار ان تأتيه زوجته بمصروف نهاية الشهر. سألناه عن السبب فقال ان نسبة البطالة في صفوف الرجال مرتفعة في هذه المنطقة ككل المناطق، ولكن ما يميز هذه البلدة ان كل رجالها (الذين هم بين سن ال 40 وال 50 سنة) كانوا يشتغلون في مركزية مهمة لتجميع الحليب وصناعة مشتقاته، وقد كانت مملوكة للدولة ومع خصخصتها سُرح الاف العمال الذين أحيلوا الى البطالة واستعاضوا عن العمل بفتات ما تتقاضاه نساؤهم في مصانع نظام .1972 وفي حديث ثالث في نفس الموضوع دائما مع احد أبناء هذه الجهة قال ان الشباب اليوم باتوا لا يرغبون في العمل الذي يتطلب منهم إما نجاحا دراسيا شاقا وعواقبه غير مضمونة، او يتطلب منهم مهارات حرفية لا يتقنونها، لذلك انتبه بعضهم الى أحسن الطرق لكسب عيشهم: وهي ان يهتم الواحد منهم بلياقته البدنية وكمال جسمه ويسعى الى ان يكون في أناقة معقولة ويتعلم فقط طراوة اللسان (وهذا بالطبع أمر هيّن) اذ تكفي فقط هذه الشروط الثلاثة ليفوز بعض الشباب بالعيش الرغيد عبر الزواج من أشطر عاملة أو أعلى الموظفات أجرا أو أحسن صاحبة ورشة أو مصنع... اما اذا أورثته البيولوجيا سحنة وضاءة وبعض الجاذبية والوسامة فان بإمكانه ان يرتقي اجتماعيا من طبقة الى طبقة ويصبح من الاثرياء ويصاهر أعرق العائلات وأثراها. ليكون في الخلاصة ذكرا غير عامل وغير منتج وهو لا يختلف في وضعيته عن الذي رفض العمل من جديد لأنه سُرّح من عمل لا يحسن غيره وليتفق ايضا مع الرجل الذي تخلى عن تجارته ومكانه في السوق ليترك زوجته تتحمل مشاق التجارة بمفردها... ويشبه ايضا البدوي الفلاح قديما الذي كانت زوجته تقوم بكل المهام وهو فقط يبيع المحصول. ما الذي حدث حتى تنخرم دفّتا الميزان من جديد بعدما خلنا أن الدفتين استوتا: 1 رجال يعملون ونساء في البيت 2 رجال يعملون ونساء يعملن 3 رجال في البيت ونساء يعملن الحالة الاولى لم تكن مقبولة لأن فيها تطرّفا واقصاء للقوة المنتجة لنصف المجتمع من النساء، الحالة الثانية رسمت أملنا في التوازن، الحالة الثالثة غير مقبولة لأن فيها تطرّفا وتقاعسا لقوة العمل التقليدية عن واجباتها بإرادتها طبعا وانسحابا من مواقعها الى مواقع اخرى. هل كان توق النساء للعمل وحماسهن لإثبات حقهن فيه وجدارتهن به وراء عدم التوازن في هذا المشهد. هل ان انزعاج الرجل من حمل عبء تقليدي طالما حمله وحيدا على ظهره دون سند هو الذي سبب عزوفه عن العمل. أم هي العولمة المفترسة التي التهمت اشكال العمل التقليدية التي ألفها الرجال فأرْدتِ الجهد قتيلا؟ أم ربما هو اكتساح النساء المجال العام وتطبيق مقولة «النساء قادمات». عندما كانت أمي تسمعني وأنا أسأل أفراد العائلة عن موضوعي كانت تبسمل وتلعن الشيطان علنا وتقول جهرا «لعلها بعض علامات يوم القيامة» وكنت أقول سرا لعلّي ألفتُ انتباه بعض علماء الاجتماع بملاحظاتنا السابقة ليدرسوا لنا اسباب وأعراض ونتائج ظاهرة تقاعس الرجال عن العمل التي جعلت بعض الحياة البشرية خلية نحل كَثُرَ خلافا لعادة ذكورها.