بسبب انتشار الحشرة القرمزية: تراجع صابة الهندي الأملس بنسبة 40 بالمائة    بطولة العالم لألعاب القوى طوكيو 2025: العداءة التونسية مروى بوزياني تحتل المرتبة الرابعة    الحرارة هكذا ستكون الليلة    بعد تتويجه في فينيسيا.. 'صوت هند رجب' يختم مهرجان القاهرة السينمائي    من قلب القاهرة... عبد الحليم حافظ يستقبل جمهوره بعد الرحيل    الاستاذ عمر السعداوي المترشح لخطة رئيس الفرع الجهوي للمحامين بتونس ل" الشروق اون لاين ".. " ساعمل من أجل هياكل فاعلة تحفظ كرامة و تطور الممارسة اليومية للمهنة"    بن عروس: إدماج حوالي 300 طفل في برنامج "روضتنا في حومتنا" و33 طفلا من ذوي اضطرابات طيف التوحد في مؤسسات رياض الاطفال    وزير الداخلية: تونس في مواجهة مُباشرة مع التحدّيات والتهديدات والمخاطر السيبرنية    غار الدماء: وفاة أم أضرمت النار في جسدها بسبب نقلة ابنتها    الديوانة تحبط محاولة تهريب مخدرات بميناء حلق الوادي الشمالي    تحويل جزئي لحركة المرور قرب مستشفى الحروق البليغة ببن عروس    عاجل/ الأخيرة ضمن الأسطول: السفينة "أنس الشريف" تُبحر باتّجاه غزّة    القمة العالمية للبيوتكنولوجيا: وزير الصحة يعلن بسيول إطلاق مركز وطني للتدريب البيوطبي لتعزيز قدرات إفريقيا في إنتاج الأدوية واللقاحات    إلغاء الإضراب بمعهد صالح عزيز    فتحي زهير النوري: تونس تطمح لأن تكون منصّة ماليّة على المستوى العربي    تحذير صارم: أكثر من 30 مصاب بالاختناق جراء تلوث المنطقة الصناعية في قابس...شفما؟    تونس تحدد مخزون الحليب الطازج المعقم    سورة تُقرأ بعد صلاة الفجر لها ثواب قراءة القرآن كله 10 مرات    تعرف على الفواكه التي تعزز صحة القلب    جندوبة الرياضية تتعاقد مع اللاعب بلال العوني    الكاف: حجز كميّات من المواد الغذائية غير الصالحة للاستهلاك    جريدة الزمن التونسي    القصرين: مشروع نموذجي للتحكم في مياه السيلان لمجابهة تحديات التغيرات المناخية والشح المائي    أولمبيك سيدي بوزيد يتعاقد مع الحارس وسيم الغزّي واللاعب علي المشراوي    قابس: تخرج الدفعة الأولى من المهندسين بالمعهد العالي للاعلامية والملتيميديا    صدمة في القلعة الكبرى: لدغة ''وشواشة'' تُدخل شابًا قسم الكلى    وفاة "العراف سحتوت" تثير جدلًا واسعًا على منصات التواصل الاجتماعي    عاجل/ الجامعة التونسية لكرة القدم تحذر وتتوعد بتتبع هؤلاء..    المقرونة: أصلها عربي و لا إيطالي؟ اكتشف الحكاية    بشرى سارة للتونسيين: أمطار الخريف تجلب الخير إلى البلاد..وهذا موعدها    الرابطة الأولى: تشكيلة النادي البنزرتي في مواجهة مستقبل قابس    الرابطة الأولى: تشكيلة شبيبة العمران في مواجهة النادي الإفريقي    عاجل: الإدارة الوطنية للتحكيم تجمّد حسام بولعراس مرة أخرى...علاش؟    عاجل..انقطاع الإنترنت والاتصالات وتحذير من توقف الخدمة الصحية في غزة..    ارتفاع الحرارة ليس السبب...النفزاوي يكشف أسرار نقص الدواجن في الأسواق    سفينة "لايف سابورت" الإيطالية تنضم لأسطول الصمود نحو غزة كمراقب وداعم طبي    اختفاء سباح روسي في مضيق : تفاصيل مؤلمة    الدينار التونسي يتراجع أمام الأورو إلى مستوى 3.4    أكثر من 100 شهيد في مجازر ارتكبها الاحتلال في قطاع غزة    الحماية المدنية: 597 تدخلا منها 105 لإطفاء حرائق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية    المريض هو اللي باش يطلب استرجاع المصاريف من الكنام.. تفاصيل جديدة    مقارنة بالسنة الفارطة: زيادة ب 37 مدرسة خاصة في تونس    بنزرت: إصابات خفيفة في انقلاب حافلة عمّال بغزالة    عاجل: طلبة بكالوريا 2025 ادخلوا على تطبيق ''مساري'' لتأكيد التسجيل الجامعي..وهذا رابط التطبيقة    الإحتلال يقصف مستشفى الرنتيسي للأطفال بغزة    أسباب غير متوقعة وراء نقص حالات الزواج عند التونسيين    الكورة اليوم ما تفلتهاش... هذا برنامج المقابلات للرابطة الأولى    جريدة الزمن التونسي    لمدة 48 ساعة فقط.. جيش الاحتلال يعلن عن ممر آمن لإخلاء سكان غزة جنوبا    مولود ثقافي جديد .. «صالون الطاهر شريعة للثقافة والفنون» ملتقى المثقفين والمبدعين    مشاركة تونسية لافتة في الدورة 13 من المهرجان الثقافي الدولي للمالوف بقسنطينة    فيلمان تونسيان ضمن مسابقات مهرجان الجونة السينمائي    وفاة روبرت ريدفورد: رحيل أيقونة السينما الأميركية عن 89 عامًا    انطلاق المخطط الوطني للتكوين حول الجلطة الدماغية    كلمات تحمي ولادك في طريق المدرسة.. دعاء بسيط وأثره كبير    أولا وأخيرا ..أول عرس في حياتي    أبراج باش يضرب معاها الحظ بعد نص سبتمبر 2025... إنت منهم؟    مع الشروق : الحقد السياسيّ الأعمى ووطنية الدّراويش    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القاعدة والاستثناء
الحرب والسلم في الأديان: محمد المزوغي
نشر في الشعب يوم 30 - 06 - 2007

لقد قال أُسقف روما (Joseph Ratzinger)، حاكيا كلام الإمبراطور البيزنطي عمانويل الثاني، الذي اعترض فيه على العالم المسلم : «أرني ما الجديد الذي جاء به محمد، لن تجد إلا أشياء شريرة وغير إنسانية مثل أمره بنشر الدين الذي كان يبشرُ به بحدّ السيف» نحن ندير اليه الاعتراض ما الشيء الجديد الذي جاء به أنبياء بني إسرائيل والمسيح، والتوراة والإنجيل؟
ليست أحداث التاريخ، هي التي تفند زعم المسيحيين، وأقوالهم بأن دينهم هو دين الرحمة، بل إن تعاليم الكنيسة ذاتها والأناجيل تكذب هذا الرأي . لقد ادعى المسيحيون بأن التسامح هو ما يميز دينهم عن الدين الإسلامي الذي انتشر باستعمال السيف والإكراه، في الوقت الذي دعا فيه المسيح الى محبة العدو وتحويل الرغبة في الثأر الى صبر على البلاء .
هذا ما لم يكن إطلاقا في المسيحية، وتاريخها مسطر بالدماء والحروب (مثل كل الاديان التوحيدية) وفي عهد قريب منا تسبب زعيم الاصلاح مارتن لوثر في فتنة ذهب ضحيتها عشرات الالاف من الخلق . ولكن المسيحيين يُصرون الى الآن، على أن الاسلام هو الذي فعل ذلك، أعني أنه استعمل السيف لنشر دعوته. يجب أن لا ننكر ذلك على الإطلاق لأن ما جدّ من أحداث في الماضي يشهد بها التاريخ الوقائعي ولا يمكن للأحداث الماضية، مهما فُعل، أن تُمحى من ذاكرة الكون . ولكن أن تلصق هذه التهمة بدين واحد ويُجعل منها صفته المميزة، فهذا بهتان ونكران للبداهة. ولقد اعترف المفكرون الغربيون أنفسهم بهذه الحقيقة : يقول بيار بايل في مقالة «محمد « من « القاموس التاريخي النقدي « بأنه إن اعترضنا على المسلمين هكذا فإنهم سيسكتوننا ويستشهدون بالتاريخ، وبما قاله المسيحيون أنفسهم . فهذا اللاهوتي جوريو (Jurieu) مثلا يقول : « أننكر ان الوثيقة قد سقطت على أيدي سلطة أباطرة روما؟ يمكننا إن نؤكد دون مواربة أن الوثيقة كانت ستكون قائمة الى الآن، وأن ثلاثة أرباع أوروبا ستبقى وثنية، لو أن قسطنطينوس وخلفاءه لم يستخدموا القوة لمنعه. إن أباطرة روما المسيحيين هم الذين حطموا الوثنية، مدمرين معابدها، ماحين من الوجود معالمها، ومانعين عبادة آلهتها. لكن دون سلطتهم فإن معبد جوبيتار (Jupiter) ومارس (Mars) سيبقيان قائمين، وآلهة الوثنية سيكون لها أتباع لا يُحصى عددهم» (1).
التاريخ يشهد بأن المسيحيين استعملوا نفس الطرق التي استعملها المسلمون لنشر دينهم الجديد وهذا أمر (يُرعب الناس المعتدلين ) . المسيحيون لم يكتفوا بذلك بل إنهم استعملوا أيضا نفس تلك الأساليب ضد الفرق التي تجرأت على عصيان البابا، ومن كل هذه التصرفات يستخلص بايل ( Bayle) أنه لا يمكن للمسيحيين أن يحاجوا المسلمين لقيامهم بنشر دينهم بالقوة. المسلمون سيردون قائلين : «لقد استخدمتم أنتم أنفسكم القوة منذ القرن الرابع الى يومنا هذا ، وتزعمون أنكم كنتم على حق في استعمالها : ينبغي عليكم إذن أن تعترفوا بأن هذا التصرف ليس هو بالشيء القبيح في ذاته وبطبيعته ، وبالتالي فإنني مبرر في استعمالها منذ بداية دعوتي . وعلى كل حال من الخلف الزعم بأن شيئا ما هو إجرامي للغاية في القرن الأول ، يغدو مباحا في القرن الرابع، أو أن شيء أصبح حسنا في القرن الرابع لم يكن كذلك في الأول، يمكن زعمه لو أن الله يفعل قوانين جديدة ويغيرها من حين لآخر. وبعد، ألم تبرروا صحة أفعالكم، من عهد قسطنطينوس الى يومنا هذا، بكلمات المسيح هذه «أجبر الناس على الدخول» وأرسيتموها على سلطة الحكم ؟ كان بإمكانكم ، إن استطعتم ذلك ، استعمال القوة بعد قيام المسيح مباشرة ، بل إن بلارمينو (Bellarmino) والعديد من الكتاب المُوالين للبابا، يقرون بذلك ويبررون استخدام القوة لتمسيح الملك، لقد أكدوا على أن المسيحيين الأوائل إن كانوا لم يخلعوا نيرون (Nerone) وديوكلزينوس (Deoclesianus) ، فذلك راجع الى فقدانهم القوة الدنيوية لإنجاز ذاك العمل: لكن، من وجهة نظر شرعية، لهم الحق في ذلك، نظرا لأنه يجب عليهم أن لا يحكموا من طرف سلطة غير مسيحية، إن عملت على إبعادهم عن الايمان . لقد كانوا ملزمين على أن يتخذوا حكاما يحققون ما جاء في الإنجيل ويقضون على الشرك، ولا يتسنى لهم ذلك إلا بالحرب والتقتيل.
وكما قلت سابقا، فإن من زعم، من المسيحيين المحدثين، أن الدين الإسلامي هو دين القوة والحرب، أما الدين المسيحي فهو دين السلم والمغفرة ، فهو مكابر وجاحد للتاريخ وحتى لأقوال المسيح ذاته، وللمأساة التي عانت منها البشرية جراء التعصب الديني . لقد قال أحد المفكرين الإيطاليين بأنه لو كانت المسيحية، كدين مثل الأديان الأخرى، تصبو الى إرساء لحمة اجتماعية بين الأفراد وجمعهم تحت قيم أخلاقية موحدة لمجابهة مشاكل الحياة ومتاعب البقاء ، فلا شيء يُؤخذ عليها، لكن «خطيرة هي الطريقة التي شرطت بها حياة الإنسانية (...) مدة ألفي سنة من التاريخ تقريبا « (2) الملايين من الناس عانوا من مظالم لا يمكن تصورها : لقد منعوا على الناس حرية التفكير، من أبسطهم الى أعلمهم، هددوهم بالعذاب الإلهي ونار جهنم، أثاروا الرعب في قلوب الناس، مسببين لهم أمراضا نفسية وعاهات جسدية، كل ذلك لحرمانهم من ذاك النزر القليل من السعادة التي يمكن إن توفرها لهم حياة إنسانية قصيرة وشاقة . وقد استمرت المسيحية مدة قرون في إنتاج مرضى نفسانيين، من العصابيين المسالمين الضعفاء الى المجرمين الخطرين كهتلر ورهطه، ثم أمثاله المحدثين (بوش، رامسفيلد، تشيني)... اضطهدت خلقا كثيرا، لاحقتهم، أبادتهم فقط لأنهم يهود أو مسلمون أو كافرون أو لأنها اعتبرتهم سحرة ومشعوذين . أما النساء، إن لم تلاحقهم كساحرات، فإن الكنيسة قد أهانتهم باستمرار واعتبرتهم دائما، كما تعتبرهم الآن، أسفل من الرجال . وقد احتدم نقاش في القرن الحادي عشر هل أن المرأة تملك نفسا مثل الرجل أم لا ، أما في القرن السادس عشر فقد استعر هذا النقاش مرة أخرى ولكن للبت في أناس وقع اكتشافهم حديثا، أعني هنود أمريكا، وتبرير إبادتهم بالسيف والصليب . ودائما بسبب الكنيسة استعرت حروب شنيعة لا تحصى، حروب أتت فقط بالموت والدمار والعنف والإرهاب، والمجاعات والفقر والاضطهاد لملايين من الآدميين. ولم يقف هذا التدمير عند حدّ البشرية العاقلة فقط بل طال أيضا الحيوانات البريئة، التي لم تحُز أبدا على الروح، ولقد ذكر مؤرخو القرون الوسطى أن قططا وكلابا وحميرا وخنازير وحتى جرذانا قيدت أمام محاكم التفتيش ، اتهموها بالسحر، عذبوها ونكلوا بها ثم رموها في النار.(3)
أمازال هناك من مجال لنكران البداهة ؟ أمازال هناك حق لأصحاب الأديان (ولا أستثني من جدلية الحرب والعنف الدين الإسلامي ) أن يتناسوا هذه الحقائق ويدلسوا التاريخ ؟ أود أن أؤكد للقارئ مرة أخرى أن كاتب هذه السطور لا ينافح عن دين ضدّ آخر، ولا يود أن يتحامل على شخصية مقدسة عند المسيحيين، وبالتالي فإنه يتحاور مع راتسينغر (بنديكت السادس عشر) بوصفه أستاذا جامعيا وعالم لاهوت، ويناقشه في ميدانه الخاص، بالحجة والنصوص.
ما الشيء الذي فاقت به المسيحية الأديان الأخرى ؟ كان عليه أن يفتح الكتاب المقدس وأن يتصفح العهد القديم وسيرى أن المسيحية، التي تعظم وتقدس ذاك الكتاب، لم تأت بالشيء الجديد بل إنها أدامت قانون الحرب والتقتيل الذي جاء مفصلا فيه (4) ثم إنني لا أدري كيف يفسر المسيحيون أقوال يسوع الواردة في الإنجيل «لا تظنوا أني جئت لألقي سلاما على الأرض بل سيفا» (متى X 34 ) أو في الأخرى : «جئت لألقي نارا على الأرض وما أريد إلا اضطراما « ( لوقا XII 49).
الحرب هي أمر ضروري ومشروع بل محبذ في ذاته ، هذا ما خلص إليه القديس أوغسطينوس على أساس تأويلاته للعهد القديم ولأقوال المسيح في كتابه Contra Faustum) يقول بالحرف : «ما الشيء الذي نعيبه على الحرب ؟ (Quid
bello enim culpatur in أن يُقتل أناس سيموتون في يوم ما ؟AN quia moriuntur quandoque morituri; ut domentur in pace victuri ) هذه عيوب في أعين الجبناء ولا تليق بالمؤمنين (5) (Hoc reprehendere timidorum est ; non religiosorum) . ثم إن الحرب، حسب زعمه، هي قانون شامل في داخل الإنسان وفي خارجه : «فالإنسان يحمل معه الحرب أينما ذهب ... وهو يكتشف في داخله تلك الحرب التي تكلم عنها الرسول بولس « ولذلك فإن «الجندي الذي يقتل إنسانا ، كي يطيع أوامر السلطة، لا عليه أن يخاف العقاب لأنه لم يقترف جريمة قتل، لا بل انه لو لم يفعل ذلك سيتهم بالتخلي عن مهمته وخرق الأوامر» (6).
من السهل الرد على من يتهجم على دين من الاديان التوحيدية، ويحاول تبرير دينه ونزع الشبهات عنه، ثم إلصاق التهمة بالديانات الأخرى ومراجعة تاريخه الحربي . وأود التأكيد مرة أخرى أن كاتب هذه السطور متحرّر من أسر التعصب الديني وبالتالي فإن أقواله ليس الغرض منها الانتصار لملّة على أخرى، بل الكشف عن تناقضات المؤمنين جميعا، وفضح عجرفتهم وأكاذيبهم وإظهار غُربتهم عن التسامح (7) ليس هناك، من وجهة نظر تاريخية تعاليمية، في أي دين من الأديان التوحيدية دعوة صريحة وواضحة للأخوّة والسلام الدائم بين البشر، سلام مطلق يشمل الناس بغض النظر عن أديانهم ومعتقداتهم . كل الثقافات تقريبا وكل الأديان أضفت صبغة تقديسية على الحرب وشرعت لاستخدام القوة، وكما يقول أحد الدارسين «لم تنجز الحروب في غالب الحالات تحت راية الدين فقط ، بل إن رجالا يمثلون ذرى الروحانيات الإنسانية في كل زمان يبدون تقريبا مُجمعين على إضفاء مسحة تصوفية لاهويته على الحرب» (8) . لا نجد الدعوة الى السلم في العهد القديم، الذي يعتبره المسيحيون كتابا مقدسا ولا نجد ذلك في الإنجيل ولا في القرآن . الحرب في العهد القديم هي القاعدة والسلم غير موجود بتاتا في «قاموس اللاهوت الكاثوليكي» طرح الكتاب هذا السؤال:» هل الحرب في ذاتها، نظرا للشرور العديدة التي تحدثها، مضادة لقوانين الرحمة وبالتالي، هي دائما محظورة كشيء قبيح في ذاته» (9) من المفروض أن يكون الجواب بنعم : الحرب فى ذاتها، بغض النظر عن أهدافها ودوافعها، هي شرّ وبالتالي لا يمكن أن تبرر على كل حال وبأي وجه من الوجوه. لكن في المقال الطويل الذي خصصه الكاتب لكلمة حرب، الإجابة كانت بالسلب وتبريرها جاء عن طريق الاستشهاد بأحد اللاهوتيين المهرة في العالم المسيحي الكاثوليكي ، أقصد القديس بلارمينو (R. Bellarmino) والسبب في الاجابة السلبية هو سبب عقائدي لاهوتي مرتبط بإرادة الله : «لا يمكن حسب زعم الكاتب أن يكون الله، كخالق للكون وكمشرّع أسمى قد منح المجتمعات وكذلك الأشخاص الحق في الدفاع المشروع عن النفس، أي بالنسبة للمجتمعات الحق في الحرب، ثم يمنعهم منعا باتا، بقانون آخر، كقانون الرحمة مثلا، من القيام بها» (10) . لكن الحكمة الإلهية لا تتناقض ولذلك، فإن الحرب، ما قبليا «a priori» وهذه يعتبرها كاتب المقال أعلاه حقيقة أكيدة «بما هي عادلة في ذاتها، أي مشروعة حسب القانون الطبيعي ، لا يُمكن أن تكون، في ذاتها وبحسب طبيعتها (per se et ex natura sua)، محرّمة طبقا لقانون الرحمة (11) . إذن الرحمة ليست متقدمة على الحق في الحرب ولا هي القاعدة، بل إن التعارض بينهما هو فقط تعارض ظاهري وعرضي (per accidens) ويحصل فقط في بعض الحالات الخاصة . كل هذه الاستنتاجات مدعمة بأقوال اللاهوتي اليسوعي العظيم، القديس بلارمينو، وذلك من خلال كتابات «مجادلات العقيدة المسيحية ضدّ هراطقة هذا العصر» De Controversiis Christianae Fidei huius Temporis Haereticos « De membris Ecclesiae وإعضاء الكنيسة De membris Ecclesae « واللائكيون (De laicis) ، والتي لم يكتف فيها بالتشريع للحرب الدفاعية بل إنه شرع أيضا للحرب الهجومية ضد المسلمين (الأتراك) هذه الأفكار الحربية لا نستغربها كثيرا ، لأن بلارمينو لم يفعل إلا أن استمد تلك الفتاوى من الأصل، أعني من الكتاب المقدس ذاته.
قلت بأن العهد القديم هو كتاب حربي من أوله الى آخره، ولا أريد بكلامي هذا أن أجرح إحساس أي مؤمن ، لأنني لا أمجّد القرآن أو الإنجيل ولا أستثنيهما أيضا من جدلية الحرب. المفكر يودّ أن يفهم الأشياء بعقله ويحكم عليها طبقا لمبادئ المنطق والحس الانساني السليم. كل كتاب في هذه الدنيا يدعو الى الحرب أو يُمجد العنف ويبرره ، فهو خال من العقل والمنطق والحس السليم . وبعد من وجهة نظر تاريخية، العهد القديم هو الكتاب الذي وفر للجميع (يهود ومسيحيين ومسلمين) القاموس اللغوي والمرجع الديني والأفكار الاساسية للتشريع لحروب الإبادة وقتل الهراطقة أوالتنكيل بهم . والمسيحيون أنفسهم، الذين يعتقدون في قدسية هذا الكتاب، يعترفون بذلك صراحة : «لا نجد (في العهد القديم) أي نص يعتبر الحرب شيئا قبيحا في ذاته، أو محرمة على الخدّام الأمناء للإله الحقّ (12) بل إنه يغلب عليه التحريض على الحرب والتقتيل ، وفي العديد من نصوصه هناك مدح وتزكية لأولئك الذين يقومون بتلك الأعمال الحربية مثل إبراهيم ، الذي باركه الكاهن ملكي صادق بعد أن قتل خلقا كثيرا من أعدائه : «لتكن عليك يا ابراهيم بركة الله العلي، مالك السماوات والأرض، وتبارك الله العليّ الذي رفع أعداءك الى يديك» (التكوين XIV، 19 20) ولنصرة شعبه وتمكينه من أعدائه وإفنائهم على بكرة أبيهم فإن الإله قادر أيضا على تعطيل حركة الأجرام السماوية وخرق قوانين الطبيعة . هكذا استجاب الرب لدعاء أحد أنبياء إسرائيل : «في ذلك اليوم الذي هزم فيه الرب الأموريين أمام بني اسرائيل، ابتهل يشوع الى الربّ على مسمع من الشعب يا شمس دومي على جبعون ويا قمر على واد أيلون فثبت الشمس، وتوقف القمر حتى انتقم الجيش من أعدائه (يشوع X 12 13 ) النصوص التي تبرر الحرب وتُثني على التقتيل والإبادة لا تحصى (الخروج XVII، 11 ، 16 ، العدد XXV ,11 التثنية VII، 19 القضاة، IV 1 4 ، X ، 16 ) الإله لا يحرض شعبه فقط بل إنه في عديد المرات ينزل هو نفسه ليحارب مع المؤمنين ويقاتل أعداءه (القضاة ، V، 20) الإله يهوه يُلقب أيضا بإله الحرب والقوة «قدسوا ربّ القوات» أشعيا، VIII ,13 إرميا، C، ( 25 ) العهد القديم يصور لنا الأنبياء كأنهم من المجرمين الدمويين : موسى وأخوه هارون ابتدآ رحلتهما الى أرض كنعان بسفك الدماء وقتل الملوك : «فأتانا النصر عليه من عند الربّ إلهنا، فدحرناه وأبناءه وسائر جيشه واستولينا على جميع مدنه، وقضينا في كل مدينة على الرجال والنساء والأطفال فلم ينج حيّ منهم . ولكن البهائم والأسلاب التي نهبناها من المدن أخدناها من المدن أخدناها غنائم لأنفسنا (التثنية، II، 33 35) نفس المصير لقيته شعوب وممالك أخرى «فحقق لنا إلهنا النصر أيضا على عوج ملك باسانا وعلى سائر جيشه فهزمناه حتى لم ينج منهم حيّ . واستولينا على جميع مدنه وكل قراه (...) فدمرناها ... وقضينا على الرجال والنساء والأطفال. ولكننا غنمنا لأنفسنا كل البهائم» وأسلاب المدن (التثنية، III، 3 7 )
ثم جاء يشوع خليفة موسى واقتفى أثره في التقتيل والتدمير والحرق والنهب «ودمروا المدينة وقضوا بحدّ السيف على كل من فيها من رجال ونساء وأطفال وشيوخ وحتى البقر والغنم والحمير (يشوع، VI 21) ، ولكن هذا الإفناء الجماعي لم ينسهم النهب والغنائم لإثراء «خزانة الربّ» أما كل غنائم الفضة والذهب وأنية النحاس والحديد، فتُخصص للربّ وتحفظ في خزانته (يشوع، VI، 19) معركة عاي يصورها كاتب سفر يشوع على أنها إبادة جماعية لمدينة بأكملها : «عندما ذبح الاسرائيليون كل السكان في عاي في الريف المفتوح وفي التيه حيث طاردوهم ، والمذبحة كانت كاملة . عادوا جميعا الى عاي ووضعوها تحت السيف ، فكان جميع من قتل في ذلك اليوم من رجال ونساء اثني عشر ألفا ، وهم جميع أهل عاي (يشوع، 25 VIII) التمثيل بالاعداء أصبح عادة ثابتة عند النبي يشوع ثم قتلهم يشوع بعد ذلك وعلّق جثثهم على خمسة أشجار، حتى المساء (يشوع ، X، 26) يمكن ان نواصل في عرض هذه الحروب البشعة الوحشية التي سردها ما يدعى بالكتاب المقدس الى ما لا نهاية ، ولكننا نكتفي بهذا القدر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.