تمر الذكرى الخامسة والخمسون لثورة 23 جويلية ولا تزال الامبريالية والطبقات الرجعية المستغلة (بكسر الغين) ترفع الشعارات الخادعة بعنوان الديمقراطية وحقوق الإنسان. هل صحيح أن الامبريالية وحلفاؤها وأدواتها في الأنظمة العربية الإقليمية والرجعية يريدون فعلا تطبيق الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان ؟ هذا ما سنجيب عنه في تحليلنا لمفهوم الديمقراطية في الفكر الليبرالي والتي تعمل الامبريالية على تسويقها بشتى الطرق ابتداء من نشرها مشوهة وصولا إلى فرضها على ظهور الدبابات عبر كرا زييها وجلببيها. وهل أن ثورة 23 يوليو وتطبيقاتها أجابت ولا تزال تجيب عن هذه القضية إيمانا منها بطبيعتها الشعبية وإخلاصا لمبادئها ؟ لئن كانت الديمقراطية مطلبا ملحا وحيويا في كل مراحل تاريخ المجتمعات والأمم وفي كل العصور من عصر أثينا إلى يوم الناس هذا إلا أنها أصبحت أكثر إلحاحا في مرحلتنا الراهنة خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي و انتهاء مرحلة النار الباردة. فمنذ أن تولت أمريكا زعامة العالم وانفردت بالقرار في بداية التسعينيات من القرن الماضي ازداد التلويح بشعار الديمقراطية وحقوق الإنسان . فهل يعني ذلك أن العالم الحر بزعامة أمريكا أصبح في يوم وليلة ديمقراطي إلى هذا الحد ؟ وهل يعني سقوط الأنظمة الاشتراكية هو نصر للنظام الرأسمالي والفلسفة الليبرالية عموما ؟ وللإجابة على هذه الأسئلة سنعتمد في قراءتنا المتواضعة على التجربة الناصرية وخاصة على قضية الديمقراطية في فكر عبد الناصر. أوّلا وقبل كل شيء لابد من تحديد طبيعة الليبرالية وانعكاساتها في الواقع السياسي والاقتصادي . أن الفلسفة الليبرالية تعتمد على القانون الطبيعي في فهم حركة المجتمع والفرد حيث الطبيعة هي التي تفعل فعلها تلقائيا دون تدخل الإنسان وهكذا يكون قانون التغيير الاجتماعي رهين التغير التلقائي للظروف . فتسير حركة المجتمع على هذا النمط من التطور فيصبح الفرد هو الأصل وإشباع حريته الذاتية هي الغاية . وإذا نزلنا هذا على المستوى الاقتصادي فيتحول القانون الطبيعي إلى قانون المنافسة الحرة وقانون العرض والطلب وبالتالي يصبح المحرك الأساسي في النشاط الاقتصادي هو قانون الربح وما ينتج عن ذلك من عملية تراكم وتمركز لرأس المال فيمارس الاحتكار على نطاق واسع فتسقط الشركات والمؤسسات الضعيفة الغير قادرة على المزاحمة وتولد شركات ومؤسسات جديدة قادرة على الوقوف في وجه هذه المزاحمة والاحتكار الذين يبلغان قيمة قصوى في مرحلة من مراحل تطور النظام الرأسمالي. ويتواصل هذا التطور التلقائي إلى درجة متقدمة فيصبح الرأس مال مالي بعد أن كان رأس مالا بضائعيا ثم تجاريا وصناعيا وتتراجع الشركات الصغرى تاركة مكانها للشركات الكبرى كالشركات المتعددة الجنسيات والتروستات وفي هذه المرحلة يبلغ النظام الرأسمالي أقصى درجات تطوره ولذلك سميت هذه المرحلة بالامبريالية كما عرفها لينين بأنها أعلى مرحلة من الرأسمالية حيث يقول تتميز هذه المرحلة بالتقسيم الدولي للعمل وتصدير رؤوس الأموال والبحث عن أسواق خارجية وبالتالي غزو واستعمار الشعوب والأمم الضعيفة . ولعل التوجه السائد الآن في عصر العولمة هو التوجه النيو ليبرالي من اجل الربح الأقصى وإعادة إنتاجه حيث تصبح القاعدة هي أن المال يولد المال ولاشيء غير المال على حساب حقوق الشعوب والأمم . جئنا فيما سبق على طبيعة الليبرالية وانعكاساتها الاقتصادية فماهي تأثيراتها السياسية؟ إن ابرز ما في التوجه السياسي للفلسفة الليبرالية هو إعطاء الحريات الأساسية للمواطن والجمعيات والأحزاب كحرية التعبير والصحافة والتنظيم والتظاهر وكل هذه الحريات تسمى في النظام الليبرالي بالحريات الديمقراطية . وهنا لابد من طرح السؤال التالي هل هذه الحريات هي منة من النظام الرأسمالي أم هي شروط يستجيب لها قانون الاستثمار والسوق من اجل مناخ اجتماعي يسود فيه السلم والوفاق الطبقي والاستقرار ؟ من الطبيعي أن يبحث رأس المال عن مناخ ملائم ينتعش فيه وينمو وبالتالي لابد من توفير الظروف السياسية والاجتماعية التي تؤمن الاستقرار وهذا لا يتأتى إلا بتوفير الحريات الديمقراطية . وتأسيسا على ذلك نقول إن الحملة الدعائية التي تروج لها أمريكا والدول الغربية في رفع شعار الديمقراطية هي في النهاية من اجل توفير مناخ للربح الرأسمالي لا أكثر ولا اقل بعيدا عن حالة الفوضى والتوتر الاجتماعي . وعلى النقيض من ذلك يفهم الفكر الناصري الديمقراطية على أنها انتصار لقوى الشعب العامل المتكونة من عمال وفلاحين ومزارعين صغار وجنود ومثقفين . الديمقراطية في فكر عبد الناصر هي انحياز موضوعي تلقائي لأصحاب المصلحة الحقيقية في المجتمع والأمة في التغيير الاجتماعي التقدمي إلا وهو الشعب .فإذا كانت الديمقراطية في الفكر الليبرالي هي تبرير لواقع الاستغلال الطبقي وتأكيد لطابع الربح الأقصى لفائدة الطبقة البورجوازية وكبار المالكين والفلاحين كما يقول جمال عبد الناصر في خطاب يوم 16سبتمبر 1953 لقد حكمتم زهاء ربع قرن في ظل دستور يضارع أرقى الدساتير وفي برلمانات متعددة جاءت وليدة انتخابات متتالية. حكمتم باسم الديمقراطية ولكنكم باسم الديمقراطية المزيفة لم تنالوا حقوقكم ولم تنالوا استقلالكم. ولم تنعموا يوما واحدا بالحرية والكرامة التي لم يكفلها الدستور في عهودهم إلا لهم من دون الشعب. فخسرتم كل شيء وكسبوا كل شيء حتى ثرتم على هذه الأوضاع فحطمتموها فمن منا يمكن أن يقبل أن تسلم الثورة أمر الشعب باسم الديمقراطية الزائفة باسم الدستور الخلاب وباسم البرلمان المزيف إلى تلك الفئة من المخادعين ؟. ومن هنا نفهم أن الديمقراطية في فكر عبد الناصر هي على طرفي نقيض من الفكر الليبرالي فإذا كانت الديمقراطية في الفكر الليبرالي هي تخدم في الأساس الطبقة البورجوازية وحلفائها وذلك بإيجاد الظروف السياسية والاجتماعية الملائمة لذلك كما سبق ذكره فان الديمقراطية في فكر عبد الناصر هي خدمة قوى الشعب العامل صاحبة المصلحة الحقيقية في الديمقراطية. فليس من قبيل الصدفة أن يقوم عبد الناصر بتحديد الملكية للفلاحين ويسن قوانين لفائدة الفلاحين الصغار تشجعهم على استصلاح الأراضي وملكيتها بعد أن كانوا تحت رحمة الإقطاعيين واستبدادهم .إن هذا التوجه هو الذي يعطي مضمونا اجتماعيا للديمقراطية في فكر عبد الناصر.إن الاجرآت الثورية التي جاءت في ميثاق 1961 والتي تؤكد وقوف الثورة إلى جانب العمال برفضها القطعي لرأس المال المستغل و بتدعيم الرأس المال الوطني وتذويب الفوارق الاجتماعية خدمة للطبقات الشعبية يدل مرة أخرى على أن الديمقراطية في فكر عبد الناصر محتواها اجتماعي وقاعدتها الجماهير الشعبية وفي هذا الخصوص يقول عبد الناصر أن الديمقراطية هي الحرية السياسية والاشتراكية هي الحرية الاجتماعية ولا يمكن الفصل بين الاثنين . إنهما جناحا الحرية الحقيقية وبدونهما أو بدون أي منهما لا تستطيع الحرية أن تحلق إلى آفاق الغد المرتقب ويؤكد على معنى الديمقراطية فيقول انه لا معنى للديمقراطية السياسية أو للحرية في صورتها السياسية من غير الديمقراطية الاقتصادية أو الحرية في صورتها الاجتماعية. فإذا كانت الديمقراطية في الفكر الليبرالي تعني تزييف إرادة الشعب عبر شراء الأصوات حيث باستطاعة الطبقات الرجعية المستغلة والمتحكمة في رأس المال استعمال النفوذ المادي والسياسي لجلب الأصوات فان الديمقراطية في فكر عبد الناصر هي تعبير صادق عن ضمير الشعب وترجمة حقيقية لكل طموحاته في التحرر من هيمنة الاقطاع ورأس المال المستغل وفي ا الإطار يقول عبد الناصر أن حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق في لقمة العيش .إن حرية التصويت من غير لقمة العيش وضمانها فقدت كل قيمة وأصبحت مضللة للشعب فإذا كانت الديمقراطية في الفكر الليبرالي هي صمام الأمان لرأس المال والاقطاع فان الديمقراطية في فكر عبد الناصر تعني تجسيد فعلي للعدالة الاجتماعية في مضمونها الاشتراكي وبالتالي تامين قوت الشعب وحمايته من الاستغلال الطبقي وتأكيد سيادته الوطنية . فيقول عبد الناصر في هذا الباب أن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تنفصل عن الديمقراطية الاجتماعية وان المواطن لا تكون له حرية التصويت في الانتخابات إلا إذا توفرت له ضمانات ثلاثة أن يتحرر الإنسان من الاستغلال في جميع صوره. وان تكون له الفرصة المتكافئة في نصيب عادل من الثروة الوطنية. إن يتخلص من كل قلق يهدد امن المستقبل في حياته. بهذه الضمانات الثلاثة يملك المواطن حريته السياسية ويقدر أن يشارك بصوته في تشكيل سلطة الدولة التي يرتضي حكمها .