كَلِمَاتُنَا والفَاظُنَا وجُمَلُنَا... مفاتيح لذواتنا... هكذا استقر في خاطري الأمر وأنا أرقب اختلاف الناس بعضهم عن بعض أرقبهم وهم يتحدّثون... الناس لا يتكلمون بنفس الطريقة، النسق مختلف من شخص لآخر مختلف بسرعته وتواتره، النبرة كذلك مختلفة بين الاشخاص، أما الملفوظ فهو الاشد تمايزا بين الافراد ولا نقصد هنا اللهجة بل أصل الملفوظ، المنحدرون من بيئة ريفية ترى معجمهم مستمد من محيطهم: تعريفات الفصول والليالي فلاحية والازمان مقترنة بمواسم جني الثمار... والاوصاف لا تخرج عن التشبيهات الزراعية، فالطفل كالجدي والخبز كالقمر والحاجب كقرن الخروّب... أما تركيبة الجملة البدوية ذاتها فتختلف تماما عن الجملة الحضرية فهي اكثر وضوحا واقل تنميقا ومجاملة وأوسع نفاذا الى الهدف. الألفاظ التي يستعملها ساكن الحضر مختلفة ايضا ومستمدة من محيطه، إذ يتعلم أولا خفض الصوت نتيجة التجاور والتقارب وكثرة الناس ثم هو يستمد الفاظ معجمه من محيطه فلن نراه يستعمل «الراقوبة أو الكدية» لتحديد الامكنة بل يستعمل «الربط والسبّاط والبطحاء» وسنجد في كلامه مداورة ومخاتلة ومنسوب نفاق اجتماعي أقوى وهو ما يسبب للريفي مشاكل نفسية كبيرة حالما يعاشر أهل المدن لا لأن ذلك مستحيل بل لأن الطبائع واللغة مختلفة، فشتان بين علاقات أفقية بسيطة ومنفتحة وبين علاقات مركبة وعمودية، بين لغة مقتصدة وواضحة وبين لغة مترفة نسقها أبطأ ودلالاتها أشد ميوعة. كان لابد من هذا التقديم لأصل الى ما أردت قوله وهو الاختلاف في مستوى المعجم بين القادمين من محيط ريفي وبين غيرهم وبداية ضياع هذا المعجم شيئا فشيئا وسط زحمة المعاجم الوافدة من الفضائيات ومن منجزات التقنية مثل (الزابينغ والشات والس أم أس...) ألفاظ تنضاف كل يوم الى استعمالاتنا والفاظ اخرى تندثر... لقد بات الامر يتطلب مني مثلا، جهدا لأتذكر مطلحات ودَوَالٌ لما كان يحويه مطبخ أمي الصغير فأعجز عن تذكر اسم تلك الجرّة المتوسطة بين القلّة الصغيرة وجرّة الزيت الكبيرة والتي كانت مخصصة لتمليح الزيتون والفلفل الاخضر... لقد اعيتني الحيلة حتى تذكرت ان إسمها «المخفية» أما الجرة التي يخزن بها الكسكسي فتسمى «مضرب» لقد نسيت اسماء الغرابيل فلا أذكر سوى غربال «الشعر» أو «الزرّاد» برغم ان انواع الغرابيل التي أعرف ان أمي كانت تملكها يتجاوز السبعة، اما العصى القصيرة التي كانت امي تدير بها رحى القمح فلا أتذكرها رغم محاولاتي المتكررة، اما إذا خرجت من المطبخ نحو السقيفة فسيتضاعف مأزقي فلا أتذكر الا بصعوبة اسماء ومكونات منسج أمي فهذه هي «الخلالة» وهذا «الرطّاب» وهذه خيوط الجدّاد والطُعْمَة وهذه قائمة المنسج وتلك «القدّامة» التي تسحب المنسوج الى الجانبين ليكون صلبا لا مجال للفراغات فيه. الفاظ كثيرة أعجز اليوم عن تذكرها أستحضرها صورا في خيالي فاتذكر اسم الواحد منها بعد ايام ولا أتذكر الباقي، استغرق الامر مني قرابة الاسبوع حتى تذكرت اسم «القدّامة» وقررت ان اسأل أمي عن كل هذه الاشياء وسأكتبها لأنها صارت تغيب عني كما بدأتُ أفقد ايضا اسماء الكثير من النبات، واسماء تجهيزات ركوبة أتان أبي كالشكيمة والبردع والشارية...» حتى اسماء ملابسه ذاك الاب الشامخ دوما بدأت اسماؤها تغيب عن لساني وقلبي مثل (البلوزة التونسي الفرملة البدعية الكدرون الدكة التلثيمة...) أتذكر كل هذا وأنا أشتم رائحة برنسه الشتائي رغم الغياب... كلما حملتني كاميرا الذكرى الى احدى أركان بيتنا العتيق اكتشفت ان مسميات الكثير من الاشياء بدأت تغيب عني فأتذكرها بصعوبة، غابت لأني لم أعد أراها أمامي أو أعايش تفاصيلها بدأت أفقد اسماء عُدّة جني الزيتون (الصوابع والصرّافة والخيش...). بدأت أنسى اسماء الآلات الفلاحية «المنجل والقادومة والنابوت والمسحة والفورشة والجاروشة» وغيرها، لا أتذكر اليوم ما اسم غطاء الطابونة أو آنية الخبز الصغيرة فوق الفرن الصغير... اعتقد ان اسمه «غنّاي» واسم الفرن الصغير «زحّافة» ماذا سأتذكر من كل ذاك الزخم اللغوي والاصطلاحي الهائل؟ إن الامر يحتاج جهدا توثيقيا رهيبا من اجل حماية الذاكرة اللغوية أمام سطوة المعجم الوافد الذي يفرضه تسارع نسق الحياة. هذا النسق الذي نسايره بوعي وانخراط مسؤول في تفاصيله، نسايره لأننا ابناء وقتنا وبيئتنا، فلسنا أبدا من الماضويين أو الرافعين شعار السلف ولكننا منتصرون لهوياتنا وجذورنا وباحثين أبدا عن أرض نطير منها الى...