إن إشراك المرأة في صنع القرار على مستوى العالم، مازال قضية تبحث عن حلول على الرغم من مرور خمسة عقود على اعتماد الاتفاقية الدولية لحقوق المرأة السياسية، والتي اعتمدتها الجمعية العمومية للامم المتحدة سنة 1954، ورغم عديد الاتفاقيات الدولية التي عززت مكانة المرأة في المجتمع الدولي الا انها مازالت تتعرض لانتهاكات متواصلة، ويمارس عليها الكثير من العنف والتمييز، تواجهه المرأة بشكل يومي، سواء في التعليم او في الوظائف القيادية أو في المشاركة في صنع القرار... وهذه الصورة هي اكثر وضوحا على مستوى العالم الثالث حيث تتعرض المرأة لممارسات عنف وتمييز، تهدد صحتها وتعلمها ومكانتها وتسلبها كرامتها كقضايا مثل ختان البنات والزواج المبكر، والحرمان من التعليم، والتمييز بين الذكر والانثى، والحرمان من الميراث، ومن ممارسة العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات... وما شابه ذلك. وتعتبر الحركة الإصلاحية التي ظهرت بتونس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والتي انشأها الوزير خير الدين باشا التونسي صاحب كتاب «أقوام المسالك في معرفة احوال الممالك» وهي اول حركة سياسية واجتماعية وثقافية اهتمت بحقوق المرأة وبفاعلية دورها في المجتمع ورغم ان نسبة قليلة من النساء اصبحن يتمتعن بحقهن في التعليم، فإن المرأة التونسية ظلت آنذاك محرومة من حقوقها الاجتماعية والسياسية. وفي هذا الصدد اعتبر الطاهر الحداد امتدادا تاريخيا للحركة الاصلاحية بها، التي انطلقت مع خير الدين التونسي ومحمود قابادو واحمد ابن ابي الضياف، ومحمد بيرم الخامس، ومحمد السنوسي وغيرهم ممّن آمن بضرورة مسايرة العصر، فوجدنا الطاهر الحداد في مؤلفه «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» متضمنا وداعيا للقيم السمحة التي يقوم عليها الدين الاسلامي مثل مبدأ حب الحرية، ونبذ الاستعباد والاسترقاق ، والحرص على التآلف والمودة في العلاقات الزوجية، والتراحم بين اعضاء المجتمع، والدعوة الى تحرير المرأة من القيود كافة التي تكبلها، فارتفعت اصوات المعادين لذلك والرافضين له عاليا، مطالبين بمنع الكتاب ومكفرة صاحبه الذي لم يلبث ان مات حسرة وكمدا. إن الدعوة الجريئة والصريحة التي اطلقها المصلح الطاهر الحداد، الداعية الى تحرير المرأة عرفت طريقها الى التجسيم منذ الاشهر الاولى للاستقلال بقرار جريء من الزعيم بورقيبة فتم إصدار «مجلة الاحوال الشخصية» في أوت 1956 والتي من خلالها أمكن للمرأة التونسية أن تستعيد انسانيتها وذلك بانعتاقها من جحيم ظاهرة تعدد الزوجات ومن الطلاق التعسفي... وتمكنت من الحصول على حقوقها كاملة، بعد ان تصدت هذه المجلة لكل مظاهر الاستغلال المعنوي والجنسي، وأعادت للمرأة كرامتها بإتقان متناه ومن ثم اصبح لا فضل للرجل على الأنثى ولا للأنثى على الرجل الا بالاجتهاد والعطاء والعمل وكلاهما يعملان على حد السواء لتحمل عبء الحياة معا دون تفرقة او تمييز بحقوق متساوية. وكان من نتائج ذلك تنظيم الاسرة التونسية ووعي المرأة «الام والزوجة» والاب ايضا باهمية عدم تعدد الزوجات وبضرورة تحديد النسل وتنظيمه الشيء الذي نتج عنه الحد من ظاهرة الولادات وتخفيف الحمل على الوالدين معا مما جعل الكثير من الدارسين والمهتمين بقضايا المرأة يقرون بان سياسة تونس في مجال المرأة والاسرة والطفولة سياسة رائدة ليس على المستوى المغاربي والعربي فقط بل لها أن تتباهى حتى بين الدول الاوروبية والامريكية. إن هذه المكاسب والمنجزات قد حافظت عليها تونس اليوم، وتمّ تدعيمها من أعلى هرم السلطة بهدف تعميق ما ورد في «مجلة الاحوال الشخصية» لارساء دعائم وأسس صلبة لبناء مستقبل مشرق للمرأة خصوصا وللاسرة التونسية عموما، فجاءت القرارات الرئاسية في سنتي 1992،1996... لتدعيم حقوق المرأة وتفعيل دورها داخل الاسرة في اتجاه تحقيق شراكة فاعلة بين أطراف الاسرة وخاصة الابوين للمحافظة على التماسك الاسري، ولحماية الاسرة من كل اشكال الانحراف والانحلال والفوضى، وما إصدار قانون حماية المسنين وصدور مجلة حقوق الطفل الا استكمال لهذا المشروع في مجال النهوض بسياسة تونس من المجال الاجتماعي والاسري.. وفعلا نجد المرأة التونسية اليوم واعية ومدركة بمجمل الرهانات والتحديات المطروحة فنجدها مواكبة لمعظم التحولات العالمية في مجال الاستثمار واستحداث المؤسسات والاندماج الواعي في الاقتصاد الحديث ونثمن في هذا السياق مساهمة المرأة التونسية في دعم اقتصاد البلاد خلال السنوات الاخيرة ولا سيما الباعثات المتحصلات على الشهادات الجامعية اضافة لما ابدته المرأة الريفية من جهد لبعث المشاريع وباحداث مواطن الرزق مساهمة منها في الحركة التنموية. ونؤكد بان الشراكة بين المرأة والرجل في تصريف شؤون الاسرة والمجتمع هي مفتاح التقدم ولا يوجد في تونسنا اليوم حاجز او مانع يعوق هذه الشراكة بفضل تعدد الافاق امام المرأة للاقبال على التعليم والتكوين واقتحام ميادين العمل والانتاج والانخراط في مجال التمويل والاستثمار واكتساب المعارف والمهارات بما ييسر لها الحضور بثقة في سوق الشغل والتألق في اختصاصاتها المهنية المختلفة مما جعلها شريكا فاعلا في العملية التنموية ذات الاهداف الواضحة المعالم، تعتمد وتحاول ان تشرك كل فئات المجتمع التونسي في بعد تضامني واسع باشراك المرأة والرجل، السوي والمعوق، سكان الريف والمدينة العمال بالفكر والساعد وجميع الفئات الاجتماعية دون استثناء في عمل مستقبلي يهدف في النهاية الى تعميم التنمية في كامل انحاء البلاد. لقد جعلت تونس من شراكة المرأة مع الرجل في الاسرة وفي المجتمع أمرا محسوما، ومن تحملها للمسؤوليات العامة وحضورها في مواقع القرار حقيقة لا جدال فيها والدعوة موجهة اليها اليوم الى مزيد مضاعفة جهودها حتى تكون في مستوى الآمال المعلقة عليها، والمسؤولية الموكلة اليها في بناء مستقبل تونس، فهي اليوم حصن من حصون مناعة البلاد ووجه مشرق مجسم للتقدم والحداثة. إن المكاسب التي تحصلت عليها المرأة التونسية، يمكن ان تكون مثالا يحتذى في هذه المرحلة الصعبة التي يمرُ بها العرب والمسلمون حيث لا يزال ينظر اليهن في العديد من المجتمعات العربية والاسلامية نظرة دونية.