السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بطولة انقلترا: مانشستر سيتي يكتسح ليفربول بثلاثية نظيفة    الصندوق العالمي للطبيعة بشمال إفريقيا يفتح باب التسجيل للمشاركة في النسخة الثانية من برنامج "تبنّى شاطئاً"    مدير "بي بي سي" يقدم استقالته على خلفية فضيحة تزوير خطاب ترامب    هل نقترب من كسر حاجز الزمن؟ العلم يكتشف طريقاً لإبطاء الشيخوخة    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    قابس: حريق بمنزل يودي بحياة امرأة    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مسيرة مفكر ملتزم
كرنيليوس كاستورياديس
نشر في الشعب يوم 04 - 11 - 2006

ولد المفكر اليوناني كاستورياديس في سنة 1922 وتوفي سنة 1997 بباريس بعد أن قضى الجزء الأكبر من حياته بفرنسا. يمكن القول أن كاستورياديس عاش إلى حد ما مغمورا فلا هو من بين السياسيين المعروفين ولا هو مفكر ذو صيت. يمكن الجزم أن سنة 1968 كانت بداية ظهوره وبروز أفكاره. بعد أن غادر اليونان وهو في سن العشرين (هربا من الدكتاتورية العسكرية التي حكمت عليه بالإعدام) توجه إلى فرنسا حيث زاول تعليمه.
عمل في البداية كخبير في الاقتصاد بإحدى المؤسسات العالمية.
أسس مع ثلة من رفاقه أمثال Claude Lefort و Jean François Lyotard و Edgar Morin و Guy Debord وغيرهم مجموعة «الاشتراكية أو البربرية» وكان يكتب مقالاته بأسماء مستعارة لكي يتجنب طرده من عمله ثم ما لبث أن استقال وأصبح أستاذا جامعيا في العلوم السياسية علاوة على ممارسة مهنة المحلل النفساني Psychanalyste
يمكن تقسيم كتاباته إلى جزأين هامين :
- من سنة 1946 إلى سنة 1967 : كتابات سياسية.
- من سنة 1968 إلى سنة 1997 : كتابات يلتقي فيها التحليل النفسي بالعلوم والأنتروبولوجيا والسيوسيولجيا والتاريخ والسياسة والفلسفة.
هذا ما جعل المؤسسات الجامعية لا تقدر على تصنيف هذا المفكر. في الحقيقة يعود هذا الاختفاء إلى كون كاستورياديس كان سباقا إلى نقد النظام السوفياتي وبالأخص الستاليني (بالرغم من أنه بدأ تجربته السياسية كماركسيا) في وقت كان ذلك يعدّ من المحرمات. في البداية كان هذا النقد ينطلق من أسس ماركسية ثم ما لبث كاستورياديس أن طور مقاربة جديدة تقطع مع هذه الأيديولوجيا وذلك دون أن يسقط في حبال الفكر الليبرالي كما كان ذلك بالنسبة لما عرف ب» الفلاسفة الجدد».
لخص زبدة أفكاره في كتابه الشهير : « التأسيس الخيالي للمجتمع» الذي صدر سنة 1975 عن دار « سوي» ( L'institution imaginaire de la société) .
تصب أفكار كاستورياديس باتجاه إعادة الاعتبار لمعنى التحرر الفكري والعملي وقد ارتبط ذلك برفضه للفلسفة التي تؤمن بالتحديد Déterminisme وتتلخص في نظام فكري مغلق.
لا يمكن أن نختزل أفكار كاستورياديس في الخط النقدي للشمولية والذي طوره عديد المفكرين مثل Hannah Arendt أو Raymond Aron . فنقد الشمولية لدى كاستورياديس لا ينحصر في الدفاع عن المؤسسات الديمقراطية أو حقوق الإنسان المجردة أو في الدفاع عن أسس المجتمع الليبرالي ولكنه لا ينفصل عن نقد الليبرالية وعن تصور لمجتمع متحرر « أوتونومي» . التعارض بين الديمقراطية والشمولية ليس له من معنى إلا متى أدى إلى إعادة التفكير في الديمقراطية ذاتها وذلك على ضوء التجارب التاريخية : التجربة الأثينية الثورة الديمقراطية في الغرب الحركة العمالية المعاصرة
كاستورياديس والفلسفة :
من العوامل التي جعلت كاستورياديس لا يبرز كفيلسوف معاصر موقفه الخاص من الفلسفة دورها آفاقها ممارستها أهدافها والمتعارض مع الفكر الرائج.
فهو لا يتطرق للفلسفة بصفته مؤرخا لها ومؤوّلا أو مفككا. في الحقيقة هناك صورة نموذجية غالبة للفيلسوف المعاصر ورائجة في أوساط الجامعيين بالأخص ومفادها أن الفيلسوف المعاصر هو ذاك الذي يمارس هذا النشاط كمحلل ومؤول فتصبح فلسفته «تلخيصا تاريخيا» للفلسفات السابقة ولتراث ميتافيزيقي مغلق (وهذه الرؤية لا تخلو من إدعاء وغرور)
رفض كاستو رياديس فكرة نهاية الفلسفة لدى هيجل وهيدغر وغيرهما واعتبرها دليلا على العجز عن تجاوز المألوف من الفكر وعن ابتكار الجديد.
فالسمة الغالبة للفلسفة أنها أصبحت ضربا من التأويل والتحليل والمراجعة المضاعفة والقراءة المتكررة لأفكار سابقة وهذا يفضي إلى حالة من التقطع والتمزق للتاريخ ولتاريخ الفلسفة بالذات فإذا بها تتجاذبها كل من الدراسات الأكاديمية والمهاترات التفكيكية.
لقد كانت الفلسفة دائما مراجعة للدلالات الموروثة لكن الاتجاه الغالب عليها هو انغلاقها على نفسها (لكن حتى في هذه الحالة فهي تسمح بوجود مجال مشترك لتبادل الأفكار والصراع).
الفلسفة « العظيمة» والجديرة بالاحترام والاعتبار هي تلك التي تسمح بقطع سياج الفكر الموروث. فنحن نجد بذورا لهذا التجاوز لدى فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو وكنط وهيجل وغيرهم بالرغم من أننا قد نعارض محتوى هذه الفلسفات. فالفيلسوف والمفكر الجدير بالاحترام هو ذلك الذي يتجاوز فكره أدواته ويفكر في شيء لم يقع التعرض له.
يتوجه كاستورياديس بالنقد إلى المحاولات الجينيالوجية والتفكيكية لدى مفكرين أمثال فوكو ودريدا لأنهم يدمجون الأشياء بأصلها وبوظيفتها ويختزلون قضية الحقيقة في مجرد اختلاف في التأويل وهذا جليّ لدى فوكو الذي يرى أن الإدعاء بالقبض على الحقيقة هو سمة من سمات البحث عن السلطة. إنه الهروب من طرح قضية الحقيقة وهذا ما ميز الأزمنة المعاصرة.فليس من مهمة الفلاسفة تفكيك المقولات والبحث في المسكوت عنه. المهم ليس في أن نعرف من أين يأتي الكلام والتفكير ولكن أن أتساءل بماذا أتكلم وبم أفعل وماذا يجب أن أفعل.
الفلسفة بالنسبة كاستورياديس هي التساؤل الدائم الذي لا يتوقف والمراجعة الجذرية للدلالات الموروثة وذلك بغاية توسيع مجالات الأوتونوميا والاستقلال الفردي والجماعي. فممارسة الفلسفة لا تنقطع ولا تنفك عن المشروع السياسي للتحرر بل هما متلاصقان. فلقد نشأت الفلسفة والديمقراطية في نفس الفترة ونفس المكان. فتضامنهما ناتج عن كونهما تعبران عن رفض الهيترونوميا عكس الأوتونوميا ورفض الادعاء بصحة القواعد والتمثلات الموجودة والموروثة والسائدة ورفض وجود سلطة خارجية ومنبع وأصل خارج عن المجتمع للحقيقة والعدالة.
إذن هي مساءلة دائمة للمؤسسات الموجودة والإقرار بأن الفكر والمجموعة يتأسسان بصفة معلنة ونقدية. إذن واستنادا لكل ما ذكر، لا وجود لعقلانية مطلقة أو عقلنة ما دامت الحقيقة نسبية لكل مجتمع ومؤسسة ولا وجود لعقل مطلق كما لا مجال للموقف الارتيابي واليائس والمبالغ في الشك والذي يؤدي إلى رفض العقل.
يرفض كاستورياديس وهم المعرفة المطلقة الذي سقط فيه هيجل. فمع أن الفلسفة تعتني بالكليات فإنها تتعرض أيضا للتنوع والتغيير والتعدد داخل الوحدة. ينقد كاستورياديس الفلسفة الموروثة أو ما يطلق عليه بالأنطولوجيا الموروثة والمتطابقة كنظرية الأسس والجواهر. فمفهوم الوحدة يتغير بتغير الميادين : المكان الزمان التكوين البيولوجي التكوين النفسي التكوين الاجتماعي . فكل ميدان ينتظم بطريقته الخاصة وبارتباط بالمستويات الأخرى.
فالوجود متعدد ومتغير و تعدد المستويات لا يمثل نظاما (واحدا وجليا ونهائيا) ولكن خليطا Magma ولا يمكن اختزاله في منطق صارم
المشروع الفلسفي لكاستورياديس :
مشروع كاستورياديس الفلسفي متعدد الجوانب. فلقد تطرق إلى قضايا متعددة : الكائن الحي الكائن النفسي المجتمع التاريخ الفلسفة تاريخ العلوم السياسة -الديمقراطية .... مسائلا عديد المفكرين وعديد المدارس الفلسفية واضعا بصمته الخاصة.
يعرف كاستورياديس مستويات متعددة للكائن :
الكائن الأول: بصفته : فوضى تشوش بئر دون قاع وهو موضوع الأنطولوجيا والميتافيزيقيا.
الكائن الحي : الخلية والكائنات الحية المعقدة هو الكائن الأول لذاته وهو موضوع البيولوجيا وفلسفة الكائن الحي.
الكائن النفسي : بصفته بروز وانبثاق لخيال ولا يخضع لأي وظيفة, فهو يمثل القطيعة الأولى مع نظام الكائن الحي (الكائن الأول لذاته) بصفته يميز الكائن البشري عن بقية الكائنات الحية وهو موضوع علم النفس التحليلي.
الكائن الاجتماعي التاريخي : وهو انبثاق أنطولوجي لمؤسسات ودلالات وهو ما يفسر تباين وتعدد الحضارات والثقافات وهو موضوع للسوسيولوجيا والأنتروبولوجيا والتاريخ.
الكائن الذات: هو إقرار بالاستقلال والأوتونوميا الجذرية والعميقة لذاتية بشرية تراجع نفسها وهي الشكل الأقصى لكائن لذاته ومصدر للمخيال بصفته قوة خلق مستقل ومعلن وبارز للعيان وهو موضوع الفكر السياسي.
لا يمكن اختزال هذه المستويات واعتبار أن أحدها يحدد الآخر. فالعلاقة بينها متشعبة ومعقدة.
بخلاف كنط, يرى كاستورياديس أنه لا توجد شروط قبلية للتجربة والممارسة. فالتجربة ذاتها هي التي تحدد في كل مرة شروطا فاعليتها. كما يفنّد كاستورياديس الفكرة القائلة بوجود نظرية شاملة ومكتملة للحقيقة وللتاريخ. لكن كيف يمكن لكاستورياديس أن يدعو إلى مشروع مجتمع مغاير والحال أنه ينفي وجود معرفة مطلقة وتصور عقلاني صرف قبلي للمستقبل. يجيب كاستورياديس بأن غياب المعرفة المطلقة لا يتنافى مع النشاط الواعي والحر فهذا الأخير يمثل الشرط الضروري للمعرفة. إذن لا بد من مراجعة رؤيتنا للعلاقة بين النظرية والممارسة. فالنظرية ليست تأملا لشيء مطابق ولكنها كشف لواقع وظروف وشروط تطوره وتغييره. الممارسة أو « البراكسيس» هي الممارسة الحرة والمتحررة.
فالسياسة الحقيقية والبيداغوجيا الحقيقية والطب الحقيقي كلها تنتمي للممارسة. من هنا نفهم رفض كاستورياديس للمفهوم الرائج للسياسة بصفتها تطبيقا لنظرية مسبقة ومكتملة وذلك بالتوسط بأدوات وتقنيات. فرغم أن الممارسة هي نشاط واعي لكنها ليست تطبيقا لمعرفة مسبقة فحتى وإن استندت لمعرفة فهذه الأخيرة تظل جزئية ووقتية. فالممارسة تسمح بانبثاق معرفة جديدة لأنها تخاطب العالم بلغة هي في نفس الوقت كونية وفريدة.
هذا لا يعني أنه لا وجود لنشاط عقلاني أو أنه يمكن لنا أن نسمح بحرية مطلقة. كما أن ذلك لا يعني أن المعرفة هي رأي من بين جملة آراء وبذلك نروج لنظرية «فوضوية» للمعرفة.
يرفض كاستورياديس أن يرى في هزيمة الماركسية وتقهقرها إقرارا باستحالة تجاوز الهيترونوميا والألينة. فنحن لسنا أمام خيارين لا ثالث لهما :
إما التبعية والتذيل أو العدم والفراغ بل نحن أمام خيارين هما : المجتمع الهيترونومي المكبل والمجتمع الأوتونومي المتحرر والواعي بأن مؤسساته هي من صنعه وبالتالي قابلة للتجاوز في أي لحظة.
الأوتونوميا أو الاستقلال الذاتي ليست كما هي لدى ديكارت وعيا وجوهرا مغلقا تتلخص في عملية التفكير والتفكير في الذات ولا هي كما لدى كنط ذات أخلاقية تخضع لقوانين قبلية ومعطاة مسبقا. فلا وجود لأنا متعالية, أولية, فريدة ومنعزلة.
فالذات تنصهر في موضوعها من خلال الاختيار والتوجه الواعي والإرادي والممارسة ولا يمكن أن تعي بذاتها إلا بانصهارها في المجموعة ولا ينفصل ذلك عن الممارسة أو البراكسيس.
فالذات هي أساسا فعلية وفاعلة ويشقها عالم وتتداخل فيها ذوات أخرى.
الذات شكل ومحتوى, هي بناء علاقة جديدة بين رغبة الفرد ووعيه. الأوتونوميا هي بناء فكر منعكس على نفسه في موقع النوازع اللاواعية وغايتها تدعيم الأنا وحضورها وترسيخ استقلاليتها عن الأنا المتعالية الدلالات المهيمنة في المجتمع المعايير المؤسسة السلطة المتعالية الممارسة المستقلة والمتحررة هي أن لا نترك لا وعينا يحدد نشاطنا وأن نبني علاقة منعكسة على ذواتنا بفضل مخيالنا دون أن نصبح أسرى لأي مستوى من هذه المستويات. هي وضعية نشيطة متحركة لا نهائية ولا يمكن تعريفها وتحديدها في وضعية مثالية. إنها الحالة الفعلية لشخصية في الواقع وهي لا تتوقف عن الحركة والنشاط ومراجعة المسلمات وخطاب الآخر من أجل الكشف عن أوهامها. هذا لا يعني أن نطمس اللاوعي ونضيق عليه الخناق ولكن يفترض إيجاد علاقة توازن متحركة بين نقد واعي ومخيال خلاق.
هنا نصل إلى مسألة جوهرية في فكر كاستورياديس ألا وهو المخيال سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي التاريخي.
الخيال
استقى كاستورياديس مفهوم المخيال الجذري من دراسته لفرويدو»ميرلوبونتى» دون التوقف عليهما. تبرز لنا دراسة التاريخ أن هذا الأخير لا يخضع لعلاقات سببية وأنه لا يمكن تفسيره.
التاريخ هو مسرح للجديد والمغاير والفذ والمختلف و لا يمكن لنا التنبؤ مسبقا بما سيحل.
في الحقيقة يبرز التاريخ بصفته خلق ذاتي للأفراد والمجموعات والطبقات والشعوب والمجتمعات. هذا لا يعني أن التاريخ يبنى من لا شيء وأن الشروط الاقتصادية والثقافية والفكرية لا تفعل في ذلك الخلق فعلها لكنها لا تفعل في عملية الخلق هذه فعلا سببيا.
فمعرفتنا بهذا الخلق تأتي لاحقا. المخيال الجذري هو الذي أنتج اللغات والمؤسسات. هو خلق اجتماعي مؤسِّس بكسر السين بصفته خلق جماعي لدلالات جديدة وتغيير لأخرى ومؤسّس بفتح السين أي مجموعة المؤسسات القائمة والتي تجسد هذه الدلالات المؤسسات السياسية والتقنية والثقافية والمعايير والقوانين التأسيس هو الذي يجعل من المجتمع كلا واحدا. التأسيس الجماعي يتجاوز مجرد إضافات لتأسيس فردي أو كنتيجة لتذاوت Intersubjectivité. فهناك صراع دائم بين المؤسّس بفتح السين والمؤسّس بكسر السين والتاريخ هو حصيلة هذا الصراع.
غالبية المجتمعات بنت مؤسساتها وقوانينها ومعاييرها وأحالتها إما لقوى متعالية وغيبية ومستقلة عن المجتمع أو لقوى خفية كاليد الخفية الليبرالية أو قوانين التاريخ كما هي بالنسبة للنظرية الماركسية والحال أن عملية الخلق هي إنجاز بشري وخلق متواصل.
على ضوء ما سبق كيف يتراءى لنا مشروع كاستورياديس لمجتمع أوتونومي (société autonome)؟ هو مجتمع يؤسّس ذاتيا وبصفة واعية ومعلنة وبصفة دائمة ومستمرة. هو نشاط دائم يتجاوز الجانب الاجتماعي الصرف ولا ينحصر في القضاء على أشكال الاستغلال الاجتماعي والاقتصادي بل هو تأسيس متواصل ومراجعة جذرية لعلاقة الإنسان بالإنسان وعلاقته بأدواته ووسائل عمله ومحيطه وفكره وتاريخه وفنونه وسلطته ذاتها.
هو مشروع الكائن الذات والكائن المجتمع التاريخي الاجتماعي الذي يكسّر السياج الموروث ويبني ويراجع ويتجاوز عن وعي. هو ذلك الفرد الذي يرفض التطابق والتقليد والخضوع فلا تنحصر رؤيته لنفسه في ذاته الفعلية والحاصلة في الواقع بل تتجاوزها في ذات أخرى قابلة للوجود.
كل ذلك يفترض تحرير المخيال الجذري أي تلك القدرة اللامتناهية على تصور الفذ والمغاير والجديد.
لقد تعرض كاستورياديس إلى أزمة المجتمعات الغربية المعاصرة وبالأخص إلى افتقادها القدرة على تمثل ذاتها والناتج عن تذرر المجتمع كما تعرض إلى عجز مختلف الأيديولوجيات الوثوقية عن إيجاد رد صريح وفعلي على هذا الوضع المتردي وما أدى إليه من حروب وكوارث بيئية. بالنسبة لكاستورياديس لا يمكن تجاوز هذه الوضعية إلا بتحرير ذلك المخيال الجذري الفردي والجماعي والمساهمة في صياغة مستقبل مغاير لا يكون خاتمة الفكر والتصور لكنه يفتح آفاقا جديدة للإنسانية. فتجاوز الحالة المتردية التي تميز العهود المعاصرة لا يكون بالانغلاق وفي تصور ثابت ومحدد ولكنه يفترض إطلاق العنان لذلك المخيال الذي لا ينحصر في مجرد تصور ذهني ونظري مسبق ونهائي ولكنه يتجسد بالأساس من خلال ممارسة حرة وواعية بذلتها وبلا وعيها ومتحررة فردية وجماعية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.