اليوم العالمي لحرية الصحافة /اليونسكو: تعرض 70 بالمائة من الصحفيين البيئيين للاعتداءات خلال عملهم    اخلاء محيط مقر مفوضية شؤون اللاجئين في البحيرة من المهاجرين الافارقة    لجان البرلمان مستعدة للإصغاء الى منظمة "كوناكت" والاستنارة بآرائها (بودربالة)    وزارة الفلاحة ونظيرتها العراقية توقعان مذكرة تفاهم في قطاع المياه    توننداكس يرتفع بنسبة 0،21 بالمائة في إقفال الجمعة    كفّر الدولة : محاكمة شاب تواصل مع عدة حسابات لعناصر ارهابية    معهد الصحافة يقرر ايقاف التعاون نهائيا مع مؤسسة كونراد أديناور الألمانية    كأس تونس لكرة القدم- الدور ثمن النهائي- : قوافل قفصة - الملعب التونسي- تصريحات المدربين حمادي الدو و اسكندر القصري    بطولة القسم الوطني "أ" للكرة الطائرة(السوبر بلاي اوف - الجولة3) : اعادة مباراة الترجي الرياضي والنجم الساحلي غدا السبت    الرابطة 1- تعيينات حكام مقابلات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    تفكيك شبكة مختصة في ترويج المخدرات بجندوبة ..وحجز 41 صفيحة من مخدر "الزطلة"    سليم عبيدة ملحن وعازف جاز تونسي يتحدث بلغة الموسيقى عن مشاعره وعن تفاعله مع قضايا عصره    مركز النجمة الزهراء يطلق تظاهرة موسيقية جديدة بعنوان "رحلة المقام"    قابس : انطلاق نشاط قاعة السينما المتجولة "سينما تدور"    رئيس اللجنة العلمية للتلقيح: لا خطر البتة على الملقحين التونسيين بلقاح "أسترازينيكا"    القصرين: اضاحي العيد المتوفرة كافية لتغطية حاجيات الجهة رغم تراجعها (رئيس دائرة الإنتاج الحيواني)    86 مشرعا ديمقراطيا يؤكدون لبايدن انتهاك إسرائيل للقانون الأميركي    بوريل..امريكا فقدت مكانتها المهيمنة في العالم وأوروبا مهددة بالانقراض    تصنيف يويفا.. ريال مدريد ثالثا وبرشلونة خارج ال 10 الأوائل    قرعة كأس تونس لكرة القدم (الدور ثمن النهائي)    إفتتاح مشروع سينما تدور    فتحي الحنشي: "الطاقات المتجددة والنجاعة الطاقية أصبحت أساسية لتونس"    المدير العام للديوانة يتفقّد سير عمل المصالح الديوانية ببنزرت    منير بن رجيبة يترأس الوفد المشارك في اجتماع وزراء خارجية دول شمال أوروبا -إفريقيا    فيلا وزير هتلر لمن يريد تملكها مجانا    القصرين: تمتد على 2000 متر مربع: اكتشاف أول بؤرة ل«الحشرة القرمزية»    بداية من الغد.. وزير الخارجية يشارك في أشغال الدورة 15 للقمة الإسلامية    بطاقتا إيداع بالسجن في حقّ فنان‬ من أجل العنف والسرقة    إنه زمن الإثارة والبُوزْ ليتحولّ النكرة إلى نجم …عدنان الشواشي    المحمدية.. القبض على شخص محكوم ب 14 سنة سجنا    تالة: مهرجان الحصان البربري وأيام الاستثمار والتنمية    حالة الطقس هذه الليلة    مجلس وزاري مضيق: رئيس الحكومة يؤكد على مزيد تشجيع الإستثمار في كل المجالات    عاجل/ قضية "اللوبيينغ" المرفوعة ضد النهضة: آخر المستجدات..    عاجل/ أعمارهم بين ال 16 و 22 سنة: القبض على 4 شبان متورطين في جريمة قتل    العثور على جثة آدمية مُلقاة بهذه الطريق الوطنية    حجز 67 ألف بيضة معدّة للإحتكار بهذه الجهة    ألكاراز ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة بسبب الإصابة    توطين مهاجرين غير نظاميين من افريقيا جنوب الصحراء في باجة: المكلف بتسيير الولاية يوضّح    كرة اليد: بن صالح لن يكون مع المنتخب والبوغانمي لن يعود    بطولة افريقيا للسباحة : التونسية حبيبة بلغيث تحرز البرونزية سباق 100 سباحة على الصدر    الحماية المدنية:15حالة وفاة و500إصابة خلال 24ساعة.    مواطنة من قارة آسيا تُعلن إسلامها أمام سماحة مفتي الجمهورية    منظمة إرشاد المستهلك:أبلغنا المفتي بجملة من الإستفسارات الشرعية لعيد الإضحى ومسألة التداين لإقتناء الأضحية.    السعودية: انتخاب تونس رئيسا للمجلس التنفيذي للمركز العربي لدراسات المناطق الجافة والأراضي القاحلة "أكساد"    التلقيح ضد الكوفيد يسبب النسيان ..دكتور دغفوس يوضح    أعمارهم بين 13 و16 سنة.. مشتبه بهم في تخريب مدرسة    دراسة صادمة.. تربية القطط لها آثار ضارة على الصحة العقلية    زلزال بقوة 4.2 درجة يضرب إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان    خطبة الجمعة ..وقفات إيمانية مع قصة لوط عليه السلام في مقاومة الفواحش    خطير/ خبير في الأمن السيبراني يكشف: "هكذا تتجسس الهواتف الذكية علينا وعلى حياتنا اليومية"..    العمل شرف وعبادة    ملف الأسبوع .. النفاق في الإسلام ..أنواعه وعلاماته وعقابه في الآخرة !    "أنثى السنجاب".. أغنية أطفال مصرية تحصد مليار مشاهدة    بايدن يتحدى احتجاجات الطلبة.. "لن أغير سياستي"    وزارة الشؤون الثقافية تنعى الفنان عبد الله الشاهد    موعد عيد الإضحى لسنة 2024    ''أسترازنيكا'' تعترف بأنّ لقاحها له آثار قاتلة: رياض دغفوس للتونسيين ''ماتخافوش''    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسطورة التّنمية
أوزفالدو دي ريفارو
نشر في الشعب يوم 04 - 11 - 2006

يعترف المنظّرون الّذين يشتغلون على ثروة الأمم والتّكنوقراطيون المختصّون الّذين يعدّون المشاريع الهادفة إلى الرّفع من الإنتاج و من مستوى العيش, بأنّه من الممكن أن يخطئوا عندما يبتكرون نماذجهم للتّنمية, ولكنّهم لا يشكّون لحظة في إمكانية التّنمية نفسها. فبالنّسبة إليهم, إنّ التّفكير بأنّ التّنمية مستحيلة يعني التّفكير في الّلامفكّر فيه.
بل إن هذه القناعة دفعتهم إلى تغيير الاسم الّذي أطلق على البلدان الفقيرة. فقبل ظهور نظريات التّنمية, كانت هذه البلدان الّتي لم تشهد ثورة صناعيّة رأسماليّة تسمّى متخلّفة. وفي الخمسينات, مع ظهور نظريات التّنمية الأولى, صارت تسمّى بلدانا نامية. وفيما بعد, في السّتّينات, تمّ ابتداع عبارة بلدان في طريق النّموّ لأنّها كانت تشير إلى أنّ تلك البلدان تتقدّم نحو مستويات رفيعة للعيش. غير أنّ هذه العبارة تضمر شيئا من الشكّ من جهة النّتيجة النّهائيّة لتلك المسيرة. وهكذا تقرّر تحسين العبارة بإبدالها ببلدان في نموّ بنحو يقضي على أيّ شكّ. تلك البلدان كانت في نموّ, أي أنّها كانت على درب التّقدّم المادّيّ ومستويات العيش الرّفيعة. كانت كأنّها أنواع تنسخ جينيّا البلدان الصّناعيّة المتقدّمة عليها في تطوّر الرّقيّ العالميّ. لكأنّ التّطوّر كان سيرورة طبيعيّة, يقينا تطوّريّا داروينيّا. وتلك البلدان المتخلّفة هي في نموّ, بتطويرها للكامن الجينيّ في سبيل أن تصبح مجتمعات تتمتّع بمستوى عيش رفيع. هكذا كان ميلاد .
كانت التّنمية واحدة من الأساطير الأكثر ثبوتا طوال النّصف الثّاني من القرن العشرين. وقد كان المنظّرون والخبراء والسّياسيون مقتنعين بأنّ التّنمية الاقتصادية والاجتماعيّة هي سيرورة ضروريّة مشتركة لجميع الدّول- الأمم. يكفي تنفيذ النّظريات الصّحيحة والسّياسات السّليمة حتّى تشرع البلدان الفقيرة في خلق الثّروة إلى أن تبلغ مستوى راقيا من العيش يضاهي المستوى الّذي لا يوجد الآن إلاّ لدى ال24 دولة الدّيمقراطيّة الرّأسماليّة الصّناعيّة. وخلال نصف قرن, طبّق أكثر من 150 بلدا إيديولوجيات وأنظمة اقتصاديّة واجتماعيّة بحثا عن التّنمية, كما لو أنّ المراد هو الألدورادو. ولكن, اتّضح أنّ التّنمية غاية لا تدرك مثلها مثل خرافة الفاتحين تلكconquistadors وتعود في أصلها إلى إيديولوجيا التّقدّم في حضارتنا الغربيّة, وهي إيديولوجيا نشأت في عصر الأنوار وأعطتها الثّورة الصّناعيّة فيما بعد دفعا صاخبا. فلقد تبيّن فعلا أنّ الآليّةMachinisme كانت تمتلك قدرة, غير معروفة سابقا في المجتمعات الزّراعيّة, على خلق ما يكفي من الثّروات بما مكّن من القضاء لأوّل مرّة على الجزء الأكبر من الفقر في المجتمعات القوميّة. إضافة إلى ذلك, توطّدت تلك الإيديولوجيا بالفهم النّرجسيّ لنظريّة التّطوّر الدّاروينيّة, الّذي أكّد ضمنيّا أنّ النّوع البشريّ هو الأفضل على الأرض بسبب قدرته على التّكيّف مع أيّ محيط طبيعيّ وعلى تحقيق الرقيّ دائما.
ومع التّطوّريّة الصّناعيّة نشأت القناعة بأنّ أيّ مجتمع يمكنه أن يبدع العلم والتّكنولوجيا والصّناعة وأن يتقدّم إلى ما لا نهاية له. فبنفس الطّريقة الّتي ارتقى بها الرّجل الأستراليّAustralopithèque ليصير الرّجل الماهرHomo habilis معالج الأدوات, ثمّ الرجل الواقفHomo erectus مخترع النّار, وفيما بعد الرّجل العارف Homo sapiens صانع الّلغة والثّقافة, كذلك تستطيع المجتمعات القرويّة أن تتقدّم لتصير مجتمعات صناعيّة وفي الأخير مجتمعات عارفة Sapiens ما بعد صناعيّة غنيّة بالمعارف ومتمتّعة برغد عيش أبديّ. ولقد قوي يقين تلك النّبوءة التّطوّريّة الدّاروينيّة الصّناعيّة للقرن ال19 في القرن ال20 بفضل فيض من الاختراعات الّتي كانت وراء تفاؤليّة ابستيمولوجيّة تبعث على الاعتقاد بأنّ العلم والتّكنولوجيا يمكنهما حلّ كلّ المشاكل. وليس غياب الحلّ لمشكل ما إلاّ أمر ظرفيّ, لأنّه من شبه المؤكّد أن يتمّ اختراع التّكنولوجيا الكفيلة بحلّه. لذلك, إن التّقدّم العلميّ المادّيّ وإسهامه في السّعادة الإنسانية غير قابلين للنّقاش.
قبل ذلك, في نهاية القرن ال18,وفي إطار تلك الايدولوجيا للسّعادة عن طريق التّقدّم المادّيّ, رسم أدام سميث Adam Smith المراحل الّتي تفضي إلى ثراء الأمم. فبيّن كيف أنّ مجتمعات الصّيادين والقاطفين تستطيع التّطوّر نحو مجتمعات رعويّة وزراعيّة لتصير في النّهاية مجتمعات مانيفكتوريّة (معمليّة) وتجاريّة. كما أنّ فكر كارل ماركس Karl Marx, وهو إيديولوجي كبير آخر لسعادة الإنسانية من خلال التقدّم المادّيّ, يعكس هو أيضا تطوّريّة سميث. فالرّقيّ المادّيّ للإنسانية عنده يتمّ إحرازه عن طريق الانتقال من الإقطاعيّة إلى الرّأسماليّة وفيما بعد من الرّأسماليّة إلى الشّيوعيّة الّتي يكتمل بها التّاريخ وتولد السّعادة الأبديّة. ويشاطر فرنسيس فوكوياما Francis Fukuyama هذه الفكرة الماركسيّة حين يجزم بأنّ التّاريخ قد انتهى اليوم مع الانتصار الكلّيّ للرّأسماليّة. ولتر روستوهWalter Rostow , الأستاذ بمعهد مسّشّاستس للتّكنولوجيا(TIM), كان واحدا من المخترعين المحدثين ل. ففي سنة 1960, أبهر كلّ التّكنوقراطيات بكتابه الشّهير: مراحل النّموّ الاقتصاديّ. وحسب رأيه, تمرّ المجتمعات من اقتصاد تقليديّ إلى مراحل التّراكم والإقلاع لتصل إلى المرحلة الأخيرة وهي الاستهلاك الجماهيريّ الّتي ليست شيئا آخر سوى التّنمية. ولا تعتبر البيئة مهمّة إطلاقا في هذا المسار, فهي مادّة أوّليّة إضافية يتمّ استغلالها خلال السّير نحو التقدّم والسّعادة. لقد أقنع روستوه كلّ التّكنوقراطيين بقدرتهم على بلوغ التّنمية. يكفي حسن تطبيق النّظريات الجيّدة والسّياسات السّليمة, وخلق القيمة المضافة,والتّراكم, والإقلاع, والانكباب على الاستهلاك الجماهيريّ. كان التّحدّي يتمثّل في نسخ مسار تطوّر أوروبّا والولايات المتّحدة, في أقصر فترة ممكنة. منذ ذلك الوقت, رأينا كثيرا من «الإقلاع» و قليلا من حالات النموّ الوطنيّ. قبل عشرين سنة, كان يقال إنّ البرازيل «تقلع», وإنّها واحدة من القوى العالميّة المستقبليّة. ومنذ بضع سنوات, صار مألوفا قول الكلام نفسه عن المكسيك وعن الهند. ثمّ جاءت اثر ذلك موضة البلدان الآسيوية «المنبعثة». واليوم, لم تبق سوى الصّين, بلد ب1,2 مليار من السّكّان, منهم 300 مليونا فقط لهم مستوى رفيع من العيش يسمح لهم باستهلاك المنتجات ومنافع الاقتصاد الإجماليّ.
ما هو أكيد, أنّه خلال السّنوات الثّلاثين الأخيرة, تمكّن بلدان فقط هما كوريا الجنوبيّة وتايوان, من التّخلّي عن اقتصادهما الفلاحيّ بالأساس ليصيرا مجتمعين صناعيين متقدّمين على الصّعيد التّكنولوجيّ, ومن التّغلّب على الفقر ومن الرّفع من مستوى العيش لسكّانهما بطريقة مكّنت من إيجاد طبقة وسطى أغلبيّة, ولكن بمستويات من التّطوّر الدّيمقراطيّ والثّقافيّ والعلميّ والاجتماعيّ أدنى بكثير ممّا هي عليه في أوربّا وفي الولايات المتّحدة.
وتمثّل هونغ كونغ وسنغافورة منطقتين أخريين أطلق عليهما الآباء الرّوحانيون للتّنمية اسم البلدان الصّناعيّة الجديدة(IPN), اقترب مستوى العيش فيهما بدوره ممّا هو موجود في الدّيمقراطيات الرّأسماليّة المتطوّرة. إنّهما ليستا دولتين- أمّتين حقيقيتين, بل بالأحرى مدينتان- دولتان لم يتحمّل نموّهما التّحدّي الكبير المتمثّل في الارتقاء بمستوى العيش لسكّانهما الّذين يحيون في أرض فسيحة مع انفجار ديمغرافيّ حضريّ لا يقاوم, كحال معظم البلدان النّامية. في بداية القرن ال21, في الوقت الّذي لم تتطوّر فيه أغلبيّة الدّول- الأمم في المعمورة, ويعبّر فيه تقدّم أقلّيّة من البلدان الصّناعيّة عن نفسه بالاستهلاك الجماهيريّ وتخريب المحيط , في هذا الوقت تظلّ كلمات رابندراناث طاغور Rabindranath Tagore ملائمة: «التقدّم لفائدة من؟ ولأيّة غاية؟»
خلال الحرب الباردة, كان هناك جوهريّا نموذجان متنافسان ل: الشّيوعيّ والرّّأسماليّ. كلاهما كان من النّاحية البيئيّة غير قابل للاستمرار. الآن وقد سقطت الشّيوعيّة بسبب محاولتها إحلال السّوق مكان التّخطيط المركّز, هيمنت رأسماليّة كلّيّة بلغت حدّ التّطرّف, جاعلة السّوق بمثابة القانون الطّبيعيّ الأعلى, المحايد أخلاقيّا, مثله مثل قانون الجاذبيّة, والّذي لا يأخذ في اعتباره الأبعاد الاجتماعيّة والبيئيّة, ولا بدّ من الخضوع إليه. اليوم, يحاول النّموذج الوحيد الرّافع ل, وهي الرّأسماليّة اللّيبراليّة الجديدة, من خلال عولمتها, أن تنسخ المجتمعات الرّأسماليّة الحديثة في أغلب البلدان النّامية. غير أنّ انفجار الرّخاء الموعود بانتصار الرّأسماليّة لا يتجسّم في الواقع كما تمّ التّنبّؤ به. إنّ التّاريخ لم ينته. بل بالعكس من ذلك يتعقّد لأنّنا نشهد إقصاء قطاعات كبيرة من سكّان العالم بفعل مسار انتقاء داروينيّ للسّوق وللتّكنولوجيا الحديثة الّذين يستغنيان عن الموادّ الأوّليّة وعن اليد العاملة الوفيرة, الميزتان الوحيدتان اللّتان تتصرّف فيهما أغلبيّة البلدان الفقيرة ولكن, بما أنّ تتضمّن دلالات شبه دينيّة على السّعادة والانعتاق من قيود الفقر, فهي محصّنة ضدّ تجربة السّنوات الأربعين الأخيرة الّتي تبيّن لنا أنّ معظم البلدان لم تتطوّر. إنّ الطّبيعة الأسطوريّة للتّنمية تجعل سياسات البلدان الفقيرة مستمرّة في السّعي نحو «ردم الهوّة» الّتي تفصل مجتمعاتها عن المجتمعات الصّناعيّة الرّأسماليّة وذلك بمحاولة إحداث مجتمعات استهلاك وطنيّة غير قابلة للتّمويل وللاستمرار.
لقد رسخت في حضارتنا إلى درجة أنّنا وصلنا إلى تبنّي مواقف إرادويّة جليلة مثل إعلان الأمم المتّحدة للحقّ في التّنمية, أي حقّ جميع الدّول النّامية في التّمتّع بمستويات عيش البلدان الصّناعيّة وبأنماط استهلاكها. إنّ التّطبيق الافتراضيّ لهذا الإعلان, في ظلّ النّماذج الاستهلاكية الحاليّة, سوف يؤدّي إلى كارثة بيئيّة كونيّة 1 .
في العالم الواقعيّ, خارج قاعات مؤتمرات الأمم المتّحدة, توجد بلدان لا تملك القدرة على»ردم الهوّة» الّتي تفصلها عن البلدان الصّناعيّة, حتّى لو نفّذت السّياسات الاقتصادية الأكثر ليبراليّة و حتّى لو تحصّلت على المساعدات الدّوليّة الأكثر سخاء وحكمة. ففي العالم الثّالث عدد وافر من البلدان المفتقرة إلى طبقة رأسماليّة وإلى الإطارات العلميّة والتّقنيّة القادرة على الاستفادة من تحرير الاقتصاد ومن العون الخارجيّ الموجّه نحو تحديث الاقتصاد وجعله تنافسيّا على المستوى العالميّ. إنّها بلدان يولّد نموّها الدّيمغرافيّ الحضريّ جموعا هائلة من الفقراء والعاطلين, وشّروخا اجتماعيّة, ويؤدّي بالتّالي إلى نقص في الغذاء والطّاقة والمياه, وهي الوسائل الأساسيّة الّتي لا غنى عنها لوجود أيّّ مجتمع منظّم.
فضلا عن ذلك, إنّ العلاقات الدّوليّة على أرض الواقع هي أيضا داروينيّة. فبينما يجري انفجار ديمغرافيّ حضريّ في البلدان النّامية, تؤدّي الثّورة التّكنولوجيّة إلى القضاء على بلترة الإنتاج Deproletariser وعلى مادّيته Dématérialiser, وتقلّص في الآن نفسه من الحاجة إلى اليد العاملة والموادّ الأوّليّة لتلك البلدان. وإن أفضت التّرتيبات الهيكليّة إلى تثبيت الاقتصاديات الفقيرة, مقابل تضحيات اجتماعيّة جسيمة, فإنّها لم تجلب الاستثمارات العابرة للأوطان المطلوبة لتحديث الإنتاج والصّادرات. يقتضي الاقتصاد العالميّ باستمرار المزيد من المنتجات ومن الخدمات ذات المحتوى التّكنولوجيّ العالي في حين تظلّ الاقتصاديات النّامية, باعتبارها أنواعا غير كفأة, حبيسة إنتاج قليل التّحويل وبلا تطوير تكنولوجيّ. إنّ السّلطة الجديدة للشّركات العابرة للقوميات تشجّع بلا هوادة على العولمة وذلك بفتح الأسواق أمام نماذج استهلاكيّة ظرفيّة وبإجبار البلدان الفقيرة على المزيد من التّوريد. وهكذا يكبر العجز الخارجيّ والدّيون في تلك البلدان, لغياب الاستثمارات المنتجة الّتي من شأنها أن تفتح طريق التّحديث الّذي يسمح لها بالمنافسة ضمن الاقتصاد الكونيّ للقرن ال21 .
ان المعونة الدّوليّة, ابنة , تمثّل بشكل متناقض الحجّة الدّامغة على انعدام التّنمية. فعلى امتداد نصف قرن تقريبا, قامت الأمم المتّحدة والقوى الصّناعيّة والوكالات المختصّة والمؤسّسات الماليّة الدّوليّة (IFI) والمنظّمات غير الحكوميّة بتنفيذ ما لا يحصى من سياسات واستراتيجيات وبرامج التّنمية وبتحويل مئات المليارات من الدّولارات في شكل قروض, ومعونات فنّيّة وتجهيزات وهبات. جزء من هذا الوابل الهائل من الموارد تمّت رسكلته عن طريق المعونة المشروطة, أمّا الجزء الآخر فقد ضاع في كواليس الفساد. وكان هناك مجرى وحيد متواضع أدّى حقيقة إلى الحدّ من الفقر 2.
الحقيقة القاسية اليوم هي أنّه لا أحد يعرف كيف الوصول إلى الألدورادو. ففي جميع البلدان, يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا. وتعادل مدا خيل ال300 ميليارديرا ما يكسبه أكثر من ملياري شخصا كلّ سنة, أي 45 % من سكّان العالم. و تتوفّر ل 1,8مليار فقط من الأشخاص الإمكانيات لاستهلاك منتجات الاقتصاد العالميّ وخدماته بينما لا تستطيع بقيّة السّكّان, أي أربعة مليارات من الأشخاص, أن تقوم بأفضل من إمعان النّظر في الواجهات. وفي ما يربو عن ال100 بلدا فقيرا, لم يرتفع دخل السّاكن الحقيقيّ منذ 15 سنة.
لو يستمرّ الاتّجاه الحاليّ كما هو عليه الآن, ولا شيء يثبت العكس, فسيبلغ تعداد سكّان العالم سنة 2020 ثمانية مليارات. وستعيش الأغلبيّة السّاحقة أي 6,6 مليارات تقريبا ضمن العالم النّامي الّذي سيحتوي على ثلاثة مليارات من الفقراء سيعاني أكثر من 840 مليونا منهم من المجاعة وستكون مئات الملايين دون شغل أو مستخدمة جزئيّا. إضافة إلى ذلك, لن يتمتّع 2.2 مليارا بمسكن لائق, ولن يكون بوسع مليارين الوصول إلى الماء الصّالح للشّرب وإلى الكهرباء. وسيعيش معظم هؤلاء الهامشيين في أكثر من 550 مدينة يفوق عدد سكّانها المليون نسمة وفي أقطاب سكنيّة ضخمة بها أكثر من 10 ملايين, تعاني من الفوضى والتّلوّث ومكتظّة بالعاطلين وبالمنحرفين. إنّ ليما وساو باولو وبووتا ولاوس والقاهرة وداكار ونيروبي ونيودلهي تقدّم لنا المذاق الأوّليّ لهذا الكابوس.
بالرّغم من هذه النّزعات الّتي يمكن لنا اليوم ملاحظتها بيسر حين نسافر عبر العالم الثّالث, فإنّ البنك العالميّ وصندوق النّقد الدّوليّ (IMF) والعديد من المنظّمات الاقتصادية المختصّة قد استسلمت, في غضون التّسعينات, إلى الكثير من التّكهّنات المدهونة باللّون الورديّ, محتفلة بالمستقبل المشرق» للعالم الّذي ينمو»أو»للأسواق النّاشئة». ولأنّها متشبّثة ب, فهي لا تكفّ عن التنبّئ بألدورادوات جديدة, وعن اختلاق بلدان معجزة, وقوى اقتصاديّة مستقبليّة. فمنذ بعض العقود, كانت البرازيل وتليها المكسيك, واليوم الصّين, وغدا قد تكون تركيا. إنّها تطلق صفة المعجزة على عودة النّموّ الاقتصادي الهشّ والمفتقر للتّحديث التّكنولوجيّ لبلدان مثل البيرو والأرجنتين وغانا. وعندما ستحدث الكوارث, تكون هي قد انشغلت بعد بالتّكهّن بمعجزات قوميّة أخرى.
في تحليلاتها, تعني تلك المؤسّسات أنّه من الممكن تكرار نسب النّموّ الاقتصاديّ للصّين أو للبلدان الصّناعيّة الجديدة(IPN) في البلدان الأخرى, بما فيها بلدان إفريقيا. وتظلّ مقتنعة بأنّ مسار العولمة الجاري سيضمن الازدهار العالميّ. وتشرح وتعلن عن اقلاعات ومعجزات اقتصاديّة, وتمدح إعادات التّمويل المكلفة للدّيون الخارجيّة وتنتشي بنسب النّموّ المرتفعة للنّاتج القوميّ الخام. غير أنّها قليلا ما تتحدّث عن الظّواهر الفوضويّة العالميّة الجديدة, مثل التّأثير المركّب للثّورة التّكنولوجيّة وللانفجار الدّيمغرافيّ على الشّغل ومثل التّناقض المتنامي بين تصدير الموادّ الأوّليّة والقضاء على مادّيّة الإنتاج الصّناعيّ, أو بين نماذج الاستهلاك الظّرفيّة من جهة والإنتاج الضّعيف للغذاء وشحّ المياه والتّحوّلات المناخيّة من جهة أخرى.
لم يتوصّل صندوق النّقد الدّوليّ والبنك العالميّ إلى التّكهّن بالكوارث الماليّة لنهاية القرن ال20: أزمة ديون أمريكا اللّاتينيّة وإعسار المكسيك وإفلاس البلدان الآسيوية والبرازيل وروسيا. بل إنّهما, بتفاؤل يلامس الخبل, اعتمدا مخطّطا يرمي إلى تحويل الإتّحاد السّوفييتي إلى اقتصاد السّوق في فترة لا تتجاوز ال500 يوما فقط ! والنّتيجة كانت كارثة إقصاء اجتماعيّ وميلاد أوّل مثال عالميّ لمرض هوس اقتصاد السّوق Clepto-economie. بل إنّ اللاّواقعيّة الإيديولوجيّة لخبراء البنك الدّوليّ وصندوق النّقد الدّوليّ حالت دونهم وإدراك الفقر والانحراف المتاخمين لمكاتبهم الخاصّة في واشنطن, والنّاجمين تحديدا عن نموذج شبيه بذاك الّذي يوصون به العالم بأسره. في الواقع, إذا أردنا أن نكوّن لأنفسنا فكرة عمّا يجري في العالم, فالأفضل لنا أن نكثر من السّفر وأن نقلّل من قراءة تقارير البنك العالميّ وصندوق النّقد الدّوليّ.
ففي شوارع إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينيّة يمكنك أن تلاحظ أنّ معظم السّكّان لم يظلّوا فلاّحين, ولكنّهم لم يصيروا مع ذلك طبقة وسطى عريضة ولا بورجوازيّة واعية بواجبات مواطنتها وبحقوقها الدّيمقراطيّة, مثلما حصل في أوروبّا وفي الولايات المتّحدة. بل بالأحرى, إنّ قسما هامّا من السّكّان يعيش بأقلّ من دولار واحد في اليوم, وإنّ الأغلبيّة الواسعة منها تتشكّل من مقيمين ذوي دخل ضعيف غارقين في ما يشبه البربريّة الحضريّة. وعوضا عن رأسماليّة ديمقراطيّة متّصلة بتحديث للإنتاج, فإنّ أغلبيّة تلك البلدان تعيش رأسماليّة متخلّفة وريفيّة, وديمقراطيات ضعيفة وأحيانا مضحكة- حيث لا وجود لعلويّة الحقوق ولا لاحترام المؤسّسات فما بالك بالمجتمع المدنيّ ؟وسجينة لاقتصاد الموادّ الأوّليّة القليلة التّحويل.
إنّ الآباء الرّوحانيين ل الّذين يقيسون كلّ شيء, لهم رؤية تكاد تكون كمّيّة للعالم. فهم يجهلون السّيرورات التّاريخيّة الثّقافيّة النّوعيّة, والتّقدّم غير الخطّيّ للمجتمع, والمقاربات الأخلاقيّة, ولا يعيرون أهمّية للآثار الحاسمة على البيئة. إنّهم يخلطون بين النّموّ الاقتصاديّ وتطوّر حداثة رأسماليّة غير موجودة في البلدان الفقيرة. وهم بمثل هذه الرّؤية, لا يدركون سوى الظّواهر الاقتصاديّة العارضة مثل نموّ الدّخل القوميّ الخام أو تطوّر الصّادرات أو تغيّر مؤشّرات سوق البورصة, ولا يرون الانقطاعات البنيويّة والثّقافيّة والاجتماعيّة والبيئيّة العميقة الّتي تجعل لا قابليّة الحياة لأشباه الدّول-الأمم النّامية محتملة في السّنوات القادمة.
ولإدراك تلك الانقطاعات جيّدا, لابدّ من امتلاك رؤية ثقافيّة وتاريخيّة للمجتمعات النّامية بحيث نعرف الأسباب العميقة لتأخّرها العلميّ والتّكنولوجيّ. لابدّ كذلك من معرفة مدخّراتها من الماء والغذاء والطّاقة الّتي تعتبر الموارد المادّيّة الأساسيّة الّتي لا غنى عنها للمحافظة على تماسك وطنيّ وحياة متحضّرة في مواجهة النّموّ القويّ لسكّانها الحضريين. وحدها رؤية كهذه تسمح بكشف فيروسات لاقابليّة الحياة الّتي تصيب اليوم عددا من البلدان بالتّعفّن.
الاقتصاديات القوميّة غير القابلة للحياة(ENNV)
يتوقّف مستقبل الأمم أكثر فأكثر على المعارف والإعلام العلميين والتّكنولوجيين, أي على عدد العلماء والمهندسين الّذين لديها, وعلى النّفقات الخاصّة بالبحث والتّنمية وعلى إنتاج الحبكات المعلوماتيّة Logiciels. إنّ البلدان النّامية الّتي تمثّل 75% من البشريّة (4,8مليارا من الأشخاص) لا تعدّ سوى 7% من مجموع العلماء والمهندسين في العالم, وتنجز أقلّ من 2% من الاستثمارات العالميّة في البحث والتّنمية, ولا تنتج سوى 3% من الحبكات المعلوماتيّة. وتعتبر تقديرات التّأخّر هذه سخيّة, ففي الواقع يتمركز نصف هذه التّرسانة العلميّة والتّكنولوجيّة المثيرة للسّخرية في عدد قليل من البلدان وهي سنغافورة وهونغ كونغ وماليزيا وتايوان والصّين وبدرجة أقلّ البرازيل. أمّا بقيّة البلدان فتجد نفسها في أشمل خراب علميّ وتكنولوجيّ سيقصيها من اقتصاد عالميّ يتطلّب المزيد والمزيد من المنتجات والخدمات ذات المحتوى التّكنولوجيّ الرّفيع جدّا (4).
وهكذا, يمثّل البؤس العلميّ الفيروس الرّئيسيّ لعدم قابليّة الحياة الاقتصاديّة المتنامية في الأغلبيّة العظمى من دول العالم الثّالث. إذ يزداد الطّلب العالميّ للمنتجات والخدمات ذات المحتوى التّكنولوجيّ الرّفيع بنسبة 15 % في السّنة, بينما لا يبلغ طلب الموادّ الأوّليّة نسبة 3 % ولا يتجاوز طلب المنتجات المحوّلة قليلا 4 %. وحسب البنك العالميّ, فإنّ الأسعار الفعليّة للموادّ الأوّليّة, الّتي هي مقدّما أدنى ممّا كانت عليه طوال فترة الرّكود في الثّلاثينات, ستستمرّ في الانخفاض على مدى سنوات أخرى عديدة خلال القرن ال21
يزداد هذا المشكل خطورة لأنّ أسعار المنتجات المعمليّة ذات المحتوى التّكنولوجيّ الضّعيف أو المتوسّط ستظلّ هي أيضا غير مستقرّة وغير مربحة, على غرار أسعار الموادّ الأوّليّة. فقد أثبتت دراسات حديثة قدّمت خلال مؤتمر للأمم المتّحدة حول التّجارة والتّنمية أنّ أسعار هذه الموادّ المعمليّة, وبالخصوص النّسيج والملابس والمنتجات الخشبيّة والكيماويّة والآليات وتجهيزات النّقل, الّتي تصدّرها البلدان الأفريقيّة والآسيويّة والأمريكيّة اللاّتينيّة, قد هبطت في المعدّل بنسبة 1 % في السّنة منذ 1970, وهو ما يؤكّد اتّجاها سلبيّا نحو تخريب الأسعار شبيها بذاك الّذي يصيب الموادّ الأوّليّة (5) .
اليوم, تشهد مدن العالم النّامي انفجارا ديمغرافيّا, ومقابل ذلك يتراجع الطّلب العالميّ للموادّ الأوّليّة لأنّ التّقدّم التّكنولوجيّ يقلّل من الكمّيات المطلوبة بحساب وحدة الإنتاج الصّناعيّ. وهكذا, ومثلما حدث لسماد الغوانو ونيترات الصّوديوم والمطّاط الّتي انخفض استهلاكها في الماضي, نعاين اليوم انخفاضا في كمّيّة الحديد أو الرّصاص أو الزّنك أو النّحاس أو القصدير المستهلكة بحساب وحدة الإنتاج الصّناعيّ. وأخذت موادّ جديدة مصنوعة في المخابر تعوّض شيئا فشيئا الخامات والمعادن. وعلى نفس الشّاكلة, فإنّ طلب الموادّ الأوّليّة الفلاحيّة مثل ألياف القطن والجوتة Le Jute والقهوة والشّاي والسّكّر ينمو بسرعة أقلّ بسبب مزاحمة المنتجات الاصطناعيّة. وحتّى المنتجات المعمليّة ذات المحتوى التّكنولوجيّ الضّعيف الّتي تقوم بتصديرها البلدان المباشرة لمسيرة التّصنيع, بدأت تباع بأسعار أقلّ ربحا ممّا كانت عليه.
عندما يتّحد فيروس البؤس العلميّ والتّكنولوجيّ بفيروس آخر لعدم قابليّة الحياة, هو فيروس الانفجار الدّيمغرافيّ الحضريّ, يصبح تجنّب اللاّنموّ أمرا شبه مستحيل. فالمداخيل الهزيلة المتأتّية من بيع الخامات والمعادن والمنتجات الفلاحيّة والخشب والنّسيج والمنتجات الأخرى ذات المحتوى التّكنولوجيّ الضّعيف بأسعار متقلّبة وقليلة الرّبح, لا يمكنها بأيّة صورة من الصّور أن تكفي لشراء الموارد الأساسيّة من السّوق العالميّة لخلق الشّغل ولتلبية احتياجات سكّان الحضر الّذين يشهدون نموّا متفجّرا.
جميع البلدان تقريبا الّتي تصدّر أساسا منتجات ذات محتوى تكنولوجيّ ضعيف ستجد عدد سكّانها يتضاعف من هنا حتّى سنة 2020. وباتّحادهما, يولّد فيروس تصدير المنتجات المحوّلة قليلا وفيروس الانفجار الدّيمغرافيّ فقرا مهولا. فاليوم, يعاني 50 % تقريبا من مجموع سكّان البلدان الإفريقيّة من الفقر. ونفس الأمر ل 40 % من سكّان الفلبّين وكذلك في كبرى بلدان آسيا الجنوبيّة وخاصّة منها الهند وبنغلاديش وباكستان. أمّا في أمريكا اللاّتينيّة فيطال الفقر 38 % تقريبا من السّكّان, إلى جانب تجمّعات سكنيّة كبيرة توجد أساسا في أمريكا الوسطى وفي بعض البلدان كالإيكواتور والبيرو وبوليفيا. وبدون تحديث الصّادرات, من خلال الرّفع من محتواها التّكنولوجيّ, وبدون التّخفيض من نسبة الولادات في البلدان النّامية, فإنّ الفقر الّذي يصيب اليوم 1,3 مليار من الأشخاص سيطال سنة 2020 ما يربو على ثلاثة مليارات من البشر.
وإذ تعجز البلدان عن الحصول من السّوق العالميّة على الموارد الّتي يحتاجها سكّانها الحضريون المتكاثرون, فهي لا تنمو وتكتسب خصائص الاقتصاديات القوميّة غير القابلة للحياة(VNNE). طوال كامل القرن العشرين تقريبا, كان على جميع بلدان العالم الثّالث أن تلتجئ إلى المعونة الدّوليّة و القروض العموميّة والدّيون الخصوصيّة الدّوليّة في سبيل البقاء والحال أنّها كانت في مواجهة دائمة مع العجز عن التّسديد ومع الإفلاس القوميّ. أمّا الآن, فهي تحيى مؤّقّتا بفضل الخصخصة ودعم حجم كبير من رؤوس الأموال المضاربة في السّوق الماليّة العالميّة.
إنّ التّاريخ الاقتصاديّ لأمريكا اللاّتينيّة يفيض بالأمثلة المفحمة على الاقتصاديات القوميّة غير القابلة للحياة. فعلى امتداد القرن العشرين, تسبّب عاملان أساسيان في ازدهار مفاجئ غير دائم في المنطقة: الارتفاع المؤقّت في أسعار بعض الموادّ الأوّليّة المقترن بفترة من العرض الهامّ لرؤوس الأموال وللقروض الأجنبيّة الّذي تجلّى في تكاثر الاعتمادات والاستثمارات.
وخلال العشرينات, صنعت السّيولة النّقديّة العالميّة المتوفّرة كثيرا, بفعل دفع تكاليف الإصلاحات الألمانيّة لآثار الحرب ووفرة رؤوس أموال الولايات المتّحدة,»معجزات» عديدة في أمريكا اللاّتينيّة, تبخّرت مع الأزمة الكبرى في الثّلاثينات. وكانت الحرب العالميّة الثّانية وإعادة بناء أوروبّا والحرب الكوريّة وراء ارتفاع أسعار الموادّ الأوّليّة ارتفاعا بلغ مستويات مربحة ووراء عروض للاستثمارات الأجنبيّة الّتي أذنت لفترة جديدة من التّوسّع انتهت في نهاية السّتّينات بالأزمة وبانحسارات اقتصاديّة جديدة. وفي السّبعينات, أنقذت موجة جديدة من السّيولة ومن عروض رؤوس الأموال, النّاجمة هذه المرّة عن تدير رساميل البترودولار, الاقتصاديات بفضل قروض البنوك الخاصّة. ولكنّ كلّ هذا آل إلى أزمة الدّين الكارثيّة وإلى عجز الاقتصاديات الأمريكيّة اللاّتينيّة. وفي نهاية القرن العشرين, أدّى أيضا التّحرير العالميّ للأسواق الماليّة وظهور ملهى رأسماليّ كونيّ إلى عودة معجزة للنّموّ الاقتصاديّ المقترن باستثمارات قصيرة المدى قائمة على المضاربة والخصخصة. عندما تنقضي فترة التخمّر الماليّ الرّاهنة, ستسقط الاقتصاديات المتخلّفة تكنولوجيّا لأغلب بلدان أمريكا اللاّتينيّة والبلدان النّامية الأخرى من جديد تحت ضغط الانفجار الحضريّ(6).
إنّ الاقتصاديات غير القابلة للحياة (VNNE) سبب من الأسباب الجوهريّة للتّفكّك الاجتماعيّ وأحيانا لانهيار الدّول- الأمم. بيد أنّ لاقابليّة الاستمرار الاقتصاديّ, في معظم الحالات, لا تصل إلى التسبّب في أزمة تقضي على الدّولة- الأمّة, كما هو شأن الأمراض القاتلة للكائنات الحيّة. فتلك الاقتصاديات بإمكانها البقاء طوال عدّة عقود في حالة مستقرّة( من اللاّنموّ) تتخلّلها أزمات وعودات نموّ معجزة, دون أن تموت مع ذلك فيروسات لاقابليّة الاستمرار أو يقلّ الفقر القوميّ بشكل ملحوظ.
الهوامش
* أوزفالدو دي ريفيرو Oswaldo De Rivero,كان سفير البيرو لدى الأمم المتّحدة, قاد وفد بلاده أثناء مفاوضات الات( TTAG). يعيش اليوم في جينيف حيث عمل مستشارا إلى أن عيّنته الحكومة الجديدة سفيرا لدى المنظّمة العالميّة للتّجارة (CMO). ** هذا التّعريب هو للفصل الرّبع من كتابه:Le mythe du developpemet نشرته دار سيريس للنّشر بتونس في أفريل 2003 . ونحن بصدد تعريبه كاملا لنشره لاحقا.
*** leldorado (Le doré)بلد خرافيّ حدّده الفاتحون الأسبان لأمريكا بين الأمازون ونهر الأورينوك وافترضوا أنّه يفيض ذهبا.
1 إعلان الحقّ في التّنمية, القرار128/41 للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة, 1976.
2 انظر في هذا الصّدد» سراب المساعدات الدّوليّة « ل David Sogge. تونس. سلسلة Enjeux Planète 2003.
3 برنامج الأمم المتّحدة من أجل التّنمية (DUNP),تقرير عن التّنمية الإنسانيّة, 1997 و 1998.
4 «Global Outlook أبعاد كلّيّة «2000 ,ص.146149.
5 مؤتمر الأمم المتّحدة حول التّجارة والتّنمية (DECUNC) تقرير عن التّجارة والتّنمية, نيويورك, الأمم المتّحدة, 1996,ص.146149.
6 Michel Pettits: The Liquidity Trap» « «فخّ السّيولة», نوفمبر ديسمبر1996.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.