وزارة الفلاحة: رغم تسجيل عجز مائي.. وضعية السدود أفضل من العام الفارط    تفاصيل القبض على 3 إرهابيين خطيرين بجبال القصرين    زلزال بقوة 4.5 درجة يضرب تركيا    كأس تونس: تشكيلة النادي الصفاقسي في مواجهة مستقبل المرسى    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. بحثا عن تعبيد الطريق إلى النهائي    توزر: حجز كمية كبيرة من المخدرات لدى بائع خمور خلسة    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    قيس سعيد يُشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض الكتاب    رئيس الدولة يشرف على افتتاح معرض تونس الدّولي للكتاب    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني عن عمر 81 عاما    الخارجية: نتابع عن كثب الوضع الصحي للفنان الهادي ولد باب الله    الاحتلال يعتقل الأكاديمية نادرة شلهوب من القدس    المصور الفلسطيني معتز عزايزة يتصدر لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم لسنة 2024    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الجمعة 19 افريل 2024    عاجل/ مسؤول إسرائيلي يؤكد استهداف قاعدة بأصفهان..ومهاجمة 9 أهداف تابعة للحرس الثوري الايراني..    استثمارات متوقعة بملياري دينار.. المنطقة الحرة ببن قردان مشروع واعد للتنمية    الافراج عن كاتب عام نقابة تونس للطرقات السيارة    كأس تونس لكرة السلة: إتحاد الانصار والملعب النابلي إلى ربع النهائي    نقابة الثانوي: محاولة طعن الأستاذ تسبّبت له في ضغط الدم والسكّري    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    رفعَ ارباحه ب 43%: بنك الوفاق الدولي يحقق أعلى مردود في القطاع المصرفي    معرض تونس الدولي للكتاب يفتح أبوابه اليوم    ثبَتَ سعر الفائدة الرئيسي.. البنك المركزي الصيني يحافظ على توازن السوق النقدية    تجهيز كلية العلوم بهذه المعدات بدعم من البنك الألماني للتنمية    وزيرة التربية تتعهد بإنتداب الأساتذة النواب    برج السدرية: انزلاق حافلة تقل سياحا من جنسيات مختلفة    غوغل تسرح 28 موظفا احتجّوا على عقد مع الكيان الصهيوني    عاجل/ بعد منع عائلات الموقوفين من الوصول الى المرناقية: دليلة مصدق تفجرها..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..سحب كثيفة مع الأمطار..    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    عاجل : هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    بورصة تونس: "توننداكس" يقفل حصة الخميس على استقرار    عاجل/ هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين: اللّيلة تنقضي مدّة الإيقاف التحفّظي    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    ارتفاع نوايا الاستثمار المصرح بها خلال الثلاثية الأولى من السنة الحالية ب6.9 %    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    انخفاض متوسط هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمائة خلال شهر فيفري 2024    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    هام/ تطوّرات حالة الطقس خلال الأيام القادمة..#خبر_عاجل    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اي نوع من الشعر تكتب عند العشاء، فيما يتعلق بالحب والحجاب والانتحار
فصل من رواية «ثلج» للتركي أورهان باموك
نشر في الشعب يوم 04 - 11 - 2006

شاهدوا الجمع امام مسرح الأمة ينتظر بداية العرض وبالرغم من الثلوج التي تتساقط كأنها لن تتوقف أبدا، وبالرغم من صعاليك العاطلين وشبان مرتدين قمصانا وجمازات وتلامذة معاهد فارين قدموا من منازلهم ومن مبيتاتهم لتمضية الوقت والاستمتاع، كلهم تجمعوا هناك على الرصيف امام باب البناية القديمة التي يبلغ عمرها مائة وعشر سنوات، وكان هناك ايضا عائلات كاملة العدد.

وللمرّة الاولى شاهد «ك» مطربة سوداء مفتوحة وكانت «كاديف» تعرف انه في البرنامج قصيدة ل «ك» ولكنّها تجنّبت الموضوع متعذّرة بانها لن تذهب وانها من جهة اخرى ليس لديها وقت.
كان يشعر ان هناك قصيدة جديدة على وشك الانبثاق. سارع الخطى في اتجاه النزل محاولا ألّا يتكلم ومتعللا برغبته في تسريح شعره وتغيير ثيابه. صعد دون تأخر الى غرفته ونزع عنه معطفه، وما ان جلس الى الطاولة الصغيرة حتى بدأ الكتابة باضطراب. كان موضوع القصيدة الاساسي الصداقة والمسارّة، الثلج والنجوم وزينة الايام السعيدة وبعض التعابير الصادرة عن «كاديف» كلها كانت كما هي في القصيدة وكان «ك» يكمل بفرح حماسي الابيات كما نتأملُ التناسق في لوحة، الألفاظ المستعملة في حديثه مع «كاديف» تتبع تسلسلا خفيا وفي القصيدة المسماة «صداقة النجوم» تصرف بشكل جعل به لكل شخص نجم ولكل نجم صديق ولكل شخص توأما واخيرا ان يكون هذا التوأم امين سرّ ورغم احساسه بان القصيدة بموسيقاها صارت كاملة الا ان بعض الابيات هنا وهناك وبعض الكلمات لا زالت تبدو مخلّة به وقد فسّر ذلك فيما بعد بأنه يفكر في «إيباك» وبأنه تأخر عن العشاء وكذلك بأنه شديد السعادة.
عندما اكتملت القصيدة تحول دون تأخير من غرفته الى شقة مالكي النزل الصغيرة وهناك كان «تورقوت باي» جالسا الى الطاولة الجاهزة وسط غرفة الاكل الواسعة بسقفها العالي محاطا بابنتيه «كاديف» و»إيباك» وكان هناك امرأة ثالثة تلبس الحجاب عرف «ك» فورا انها «هند» وقبالتها عرف «ك» الصحافي «سردارباي».
ومن الجمال الغريب والفوضى القليلة للمفرش وأدوات الاكل لهاته المجموعة الصغيرة التي تبدو فرحة باجتماعها ومن حركات «زهيدة» الخادمة الكردية الفرحة والخفيفة والتي تمشي وتجيء بخفة من المطبخ في الخلف الى غرفة الطعام احس فورا ان «تورقوت باي» وبناته جعلوا من هاته الفترات الطويلة في المساء حول الطاولة طقسا.
كنت افكر فيك كامل اليوم وكامل اليوم كنت قلقا عليك اين كنت؟ . سأل «تورقوت باي» وهو ينهض واقترب فجأة من «ك» واخذه بين ذراعيه، وظن «ك» انه سيبكي.
في كل وقت من الممكن حدوث اشياء رهيبة.
قال وعلى وجهه تعبير مأساوي. عندما جلس الى مكانه الذي اشار له عليه «تورقوت باي» والذي كان قبالته في الطرف الاخر للطاولة وعندما بدأ اكل شربة العدس الموضوعة امامه بشراهة وبدأ يشرب «الراكي» مع الرجلين، تحولت أنظار الجماعة منه الى شاشة التلفاز الموضوع خلفه مباشرة مما مكنه أخيرا من القيام بما يرغب به منذ وقت طويل، وهو النظر حتى الامتلاء الى وجه «إيباك» الجميل.
انتبها بسرعة الى ان «كاديف» تنظر إليهما عندما إلْتَقَتْ الاعيْن على وجهها، الذي لم يكن اجمل من وجه اختها الكبرى، ارتسمت تعبيرة خفية للخجل، لكن «كاديف» استطاعت في لحظة اخفاءها بابتسامة متواطئة.
حول الطاولة كانوا بين الفينة والاخرى يلقون نظرة خاطفة على الشاشة، بدأ البث المباشر لسهرة مسرح الأمة. كان المذيع بصدد تقديم السهرة وهو يتمايل على الركح عندما غير «تورقوت باي» القناة.
كان «تورقوت باي» يغيّر القنوات دون انتباه حين توقف عند صورة (ضبابية) سوداء وبيضاء بحبيبات رمادية. قالت «إباك»:
أبي لماذا تشاهد ذلك الآن؟»
هنا يتساقط الثلج. أجاب والدها.
على الاقل هذا، هذه صورة حقيقية، معلومة ثابتة، تعلمين جيدا انه مهما كانت القناة فهذا يغيظني للغاية.
في هذه الحالة اذا لماذا لا تغلق التلفاز من فضلك ابي، وتابعت «كاديف» :
لدينا جميعا هنا،سبب آخر للحنق.
اشرح الموضوع لضيوفنا، يضنيني ان لا افهم. قال الاب معارضا.
أنا أيضا.
قالت هند. لهند عينان سوداويتان رائعتان. فجأة صمت الجميع.
تحدثي بنفسك هند.
اقترحت كاديف.
لا يوجد امر مخجل في هذه القصة.
على العكس تماما ثمة كل دواعي الخجل لذلك اود ان اروي هذه القصة.
اضاء وجهها بفرح غريب. ابتسمت كما لو انها تذكرت امرا رائعا «مرّ اليوم على انتحار رفيقتنا «تسليم» اربعون يوما. تسليم أكثرنا استعدادا للجهاد في سبيل الدين وكلام الله وايضا في سبيل ايمانها وشرفها. لم يتوقع اي منا انها يمكن ان تنتحر في المدرسة اساتذتها، في البيت والدها، جميعهم ضغطوا عليها كي تخلع الحجاب لكن «تسليم» قاومت. كانت على وشك التعرض للطرد من المدرسة حيث ستنهي سنوات دراستها الثلاثة المتبقية.
ذات يوم حاصر رجال الامن والدها بائع المواد الغذائية وهددوه بغلق محله ان واصل السماح لابنته بالذهاب متحجبة الى المدرسة. بدأ والد تسليم بتهديدها بالطرد من بيته وعندما فشلت مساعيه في إرغامها على نزع الحجاب قرر تزويجها من شرطي ارمل بلغ سن الخامسة والاربعين، من حينها صار الشرطيّ يزور محل والدها محملا يوميا بباقة زهور.
لشدة اشمئزاز «تسليم» من الشرطي الذي يسمّونه بالمسن ذي العينين الحديديتين كانت تقول بأنها ستخلع الحجاب فقط كي لا تتزوج من هذا الرجل غير انها لم تستطع أبدا تنفيذ تهديداتها.
بعضنا عبّر عن مساندة توعدها لأنها ستنتهي ان ارتبطت بذي العينين الحديديتين. بعضنا الاخر دعاها لتهديد والدها بالانتحار بل حتى كنتُ اكثر من حثها على ذلك لانني لم اكن ارغب في ان تتعرّى «تسليم».
كم مرّة قلت لها: تسليم من الافضل ان تنتحري على ان تخلعي الحجاب. لكنني كنت اقول ذلك دون قناعة حقيقية. كنا نعتقد ان الانتحار سَيُرْعبُ والدها لما كُنّا نقرأه في الجرائد حول انتحار النساء لاسباب تتعلق بضعف الايمان ولتبعيتهن الاقتصادية ويأسهن العاطفي لكن لان «تسليم» مؤمنة للغاية لم يخطر ببال أحد أنها ستنتحر.
مع ذلك حين تلقيتُ الخبر تقبلتهُ بسهولة، وقبل الاخرين لانني اعتقد انني لو كنت مكان «تسليم» لفعلت نفس الشيء.
بَكَتْ «هند» وصمت الجميع. اقتربت «إباك» من «هند». قبلتها ومررت يدها على شعرها ثم فعلت «كاديف» ذات الشيء. قَبْلَتْ الفتيات بعضهن.
«تورقوت باي» حاول تجاوز لحظة البكاء بالمزاح، ولفت انتباه الفتيات الى زرافتين تظهران على شاشة التلفاز، ككل الاطفال الراغبين في الترفيه، التفتت «هند» الى الشاشة متناسية وجودها وهي تشاهد زرافتين ترتعان في الظلال في مكان مشجر وبعيد جدا، ربما يقع في افريقيا. أعرف جيدا ما احس به في تلك اللحظة بالذات، بما انّه سجله مثلما هو بعد ذلك في كراسه: سعادة عميقة ودون حدود.
كما الاطفال السعيدين كانت ذراعاه ورجلاه تتحركان دون توقف وبنفاذ صبر كما لو انه و»إباك» سيفوتان القطار الذي سيوصلهما في اللحظة ذاتها الى «فرنكفورت»، تصوّر ان نورا كذاك الذي يشع من اباجورة طاولة عمل «تورقوت باي» التي تختلط فوقها الكتب بالجرائد وبدفتر النزل وبالفواتير، ستشع في مستقبل قريب من اباجورة طاولة عمله هو تنير وجه «إباك» في شقته الصغيرة أين سيعيشان معا في سعادة.
بعد انتحار «تسليم» قررت «هند» العودة دون حجاب للمدرسة لكي لا تجعل والديها اكثر تعاسة.
قالت «كاديف» ل «ك»:
لقد واجها عدّة صعوبات في تربيتها. ربّياها في الفقر كما نُربي طفلا ذكرا وحيدا. كان ابوها وامها يحلمان دوما ان ابنتهما ستهتم بهما فيما بعد ف «هند» ذكية جدا.
كانت تتكلم بصوت هادئ كما لو كانت تهمس ولكن بصوت مرتفع لتسمعها «هند»، وكانت الفتاة وعيناها مغرورقتان بالدموع تسمعها وهي تنظر الى شاشة التلفاز.
كالاخرين، نحن الفتيات المتحجبات، حاولنا في الاول اقناعها بان لا تتخلى عن قضيتنا، ولكن بعد ان ايقنا ان نزع الحجاب افضل من الانتحار قررنا مساعدة «هند»، فبالنسبة لفتاة اعتقدت ان الحجاب هو امر من الله وإشارة تحملها كالحلم ليس من السهل تقبل نزعه وقد انزوت «هند» في بيتها منذ ايام للتفكير في هذا القرار.
انطوى «ك» كالاخرين على ذنبه ولكن ما لمس ذراعه، ذراع «إباك»، حتى غمرته السعادة بينما كان «تورقوت باي» يتنقّل من قناة الى اخرى بشكل جنوني اسند «ك» ذراعه على ذراع «إباك» لاحياء هذا الشعور وقامت «إباك» بالمثل فنسي تعاسة الجلسة.
كانت سهرة مسرح الأمة تبثّ في التلفزة، وكان الرجل الطويل، كساق النبتة، يعبّر عن فخره باشتراكه في اول برنامج مباشر في تاريخ «كارس». كان يقرأ برنامج السهرة وأثناء الثرثرة المصطنعة واعترافات حارس مرمى الفريق الوطني والاسرار المخجلة للوسط السياسي ومشاهد لشكسبير وفكتور هوغو واكتشافات غير متوقعة وفضائح واسماء معقدة لا تنسى في تاريخ المسرح والسينما التركيين ودعابات وأغان ومفاجآت رائعة... سمع «ك» اسمه مصحوبا بعبارة «أكبر شعرائنا الذي عاد الى وطننا بعد غياب سنين» فأمسكت «إباك» يده تحت الطاولة.
يبدو انك لا تريد ان تذهب الى هناك هذا المساء.
قال «تورقوت باي».
أنا مرتاح وسعيد جدا هنا سيدي العزيز.
أجاب «ك» ضاغطا ذراعه مرة اخرى على ذراع «إباك».
في الحقيقة لا أريد أن أفسد سعادتك.
قالت «هند» وتحيّر الجميع لما ستضيف.
ولكني هذه الليلة اتيت هنا لاجلك فانا لم اقرأ اي من كتبك ولكن كونك شاعرا وذهبت الى ألمانيا ورأيت بلدانا يكفيني. قل لي من فضلك اذا كنت قد كتبت قصائدا مؤخرا؟
لقد جاءني الالهام في كارس.
لقد كنت ارغب في أن تشرح لي كيف يمكنني التركيز في موضوع ما. قل لي من فضلك في أي حالة ذهنية تكتب قصائدك مركزا اليس كذلك؟.
كان هذا هو السؤال الذي عادة ما تطرحه النساء على الشعراء خلال السهرات الشعرية المنظمة مع القراء الاتراك في ألمانيا ولكن كل مرة كان «ك» يخاف كأن الامر يتعلق بسؤال شخصي جدا.
لا اعرف كيف نكتب الشعر. قال. فالقصيدة الجيدة تأتي كما لو انها من الخارج، من مكان بعيد عن ذاتنا. ورأى ان «هند» تنظر اليه بريبة.
هل تقولين في ما تقصدين بكلمة مركز؟ سأل.
سجلت اجابتنا على ورق وملأت الوثائق الخاصة بنا. كانت شفاهها متبرجة وشعرها مصبوغ. كان شعرها طليقا وكانت انيقة جدّا كأنها خارجه للتو من محل للموضة النسوية ولكن كيف أقولها كانت بسيطة جدا مع ان اسئلتها جعلت بعضنا يبكين الا اننا اجبناها كثيرا. بعضنا صرّحن: رغم ان قذارة ودناءة كراس لا يلطخانها فيما بعد صرت اراها في احلامي دون ان اعير ذلك اهتماما في بداية الامر ولكن الان اجبرني على تخيل نفسي بصدد التنزه دون حجاب، شعري مطلق للريح آراني مثل هذه المرأة المغرية. يمكن ان اكون اكثر اناقة منها. ارتدي كعبا عاليا حادا ولباسا اقصر من لباسها سيهتم الرجال بي. هذا رائع وفي نفس الوقت مخجل.
«هند»، إذا لم تكن لديك رغبة لا تتحدثي عن خجلك. قالت «كاديف».
إذا كنت أروي ذلك فلانني أخجل من أحلامي. في الحقيقة أعتقد أنني إذا خلعت الحجاب لن أصير مثل النساء المغريات اللواتي تبحثن عن إغراء الرجال، انني سأخلع الحجاب دون قناعة حقيقية ولكن حتى دون قناعة يمكن ان نكون فريسة الغواية وذلك تماما حين نعلن اننا لا نرغب في ذلك جميعنا نساء ورجالا، في الليل في أحلامنا نرتكب الأثام مع أولئك الذين نعلن في النهار غياب اي رغبة تجاههم أليس هذا صحيحا؟!
يكفي هند. قالت «كاديف»
أليس ما أقول صحيحا؟
هذا خطأ قالت «كاديف» والتفتت نحو «ك».
منذ سنتين كانت «هند» ستتزوج من شاب كردي مغرور ووسيم جدا غير ان هذا الشاب اهتم بالشأن السياسي فقُتل...
لا علاقة لهذا الامر بعدم مقدرتي على خلع الحجاب.
قالت «هند» بغضب وأضافت:
اذا لم اخلع الحجاب فلانه ليس بامكاني تقديم نفسي بشعر مكشوف على الاقل. لا يمكنني الظهور بتغييرات تجعلني مغرية ومقنعة في ذات الحين.
إذا تمكنتُ من شيء فليس اكثر من تخيل نفسي دون حجاب، أفتح باب المدرسة، امشي بين الأروقة، ادخل الساحة الخاصة... إذا، إن شاء الله، إذا وجدت في ذاتي القوة الكافية لفعل ذلك سأشعر بحريتي لانني سأنزع عني الحجاب، برغبتي المطلقة وليس خوفا من الشرطة ولكن في هذه اللحظة، لا استطيع التركيز الى هذا الحد.
كُفّي عن إيلاء لحظة خلع الحجاب كل هذه الاهمية فقط لا أكثر. قالت «كاديف» وأضافت :
ثم حتى وان توصلت الى هذا الحل فستكونين صديقتنا الغالية.
ليس صحيحا. قالت هند، ستتهمونني وتحتقرونني في اعماقكم منذ اللحظة التي اتخذ فيها طريقا غير طريقكم لانني قررت خلع الحجاب. التفتت نحو «ك».
لحظة بلحظة أرى فتاة تدخل المدرسة دون حجاب تتقدم في الأروقة تدخل في قسمنا الذي اشتقته كثيرا واذكر حتى رائحة الاروقة واجواء الساحة الخاصة. في هذه اللحظة أرى هذه الفتاة من خلف زجاج النافذة التي تفصل قسمنا عن الرواق وعندما اعي ان تلك الفتاة ليست أنا وإنما غيري تنهمر دموعي.
اعتقد الجميع ان «هند» ستبكي من جديد.
ليس ما يخيفني هو انني سأصير اخرى بل لانني لن استطيع الرجوع الى وضعي الحالي أو نسيانه في الاصل، يمكن لانسان ان ينتحر لهذا السبب.
نظرت الى «ك»:
ألم تعتريك الرغبة في الانتحار ابدا؟. سألت «هند» بشكل متحدّ.
أبدا، لكن الناس بدأوا يفكرون بجدية في هذا الامر بسبب نساء كارس.
بالنسبة لنساء كثيرات مثلنا، الرغبة في الانتحار تمثل رغبة في امتلاك اجسادهن. الفتيات اللواتي فقدن عذريتهن، العذراوات اللواتي ستتزوجن رجالا لا يحببنهنّ جميعهن سينتحرن لهذه الاسباب. الانتحار بالنسبة لهن دليل طهارة ونقاء. ألم تكتبي اي قصيدة عن الانتحار؟.
نظرت ل «اباك»:
هل أرهقت ضيفكم. حسنا فليخبرنا اذا ما الذي الهمه هذه القصائد في كارس وسأتركه بسلام.
بمجرد ان التقط قصيدة في باطني أمتلئ بالعرفان تجاه الذي ألهمني إياها لانني أحقق نشوة عظيمة.
من الذي يدفعك اذا الى القصائد؟ من هو؟
إنه الاله الذي لا تصدقين، او في ارساله إليك هذه القصائد.
إنه الله من يرسل هذه القصائد. قال «ك» كما لوأنك تتلقين الوحي.
لاحظ هنا كيف تطورت الحركات الدينية.
قال «تورقوت باي» ربما لانهم هددوه. ولخوفه آمن بالله .
كلاّ هذا ينبع من اعماقي. قال «ك». اريد ان اكون ككل الناس هنا.
هل خفت او ماذا؟ لست متفقا معك بالمرة.
نعم إنني خائف. سرعان ما صاح «ك» بل اني خائف جدا.
انتفض كما لو ان مسدسا مشهرا في وجهه والقت حركته الاضطراب على كل المحيطين بالطاولة.
أين؟.
صاح «تورقوت باي» كما لو انه شعر بالسلاح الموجه اليهم.
لست خائفا، لا شيء بات يدهشني. هكذا علقت «هند» كما لو كانت تحدث نفسها بصوت مرتفع.
ولكن كالباقين، كانت تتفرّس في وجه «ك» لتدرك من اين يصدر الخطر.
بعد سنوات سيخبرني الصحفي «ساردارباي» ان وجه «ك» كان في هذه اللحظة ابيض مثل الجبس ولم يكن ليعبّر عن بعض القلق النابع من الخوف او الجنون بقدر ما كان يعكس سعادة عميقة. لنذهب ابعد بقليل سيحدثني مشددا على ان نورا ظهر بالقاعة وأن الجميع قد غمرهم البريق الرباني ومن اليوم سيلحق «ك» بصفوف القديسين.
وسيعلن شخص ما «جاءت القصيدة» والجميع سيتلقى بحمّى شديدة واضطراب اشد هذه الكلمات المرعبة كسلاح مُشهر عليهم.
لنعد الى الاحداث التي تغطيها الصحيفة التي يشرف عليها «ك».
«ك» يقارن جو الضغط الذي يسيطر على القاعة بلحظات الانتظار العصبي التي عشناها في طفولتنا خلال حصص استحضار الارواح. كنا نحضر مع «ك» في سهرات تنظمها امّ أحد أصدقائنا وكانت أرملة شابة وبدينة جدّا، في بيتها الكائن بحي فرعي في نيستاسى برفقة نساء أخريات هن ربّات بيوت غير مستمتعات بحياتهن. برفقة عازف بيانو عاجز الاصابع ونجمة سينما نزقة كنا دائما نتساءل ان كانت آتية. ضابط جيش ذي رتبة ومتقاعد «يلقن درسا» لنجمة السينما الذاوية، وبصديقنا الذي كان يعبر بنا في صمت من العمق الى قاعة الاستقبال هذه. قال احدهم في لحظات الضغط تلك هل انت حاضرة أيتها الروح؟ أشيري ببعض الضجيج.
يخيم صمت رهيب وطويل ثم يتناهى الى الاسماع صوت قرقعة غريبة، انزلاق كرسي، تأوه او احيانا صوت ضربة قوية موجهة الى ساق الطاولة وأحدهم يردّد: أيتها الروح، هل انت هنا؟ ولكن بخوف.
لكن يبدو ان «ك» لم يدخل في اي اتصال مع الأرواح، عندما يتجه نحو باب المطبخ، كان وجهه يعكس سعادة ما.
لقد شرب كثيرا. قال «تورقوت باي» ثم اضاف: «نعم ساعده» قال ذلك كما لو انه كان قد أرسل إباك لانقاذ «ك» مع انها كانت قد بادرت بذلك من تلقاء نفسها. كان «كا» قد تضاءل في كرسي قرب الباب وأخرج من جيبه كراسا وقلما.
لا أستطيع الكتابة وانتم جميعا هنا واقفون وبصدد مشاهدتي. قال «ك».
واصل «إباك» وسأبقيك في غرفة أخرى.
مرّ كل من «إباك» و»ك» بالمطبخ ذي الروائح العذبة أين تسكب «زهيد» شراب السُّكر على القطائف ثم مرّا بغرفة باردة وعادا الى الغرفة الوسطى حيث تخفت الاضاءة.
هنا بإمكانك ان تكتب؟. سألته «إباك» وهو يشعل الضوء.
رأى «ك» غرفة نظيفة حيث يوجد سريران مرتبان بشكل جيد. على الخزانة وضعت كريمات واحمر شفاه وقوارير عطر ومجموعة متواضعة من قوارير الكحول وزيت اللوز وكتب... حذو حقيبة اليد كان ثمة علبة شوكولاطة سويسرية مملوءة بالامشاط، أقلام الزينة، قلائد وأسورة. جلس على السرير قرب النافذة المغطاة بالزجاج الدقيق.
بإمكاني الكتابة هنا، قال وأردف:
لكن لا تتركيني بمفردي.
لماذا؟
لا ادري، أنا خائف.
ثم انغمس في كتابة قصيدته التي بدأها بوصف علبة الشوكولاطة التي احضرها عمه من سويسرا عندما كان طفلا.
على العلبة ارتسمت مشاهد طبيعية سويسرية كما على جدران «صيحان» في كارس، ثم ولكي يفهم اكثر القصائد التي كتبها في كراس، يرتبها وينظمها، أخرج «ك» من العلبة الخاصة بقصيدته ساعة / لعبة، عَلِمَ بعد ذلك بيومين انها كانت لعبة «إباك».
تكفي هذه الساعة لفعل شيء حول زمن الطفولة والحياة.
أريد أن تبقى دائما الى جانبي. قال «ك» «لإباك» لانني مغرم بك بجنون.
لا تعرفني حتى. قالت إباك.
ثمة نوعان من الرجال. قال «ك» «لإباك».
وهو متعاظم، الاول عاشق وعليه ان يعرف كيف تأكل فتاته السندويتشات، كيف تسرّح شعرها، بأي حمق تبهره، لماذا تغضب من والدها، وكل الطرائف التي تروى حولها.
بالنسبة للنوع الثاني من الرجال والذي انتسب اليهم كي يعشقوا يكفي ان يعلموا القليل القليل.
هذا يعني انك مغرم بي لأنّك لا تعرف بالمرة هل هذا حقا الحب بالنسبة لك؟
الحب هو ما من أجله يتخلى الانسان عن كل شيء. قال «ك».
بمجرد ان تعرف كيف آكل سندويتشا أو كيف أسرّح شعري، يتوقف حبّك.
ولكن في تلك اللحظة من تقاربنا الذي نكون قد عشناه تولد الرغبة التي ستلف جسدينا والسعادة التي بذكرياتنا المشتركة، ستربطنا بعمق.
لِمَ تنهض، اجلس على حافة السرير.
قالت «إباك»:
لا يمكنني ان أُقبّل اي شخص تحت سقف منزل والدي.
لم تعارض في البدء قبلات «ك» وانتهت بدفعه قائلة:
عندما يكون ابي بالبيت هذا لا يعجبني.
مرّة ثانية قبّلها «ك» من فمها دون ارادتها ثم جلس على حافة السرير:
علينا ان نتزوج حالا ونهرب. علينا ان نغادر هذا المكان. هل تعرفين كيف سنكون سعداء في فرنكفورت.
خيم الصمت.
كيف يمكن ان تحبني وأنت لا تعرفني؟
لانك جميلة.. لانني احلم بسعادتنا سويا.. لانني يمكن ان اقول لك كل شيء دون خجل .أحلم بأن نمارس الحب دون توقف.
ماذا ستفعل في المانيا؟
سأكون مشغولا بالقصائد التي لم اتمكن من كتابتها. سأمارس الاستمناء. العزلة مصدر فخر. بفخر يقبر الانسان نفسه في رائحته. مشكلة الشاعر الحقيقي هي دائما نفسها اذا أحسّ بالسعادة لمدة طويلة يصير عاديا، اذا كان حزينا لوقت طويل لا يمكنه ان يجد في ذاته القوة اللاّزمة للحفاظ على حياة شعره. لا يمكن ان يقيم الشعر مع السعادة الا لوقت قصير بسرعة اما ان تبسط السعادة الشعر والشاعر واما ان يفسد الشعر الحقيقي السعادة. انا خائف جدا من ان اكون حزينا اذا عدت الى فرانكفورت.
ستبقى في اسطنبول. قالت «إباك»
نظر اليها «ك» باهتمام وهمهم:
تريدين العيش في اسطنبول، أليس كذلك؟ الان صار يأمل ان «اباك» تعلق عليه امالها.
«إباك» تستدرك:
لا آمل شيئا.
أحسّ «ك» أنّه تسرّع وادرك انه لا يستطيع المكوث طويلا في كارس انه لا يستطيع ان يتنفس في هذا الزمن القصير انه امام هذا لا يستطيع إلاّ ان يستعجل الامور.
تبادلا نتف الحديث التي تنبع من الاعماق، واسماعهما تلتقط الضجيج الآتي من عربة الخيل المارة فوق الثلج امام النافذة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.