نظّمت جمعية صيانة جزيرة جربة في نطاق «لقاء الصيانة» الذي دأبت عليه في السابق، ثمّ توقّف وعادت إليه، يوم السبت 8 ديسمبر الجاري، بالمركز الثقافي والسياحي المتوسّطي بحومة السوق (القباضة المالية القديمة) لقاء فكريّ تحت العنوان المشار إليه أعلاه. وقد تضمّن اللّقاء المداخلات التالية: «الهندسة المعمارية في جزيرة جربة: قراءة في اللغة الهندسية» للأستاذ علي الجربي «انعكاسات الأبعاد الثقافية على الطابع المعماري» للأستاذة ريم بن يونس «قراءة في تقسيم المجال ونظام المنازل في جربة» للأستاذ حسين الطبجي «الخصوصيات الهندسية المعمارية لمساجد جربة» (عرض لصور شفّافة ثابتة، انجاز الجمعية). طرح الأستاذ علي الجربي في مداخلته الاشكالية التالية: الهندسة المعنية بالدراسة هي المتجذّرة في نفسية الانسان والتي ترتبط بحاجيات المتساكنين بمنطقة جربة. وهي ذاتية الابداع تعتني بالمكان الموجودة فيه وتنخرط في زمن معيّن وتهم سكّانا معيّنين، وأعني بهم سكّان الجزيرة الأصليين، وقد اتّضح أنّ هذه الهندسة تمثّل نظاما متكاملا ومهيكلا، وذات عناصر أصلية قاعدية تتلاءم مع المحيط الذي برزت فيه. وقد مكّنت ملاحظتها والتدقيق فيها من معرفة الوسائل المكوّنة للنشاط البشري فيها، ومن ذلك: نوعية الإنتاج نوعية البناء تقسيم الفضاء اختيار المكان ونوعية التعبير عن المكان والفضاء وهكذا فإنّ المعنى العميق للهندسة الذاتية يُمكن البحث فيه من خلال فهمنا للتعابير الرمزية في الأشكال وفي هندسة الفضاءات وفي العادات والتقاليد لجزيرة جربة. وتطرّق المحاضر فيما بعد إلى الاستنتاجات والملاحظات التي يمكن الخروج بها بعد التدقيق في خاصيات الحياة والمحيط بالجزيرة، والتي تعكس نمط عيش فيه استقلالية كبيرة وتعويل على الذّات تبرز في مكان الاستقرار المعبّر عنه بلغة الجزيرة «المنزل» و «الحوش» وما يحتويانه من عناصر ابتكارية تجعل الحياة فيهما سهلة وبسيطة ومريحة لا يحتاج فيه القاطن بها إلى المحيط الخارجي إلاّ بقدر تنوّع حاجاته البشرية الثانوية، أمّا حاجاته الأساسية فإنّه يوفّرها لذاته من خلال داخل الفضاء الذي يعيش فيه. كما أنّ دراسة باقي الرموز داخل البناء العام لمحلات السّكنى، والمساجد وحوانيت الحياكة والنسيج والفخّار ومعاصر الزيت الأرضية وفوق الأرض، تكشف عنصرين أساسيين ثابتين في الهندسة المعمارية لجزيرة جربة في عصورها الأولى خاصّة في بدايات القرن الماضي والتي مازالت مظاهرها مستمرّة خاصّة في بدايات القرن الماضي والتي مازالت مظاهرها مستمرّة خصوصا في الفضاءات التقليدية وهما «البساطة والاعتدال» من جهة وإرادة «التحفّظ والحشمة». ولنا أن نلاحظ أنّ مجمل هذه المعطيات قد وردت في أطروحة الدكتوراه التي أعدّها هذا الباحث والتي قدّمها في جوان سنة 2004 بالمدرسة الوطنية للهندسة والتعمير بتونس، التابعة لجامعة 7 نوفمبر بقرطاج بعنوان «هندسة جزيرة جربة: المبادئ الأساسية للتعبير الهندسي الذاتي» تحت رعاية الأستاذ آلان رُوني. فهم العالم تحدّثت الأستاذة ريم بن يونس عن البعد الروحي للتعبير الهندسي منطلقة من المبادئ التالية: الهندسة هي شكل تعبيري لفهم العالم وهي بحث عن الهوية، كما أنّها تفاعل بين الفرد ومحيطه. وإذا كان الأمر كذلك فالمشكلة إذن هي: كيف ينتقل المقدس اليومي في التعبير الهندسي؟ ولفهم هذه المسألة وتحليلها والإجابة عن الموضوع المطروح للدراسة، قامت بتبسيط محتوى الدراسة المقارنة التي قامت بها لثلاثة أنواع من الأمثلة الهندسية اختارتها لتشابهها خاصّة أنّ أصلها يقوم على مبادئ روحانية دينية منقسمة على أصول داخل منظومتين دينيتين هما الدين الاسلامي والمسيحية. وهذه الأمثلة هي: هندسة المساجد بجربة وهندسة المساجد بمنطقة مزاب بالجزائر وهندسة الكنائس بمنطقة سيتو، قرب مدينة ديجون الفرنسية وهي بالتحديد وكمثال لكل واحدة: مسجد أبو مسور بجربة جامع غرداية بالجزائر وكنيسة فونتناي بسيتو بفرنسا. واتّضح بالفعل وجود تشابه دقيق ومدهش للهندسة المعمارية للمعالم المذكورة، مثبتة بالصور والبيانات والمقاسات، رغم اختلاف المكان الجغرافي لكل منها، ويتمثّل هذا التشابه في اعتماده أيضا على مبدأين واضحين هما «البساطة والاعتدال» وتجسّم ذلك بعد التّمحيص العلمي والملاحظة اللصيقة للمعالم في نوعية المواد المستعملة للبناء والملاحق والتّزيين والتّزويق وأشكال الفضاءات الداخلية والألوان والتناسق وإيقاعات الهياكل العامّة للبناءات والتناسب والصلابة والشدّة والجو العام ووجود الأنوار والهواء داخلها وضخامة البناءات، وتقسيم العناصر في داخل كل بناية حسب حاجيات الاستعمال. وكشف هذا الاختيار على أنّ أصحاب هذه المعالم لا يبحثون كثيرا في عناصر الطبيعة لابتكار تلك المؤسّسات الدينية التعبّدية بل اكتفوا انطلاقا من تركيبتهم النفسية والروحية وتقشّفهم في الحياة وزهدهم، في عملية البناء على عناصر ذاتية لا تكلّف بحثا وتعبا مستفيضا في المحيط، فباستعمال أبسط العناصر وبنظرة معتدلة وطموح ممكن الانجاز، تمكّنوا من إقامة تلك الصروح الحضارية المذكورة أعلاه.، وبالتالي كانت الأشكال الهندسية في مظهرها النهائي مجسّمة للعنصرين والمبدأين المذكورين. وتبدو طرافة الموضوع في هذا البحث الذي قامت به الأستاذة وتمكّنت بطريقة منهجية من ابراز أنّ الهندسة المعمارية هي ابنة بيئتها ومحيطها. الفلسفة الذاتية الأستاذ حسين الطبخي، معروف بجزيرة جربة، فهو أستاذ عربية، غادر المهنة منذ سنوات، وأصبح متفرّغا لإدارة متحف لاّلة التراثي. كما أنّ له نشاطات فكرية متنوّعة، وهو يكتب منذ مدّة بحثا مطوّلا في جريدة «الجزيرة» الصادرة بجربة حول الموضوع الذي اختاره لمداخلته بعنوان «قراءة في تقسيم المجال ونظام المنازل في جربة»، وقد أوضح في مداخلته أنّ هذه القراءة مكّنته من فهم الفلسفة الذاتية الاجتماعية التي كانت وراء اختيار الانسان الجربي المتحدّث عنها خاصّة في أوائل القرن الماضي لنمط الهندسة المعمارية التي كانت وراء تقسيمه لمجال عيشه وتنقّله داخل «المنزل» ثمّ داخل «الحومة» ثمّ داخل «الجزيرة» وهي تعتمد أساسا على التعويل على الذّات وحب الاستقلالية والإيمان بالقدرة الشخصية على الفعل والنّجاح بالإمكانات الذاتية البحتة. وقدّم المتدخّل تبعا لذلك وصفًا دقيقا لكل العناصر التي يحويها كل من «المنزل» الذي يعني مقر الاستقرار وفيها من مظاهر الذكاء واستعمال المهارات الطبيعية الموجود في ذلك المكان الجغرافي الذي يكبر فيه «الجربي» ويترعرع شيئا فشيئا حتّى يخرج «للحومة» التي يحتل فيها المسجد الجامع نقطة الارتكاز للاكتشاف وربط العلاقات الاجتماعية المتطوّرة فيما بعد. وقد قسّم الفرد «الجربي» ذلك المجال بشكل يُلبّي له مختلف حاجياته الحياتية الأساسية، وبشكل متقشّف، كان لوجود الجزيرة في عرض البحر وبعدها النسبي عن اليابسة، دور فعّال في بناء تلك الفلسفة والنّظرة الذاتية، فعدم معرفة المحيط البعيد و «الخوف من المجهول» جعله يبني محيطه على نمط دفاعي متحصّن فيه حماية لنفسه ولأبنائه وعشيرته. أخيرا أبرزت الصور الشفّافة للخصوصيات الهندسية المعمارية لمساجد جربة، التي قدّمتها الجمعية، وحدة تلك الهندسة إجمالا في الجزيرة، في العناصر والمكوّنات والفضاءات واتّفاقا في الألوان المستعملة إذ يطغى اللّونان الأبيض للجدران والأزرق للأبواب أو الأخضر الدّاكن عليها. كما كشفت الصور عن الحالة المزرية التي أضحى عليها البعض من تلك المساجد داخل «الحُوُمْ» والأحياء نظرا لعدم تعهّدها وصياناتها وما تعرّضت له من تخريب من الأيادي الآثمة التي سرقت الحجارة والساريات والرخامات وأصبح البعض منها بمرور الزمن مرتعا للزبالة وأماكن للممارسات اللاّأخلاقية والكتابات الهجينة على الجدران دون احترام لقدسيتها وأصولها التعبّديّة.