يذهبون...، بسبب الضباب يذهبون، لقلة انتباه يذهبون، لضيق في الطريق يرتحلون، إثر قيادة متهورة يتركون الارض خفافا الا من الموازين... انهم ضحايا حوادث المرور القتلى الضحايا الشهداء. أولئك الذين يسافرون الى صخب الروح في الاعالي تاركين الفقد في ظل الوجوم... ربما كانوا صغارا حالمين ربما كانوا مشاريع ذوات مفكرة ومبدعة وصالحة لهذا الوطن، ربما كانوا ذواتا متشكلة وناضجة استهلكت من المال العام الكثير حتى وصلت مرحلة الانتاج: صُرف النقد من اجل تعليمها وبُذّرت بعض الثروة الفلاحة لغدائها، وتناقص محزون المياه لشربها ونظافتها وأهدرت أمتار وأمتار لكسائها، ولكنها رحلت ولم تكمل دورة الانتاج التي تكون بالكاد قد بدأتها بما ان نسبة كبيرة من قتلى حوادث المرور من الشباب لقد تعرضت لبنان لحرب شرسة طيلة ثلاثة وثلاثين يوما لم يبلغ فيها عدد الشهداء ما تبلغه أرقام قتلانا في حوادث المرور خلال بضعة أشهر انها الحرب تجتاح طرقاتنا بلا شك... لقد تنبهت السلطات لدقة وحرج هذه الوضعية الخطرة التي تكلف المجموعة الوطنية الكثير من الخسائر، واتخذت كل التدابير الضرورية للمراقبة والتنبيه والارشاد والتدخل والتنظيم... ولكن هل واكبت هذه التدابير تدابير اخرى في مستوى تأهيل جهاز التدخل الطبي تأهيلا ماديا عبر توفير مستلزمات التدخل السريع من سيارات وتجهيزات وتركيز نقاط الحماية المدنية والاسعاف الفوري في نقط متقاربة وخاصة في الطرقات التي تهشد كثافة مرورية. وهل تم النظر بعمق في حالة طرقاتنا الوطنية التي تشكو الكثير من النقائص، هل يعقل ان تنتهي الطريق السريعة «تونسمجاز الباب» بمفترق أعرج يسبب الكثير من حالات الانزلاق وخاصة لدى الشاحنات المحمّلة (وقد كنا شهودا على الكثير منها)، هل يعقل ان تبدأ الطريق السريعة سوسةتونس بمفترق منحدر امام مستشفى سهلول؟ هل يمكن ان نعايش القرن الواحد والعشرين وطرقاتنا الوطنية التي تعد شرايين حركة السير جلها بمسلك واحد للاتجاهين؟ اما عن اتساعها فلا تسأل؟ إن أمر خضوع السواق لدورات تأهيل نفسي لترشيد القيادة بات أمرا ملحا... إن أمورا كهذه وغيرها من التي تدركها المصالح المرورية والادارية المختصة اكثر، من شأنها متى اجتمعت ضمن استراتيجية تدخل موحّدة تمسح الخريطة الوطنية وتستشرف حاجياتها لعقود قادمة، من شأنها ان تخفّف من الوضعية المقلقة التي بلغتها حوادث المرور في بلادنا فدحرجتها الى أسفل سلم الترتيب الدولي في هذا المضمار: فحواثنا هي الأسوأ والأكثر تواترا والاشد فتكا بالأرواح. حوادث تخلّف مآسي عائلية وشروخات نفسية واجتماعية، حوادث قاسية تقلب حياة بعض الافراد رأسا على عقب، تخلّف نساء ثكالى وأطفالا يتامى، نساء سيُعانين طعم الوحدة في الليالي وجسامة المسؤولية الفردية في الاشراف على عائلات دون معين ودون شريك، نساء سيواجهن الحياة بمفردهن، سيضاعف دورهن التربوي والاجتماعي والمادي (الانفاقي)... إنهن زوجات قتلى حوادث الطرقات وأمهات يتامى حوادث الطرقات، اما عن أمهات الضحايا فكيف يُمكن وصف لوعتهن في فقد الأكباد؟ كيف يمكن وصف حالة أم فقدت إبنا أو إبنة ومن سيعزّيها بذبول شبابهم أو يُعزيها في يُتم الأحفاد؟ أما إن فقدت سيدة كل هؤلاء في حادثة واحدة كحالة ضحايا منطقة «بني ربيعة» من ولاية سوسة التي فقدت خلالها الأم زوجها وابنها البكر المتزوج وأب الأبناء، وإبنها الأعزب وحفيدها لإبنتها، ماذا يمكن ان نقول لها يا ترى؟ وكيف يكون العزاء؟ إنهن أمهات وزوجات ثكالى وحزينات، لن نواسيهن الا بالعمل كل من موقعه على تجنب أو التقليل من مثل هذه الفجائع ومثل هذه الكوارث حتى لا تنكب مثلهن عائلات اخرى. ان جلّ أو معظم ضحايا حوادث المرور من الرجال ومعظم المعذبات لفقدهم من النساء، فرفقا بعذابهن ولننتبه ونحن امام عجلة القيادة في سياراتنا ولنتصرف في الطريق وكأننا العقلاء الوحيدون والبقية مجانين فلا نعوّل على نباهة غيرنا ويقظته اكثر مما نعوّل على نباهتنا ويقظتنا الشخصية اثناء القيادة.