شوارع كثيرة ومتفاوتة بعضها أنيق والآخر أقل أناقة، مزدحمة دوما كطبيعة الشوارع المصرية ... شوارع عبرتها السيارة التي كانت تقلّني من مطار القاهرة الى النزل الذي ستجرى فيه فعاليات دورة تدريب المدربين والاعلاميين من أجل التخطيط لأهداف الألفية هذه الدورة التي نظمها مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث بالتعاون مع صندوق الاممالمتحدة الانمائي الى شارع صغير تفرّع من شارع الهرم في منطقة «جيزة» مصر مالت السيارة ثم توقفت أمام باب خارق الارتفاع وأشار السائق وهو يحمل حقيبتي: تفضلي سيدتي مرحبا بك في فيلا «يوسف وهبي» سألته من؟ فأجاب إنّ هذا المكان هو قصر عميد المسرح المصري الفنان يوسف وهبي (1828 1982) الذي تحوّل الى فندق فخم مستتر بالهدوء، قفزت الى الذهن تلك المسرحيات الشهيرة: «بنت المدارس، ناكر ونكير، أولاد الشارع، وتذكرت أفلام غرام وانتقام، وبنت ذوات»... وغيرها وقلت سأتابع حتما بقية ابداعات هذا الفنان الكبير من شرفة غرفتي المطلة على المسبح فالاكيد ان شخوص يوسف وهبي وأبطاله ستواصل لعب أدوارها تحت ضوء القمر وستتحاور الاطياف لترسم الحكايا والروايات... بعد الاستقبال اللطيف وعشاء التعارف... انطلقت في الصباح فعاليات دورة التدريب التي حضرتها السودان وتونس والاردن والامارات العربية واليمن السعيد والمغرب الاقصى ومصر، وتجاوزت من أجلها فلسطين حواجز حصارها وجدارها العازل وحلّت محمّلة برائحة الزعتر والبرتقال، ولكن تخلّفت بيروت وراء حجب اقتتالها الطائفي... ولم يمثلها غير الاستاذ الخبير «أديب نعمة» الذي أفلت من غلق المطار لوجوده أصلا خارج لبنان، عشرون مشاركة ومشاركا، أربع مجموعات عمل انقسمت تلقائيا وبالصدفة فاجتمع المغرب العربي الى الخليج، واجتمع السودان الى الاردن... تمازج الحاضرون في خليط تفاعلي من أجل تلقي دروس الاحصاء ودراسة أهداف الالفية وقياس المؤشرات التنموية: كيف نتجاوز أميّة النساء كيف نقلّص الفقر كيف نرتفع بمؤشرات صحّة الاسرة، كيف نساعد النساء في الريف من أجل تجاوز معوقات وجودهن الاقتصادي، ماهي الطريقة الامثل لتفاعل الاعلام مع مكوّنات المجتمع المدني، ماهي مآخذ الطرفين على بعضهما البعض، ماهي مآزق الجمعيات التنموية، كيف نسدّ ثغرات تتركها الحكومات على طريق اختياراتها الليبيرالية كيف تتجنب مؤسسات المجتمع المدني الوقوع في الفساد وكيف يخرج المتطوعون فيها من صورة «الحرامي الشاطر» على غرار ما يسميه الاخوة الفلسطينيون...؟ حصص تعلّم كثيفة ومركّزة تبدأ صباحا في التاسعة وتتواصل الى السادسة... لا مجال للتهاون في التوقيت، لا مجال للهدر في جدول اعمال الدورة، هي فقط «أم شهاب» أو خديجة من الامارات تلك السيدة خفيفة الظلّ التي سُمح لها أن تكون الاستثناء فهي تنام متأخرة متخمة بالحمام المحشي، فلا تحضر إلاّ عند استراحة القهوة... كان الالتقاء من أجل اهداف الالفية الجديدة مفعمًا بالنوايا الطيبة ومكلّلا بحماس المشاركات والمشاركين الممتلئين أفكارا خلاّقة، شارك الجميع في إعداد نشرية الدورة التدريبية وتداول على رئاسة تحريرها ثلاث اعلاميات من تونسوالامارات ومصر وانتقل بعض المتدربين الى مدربين في تفاعل مع اهداف الألفية ورفقا بالمدرّب «أديب» الذي تحمّل وحده عبء تأمين برنامج تدريب كثيف إذ عاق غلق مطار بيروت باقي المدربين من الحضور، وشارك الجميع في التمارين الجديّة التي كنّا نقدمها صباحا بعد اعدادها في شكل تمارين منزلية، وحتى من كان خجولا تجاوز خجله في ظلّ الجوّ الحميمي لهذه الدورة التدريبية التي شاركتنا بعض فعالياتها السيدة «غادة والي» مساعد الممثل المقيم لبرنامج الاممالمتحدة الانمائي، كما أمّن فعاليات مائدتين مستديرتين كل من الدكتور أحمد عبد المنعم مدير المشروع العربي لصحة الاسرة في الجامعة العربية الذي قدّم أرقاما واحصائيات حول صحة الام والطفل أثارت استغراب المشاركين واخرجتهم من مسلمات غير دقيقة اذ اظهرت أرقام وزارة الصحة التونسية مثلا أن رعاية الصحّة الانجابية في اليمن تتفوق في بعض الجوانب على الوهم التونسي بأننا البلد المتفوّق في هذا المجال على أغلب الدول العربية. المائدة المستديرة الثانية أمنها الدكتور مجدي عبد الحميد رئيس مجلس ادارة الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية وقد أسهب في التعريف بمفهوم المجتمع المدني وأدواره وغاياته ودوره في التنمية البشرية ثم تبادل الحاضرات والحضور نقاشا ثريا اثر مداخلته. مراسيم توزيع الشهائد وحفل الاختتام الذي حضرته الدكتورة منى همّآم نائبة المدير الاقليمي لبرنامج الاممالمتحدة الانمائي سبقته حصة تقييم شاملة للدورة التدريبية التي أجمع المشاركون أنها قد أوْفت بأهدافها وتخلّلتها لحظات مزاح جميل إثر الالقاب والكنيات الطريفة التي اطلقها المشاركون والمشاركات بعضهم على بعض، ثم كان خير الختام ارتجال فقرة شعرية قرأت خلالها «ندوى الدوسري» من اليمن قصيدا قصيرا رائعا بعنوان بطاقة إعفاء ثم قرأت «أمل جمعة» من فلسطين نصّا نثريا لأحد أصدقائها من كتاب الداخل الممنوعين من السفر الكاتب والصحفي «زياد خدّاش» وقرأت كاتبة السطور نصّا للشاعر عادل معيزي بعنوان «الفتنة الآهلة» قبل ان تفسح المجال للمدرب الرئيسي للدورة الاستاذ أديب نعمة ليقرأ نصا نثريا اعترافيا موغلاً في الشعرية ومشحونا بصدق ناضج ومسؤول وقد تفاجأ المشاركون برومنسية المدرّب بعيدا عن حصص التدريب. وقبل الوداع وحزم الامتعة انطلق الجميع الى مقهى الراحل نجيب محفوظ في خان الخليلي تلبية لدعوة الزميلة «السعد المنهالي» من الامارات التي كان لدعوتها الكريمة كل الاثر الطيب، وقد شاركنا السهرة كل من السيدة الرقيقة اعتدال المجبري مدربة فقرة الاعلام في هذه الدورة والاستاذ أديب نعمة... ثم انطلق الجميع الى طائرات توزعت بهم بين المشارق والمغارب... رفضتُ أن أودّع أحدا... سلّمتُ على الاصدقاء كأني سألقاهم غدا... غادرت قصر يوسف وهبي فجرا لاستقل القطار الى الاسكندرية صحبة الزميل القدير مصطفى عبد الله الصحفي في جريدة «أخبار اليوم» التي وصلتها والبحر ينتعش بصباحه فكانت فرصتي للاغتسال من ضجيج القاهرة وغيمت دخانها الوارفة، استقبلنا الاستاذ يوسف زيدان الروائي الكبير ودكتور الفلسفة واخصائي التصوف الاسلامي ومدير مركز المخطوطات في مكتبة الاسكندرية استقبلنا مرحّبا ثم أقلّنا في سيارته الفارهة الى المكتبة عابرا بنا كورنيش الاسكندرية الشهير فكنت أتتبع خطى الاحلام في روايات مراهقتي واقفو حكايا العاشقين في أفلام الشاشة... لم أكن لاتطلع لأحسن ممّا استقبلنا به الاستاذ يوسف زيدان فقد شملنا تواضعه وعلمه وخصّص لنا من الوقت الكثير الذي اقتطعه على حساب مشاغله الكثيرة والمتعددة وأمّن لنا زيارة لمكتبة الاسكندرية العظيمة ومختلف مكوّناتها. لم أكن لاحظى بها لولا جميل رعايته ولطفه، ثم بعد غداء رائق في محلّ قدورة القديم للاسماك أخذتنا الخطى الى قلعة الاسكندرية الشهيرة ثم لبيْنا دعوة كريمة وصلتنا من الدكتورة الفنانة «سنية عبد العزيز» شقيقة وزير الثقافة المصري فجالسْنا كرمها وخجلها وهي تخرج من أكياس حريرية وأكياس قطيفة زرقاء مكنونات روحها الفنّانة... كانت تخرجُ حليّا تقليدية أعادت تصميم أشكالها ورسوماتها بكل لطف من مخابئها وكأنها كانت تلامس وليدا ذا روح شفيفة، جال بنا الحديث بين سوسةوالاسكندرية بين النساء في كل أرض، تجولت مع حليّ الدكتورة بين سيوة في الحدود المصرية الليبية وبين جربة وعاصمة تونس، بين بدو موريتانيا، ووسط خيام صحراويي الجزائر، تجوّلتُ، فكانت صور النساء العتيقات طافية على أكواب الكركديه الزهرية... بصور جميلة وكتب ثرية ولطف رائع غادرت الاسكندرية في قطار المساء لتستقبلني القاهرة بزحامها الخرافي ولأرى المصريين يلاحقون الرغيف الاسود فيتمنّعُ، عدت الى القاهرة لأرافق جلابيب أبناء الشعب المثقلة بأدران الغلاء الفاحش... حاولت ان أستقل الحافلة (الاوتوبيس) لأرافق الناس في مشوار عودة ولكن نصحني مرافقي بأن لا أفعل فلن أحتمل مأساة النقل العمومي... عدت الى سلوكي السياحي واستقليْت سيارة أجرة نحو الفندق المستتر، ولم استطع ان أغادر اصوات الباعة المنكوبين بكساد بضائعهم في أسواق «الغورية» أو ميدان «العتبة» لم أستطع أن أنسى ممثل جمعية المستهلكين وهو يشرح مآسي الفقراء لما تشاركا حصّة تلفزية في قناة النيل... لم أنس الكثير الكثير الذي منحته لي هذه الدورة التدريبية في القاهرة...لم أنسى ذكرى النكبة الستين لأمتنا العربية التي أحييتها مع الرفاق في نقابة الصحافيين المصريين بين الدبكة والاشعار لم أنس مركب النيل العائم.. شكْل الفندق بعد ان غادرته المشاركات بدأ كئيبا أحاط الفراغ كل تفاصيله. غادرت امل وليلى ودينا ورانيا وسلوى وفائقة وغادة وفاطمة وآمال وحليمة ومريم وعفاف والسعد وخديجة واعتدال... بقيت ضحكاتهن ترافق ليلتي الاخيرة في قصر يوسف وهبي وبقي معي فقط عبد الحميد وندوى من اليمن، ندوى تلك الفتاة المعجزة التي فاق عطاؤها وسخاء روحها الرهيفة كل حدّ، بقي عبد الحكيم الخبير المرح ذو المشاكسات فترافقنا في جولات قريبة بعض الوقت قبل ان أستقل طائرة اخرى الى تونس وأحطّ على أرضها محمّلة بذكريات رائقة وبصداقات جميلة وحماس متين لمواصلة المساهمة في التخطيط لاهداف الالفية ودعمها من خلال ما تعهد به فريق الاعلاميين المشاركيين في دورة تدريب المدربين والاعلاميين في القاهرة، غادرت مصر وانا شديدة اليقين أنني كلما غادرت تونس أحببتها أكثر.