أزيز مزعج ينبعث من عجلات عربة تدفعها بصعوبة أمامها، قامة تعاود الانحناء بكبرياء على مقود صدئ بعد أن توقفت لحظات لالتقاط أنفاس متهدجة وتسوية شال انحدر من رأسها إلى كتفيها. تعاود المرأة سيرها قاطعة طريقها بين بائع الجملة ودكانها الصغير بعد أن تزودت بكيسي دقيق ابيض وبعض قوارير الزيت النباتي، تقف أمام محل واطئ الباب وتنادي بصوت قطّع التعب نسيجه: «يا خالد ايدك عيش خوي هبط معاي الشكاير». إنها الخالة نبيلة بائعة الملاوي تلك الرقائق الصغيرة من الخبز البلدي الطري، تجد دكانها مفتوحا كلما مررت أمامه صيفا أم شتاء صحوا أم مطرا... أمثال خالتي نبيلة كثيرات نساء يقفن وراء الأفران لكسب لقمة العيش من لقيمات يبعنها، يعلن عائلات ويتحملن نيران المواقد بصبر. «لو لم تكن ابنتي في الجامعة ومصاريفها كثيرة لا انقطعت عن تحمل هذه النيران التي تأكلني وتصهد يدي وتُميت أظافري، لفقد اندلق في إحدى المرات إناء البيض على أصابع قدمي فأصبت بحروق بالغة ولكني لم انقطع عن العمل لأني كما الخروف كلما صاح فَقدَ قضمة من حشيش». «إني اشعر بحرارة شديدة ولكني مضطرة لعدم خلع شالي أو منديلي حفاظا على النظافة - تقول صاحبة المحل-الذي لا يبتعد كثيرا عن دكان الخالة نبيلة في منطقة الدندان، الحرارة شديدة ولكن النظافة مهمة جدا حتى لا أخسر الزبائن وأكوّن لمحلي سمعة طيبة. أمام الدكان صرخ فتى عابر «واحدة بالهريسة واثنين بالتن والجبن، أسرعي يا خالة فقد اقترب موعد الدرس» . تلبي الخالة نبيلة الطلبات وتستلم النقود وتتفقد البيض المسلوق على النار وتنظف صَاجها من بقايا عجين عالقة وتطلب من شاب يمرّ أن يأتيها بعلبتي جبن من الدكان المجاور. من أجيرة ...إلى صاحبة محل عندما تقترب أكثر من باب المحل يلفحك وهج النيران المشتعلة بداخله، فعلى الأرض قدر يغلي بداخلها ماء لسلق البيض وأمامها فرنان لإعداد الملاوي، نافذة الدكان الوحيدة مغلقة «لتجنب مجرى الهواء حتى لا تنطفئ النيران» تقول بائعة الملاوي، « في الشتاء يكون الحال أحسن و وتكون الحرارة محبذة ولا يزعجني إلا الدخان الناتج عن الزيت المحروق مع العجين ولكن في الصيف يشتد الحر وتكثر المعاناة ولكن الرزق يتحرك أكثر لان الشباب يأكل أكثر خارج المنزل. ماذا افعل انه عملي الذي أساهم منه في إعالة أسرتي فأجر زوجي لا يكفي... « كانت صاحبة الشال سيدة صغيرة حركاتها مرتبكة، تكورّ العجين بين أصابعها بتؤدة، تعدّ بعض الرقائق وتغطيها بمنديل ابيض لتضعها جانبا ثم تزود بها حرفاءها الصغار العابرين إلى المدرسة، «إني بهذه الطريقة أتجنب الفوضى لأني مازالت جديدة في الصنعة ولم يمض على فتح محلي سوى بعض الأسابيع فقد استلمته من خالتي التي التحقت بابنها في الخارج، أواصل العمل فيه بعد أن أغلق المصنع الذي كنت أعمل فيه» هذه الفتاة هي المعيلة الرئيسية لإخوة وأب مريض. تفتح محلها في الصباح وتواصل العمل به إلى المساء الذي تشتد معاناتها خلاله لان الطلب يكثر وتكثر النيران المشتعلة ويكون الدكان قد اخذ نصيبا هائلا من شمس النهار بحكم موقعه في جهة الغرب. «إن المكسب يهون كل هذا التعب فانا اعمل لحسابي على الأقل واعرف ما لي وما علي وعندي»رخصة استغلال محل تجاري «وادفع أقساط الضمان الاجتماعي ثم إن أخي يأتي أحيانا ليساعدني في التزود بالسلع وضبط العائدات» عمل داخل البيت وعمل خارجه أمام المحل الثالث كان الزحام شديدا فالوقت تجاوز الثامنة مساء والمحل يقع في وسط مركب تجاري بجوار مقهى، لم تكن وراء الفرن تلك السيدة الهادئة التي عادة ما نجدها موزعة بين مواقدها و وأوانيها، تسلق حبات البطاطا، تقطّع البيض وترصّف علب الجبن، ولكنك كلما طالبتها بشيء تلبيه مع ابتسامة حتى وان كانت خدودها سينفطر منها الدم من فرط حرارة المحل أو كان العرق يغطي كل جبينها وباقي جسدها حتي تلتصق به ملابسها، لم تكن موجودة هذه السيدة في محلها ولكن زوجها وابنها قالا «إننا هنا مجتمعين لتعويضها لأنها توجهت منذ حين إلى المنزل لطبخ العشاء إنها ترتب عملها ومكونات المحل بطريقة حاذقة تسهل عليها الحركة ولكننا لا نستطيع أن نجاريها مجتمعين في هذا»، ستكون الخالة فاطمة إذن أمام موقد آخر ونار أخرى لتطبخ العشاء، لا ينقطع عملها بل هي تصل الشغل في المحل مع الشغل في البيت . «ملاوي خالتي فاطمة لا تضاهيها أية ملاوي -قال احد الشباب الذين ينتطرون دورهم- هي أغلى قليلا من باقي المحلات حيث يمكن أن تبلغ القطعة الواحدة 350 مليم ولكنها لذيذة «، أحيانا كثيرة أفضلها على عشاء البيت قال شاب آخر- فكل رواد المقهى يتعشون مما تنتجه خالتي فاطمة. نساء تأكل عقارب الساعة أعمارهن وتلسعهن نيران المواقد، يُعلن عائلات ويسهمن في دورات الإنتاج، قوة عمل صامدة ولكنها غير محسوبة في احتياطي العمل، طاقات تأكلها نيران المواقد والأفران: أفران محلات الملاوي وافران البيوت، نساء لا يعفيهن العمل خارج البيت من العمل داخل البيت.