رئيس الجمهورية قيس سعيّد.. المفسدون... إمّا يعيدون الأموال أو يحاسبهم القضاء    فاتورة استيراد الطاقة لا تطاق .. هل تعود تونس إلى مشروعها النووي؟    في علاقة بالجهاز السرّي واغتيال الشهيد بلعيد... تفاصيل سقوط أخطبوط النهضة    مذكّرات سياسي في «الشروق» (5) وزير الخارجية الأسبق الحبيب بن يحيى... يتكلّم الصادقية حاضنة المعرفة والعمل الوطني...!    أخبار المال والأعمال    تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6 ٪ من الناتج المحلي    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مع الشروق .. «طوفان الأقصى» أسقط كل الأقنعة.. كشف كل العورات    مزاد دولي يبيع ساعة أغنى راكب ابتلعه الأطلسي مع سفينة تايتنيك    الرابطة الثانية (ج 7 إيابا) قمة مثيرة بين «الجليزة» و«الستيدة»    مانشستر سيتي الانقليزي يهنّئ الترجي والأهلي    ترشح إلى «فينال» رابطة الأبطال وضَمن المونديال ...مبروك للترجي .. مبروك لتونس    فضاءات أغلقت أبوابها وأخرى هجرها روادها .. من يعيد الحياة الى المكتبات العمومية؟    تنديد بمحتوى ''سين وجيم الجنسانية''    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    الكاف..جرحى في حادث مرور..    نبيل عمار يؤكد الحرص على مزيد الارتقاء بالتعاون بين تونس والكامرون    استشهاد خمسة فلسطينيين في قصف لطيران الاحتلال لمناطق وسط وجنوب غزة..#خبر_عاجل    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    ماذا في لقاء وزير الخارجية بنظيره الكاميروني؟    طقس الليلة    تسجيل مقدّمة ابن خلدون على لائحة 'ذاكرة العالم' لدى اليونسكو: آخر الاستعدادات    بطولة الرابطة 1 (مرحلة التتويج): حكام الجولة الخامسة    البطولة الافريقية للجيدو - ميدالية فضية لعلاء الدين شلبي في وزن -73 كلغ    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    نابل: الاحتفاظ بشخص محكوم بالسجن من أجل "الانتماء إلى تنظيم إرهابي" (الحرس الوطني)    أكثر من 20 ألف طالب تونسي يتابعون دراساتهم في الخارج    التوتر يشتد في الجامعات الأمريكية مع توسع حركة الطلاب المؤيدين للفلسطينيين    مواطن يرفع قضية بالصافي سعيد بعد دعوته لتحويل جربة لهونغ كونغ    مدير عام وكالة النهوض بالبحث العلمي: الزراعات المائية حلّ لمجابهة التغيرات المناخية    الجزائر تسجل حضورها ب 25 دار نشر وأكثر من 600 عنوان في معرض تونس الدولي للكتاب    المؤرخ الهادي التيمومي في ندوة بمعرض تونس الدولي للكتاب : هناك من يعطي دروسا في التاريخ وهو لم يدرسه مطلقا    كتيّب يروّج للمثلية الجنسية بمعرض تونس للكتاب؟    وزارة التجارة تتخذ اجراءات في قطاع الأعلاف منها التخفيض في أسعار فيتورة الصوجا المنتجة محليا    الرابطة 1 ( تفادي النزول - الجولة الثامنة): مواجهات صعبة للنادي البنزرتي واتحاد تطاوين    افتتاح المداولات 31 لطب الأسنان تحت شعار طب الأسنان المتقدم من البحث إلى التطبيق    تضم فتيات قاصرات: تفكيك شبكة دعارة تنشط بتونس الكبرى    يلاحق زوجته داخل محل حلاقة ويشوه وجهها    عاجل/ إصابة وزير الاحتلال بن غفير بجروح بعد انقلاب سيارته    القلعة الصغرى : الإحتفاظ بمروج مخدرات    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    تقلص العجز التجاري الشهري    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    عاجل/ تحذير من أمطار وفيضانات ستجتاح هذه الدولة..    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    التشكيلة المنتظرة للترجي في مواجهة صن داونز    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتصار المنهزم أوالشّاهد والشّهيد في أشعار محمود درويش
بقلم : عادل خضر (*)
نشر في الشعب يوم 16 - 08 - 2008

«Le dédain des objections raisonnables enfante cette sublime
victoire vaincue qu'on nomme le martyre»
Victor Hugo, Les travailleurs de la mer
لم نستوح عنوان هذه المقالة من لدن فيكتور هيغو Victor Hugo لمعالجة قضيّة الشّهيد فحسب وإنّما لنثير معها قضيّة أساسيّة تتعلّق ب « الأدب والمعتقلات «، وهو عنوان الملفّ الأدبيّ الّذي صرفته المجلّة الأدبيّة Le magazine littéraire (1) للعناية بنوع من الكتابات كان موضوعه المعتقلات النّازيّة، خصوصا معتقل أوزويتش Auschwitz الشّهير بتخصّصه في إبادة اليهود. وقد نشأ من هذه الكتابات أدب يقوم على شهادات الفلاسفة والكتّاب والشّعراء من الّذين خاضوا تجربة المعتقلات النّازية. ويعتبر الملفّ أنّ هذه التّجربة فريدة من نوعها في تاريخ المعتقلات لأنّها تشهد على مشروع رهيب عرف بتسمية Shoah وهي كلمة تعني الإبادة الشّاملة المنظّمة ليهود أوروبا من قبل النّازيّين خلال الحرب العالميّة الثّانية.
من المهمّ أن نفضح فظاعة الجرائم ضدّ الإنسانيّة في كلّ مكان وزمان، وفي كلّ الدّول والشّعوب قاطبة، ولكن من الأهمّ أن نؤكّد أنّه لا يوجد تفاضل في الجرائم والفظاعات. فمهما كانت أنواع الجريمة فالموت واحد. ومهما كان لكلّ جريمة فرادتها التّاريخيّة فلا يعني ذلك أنّها تتمتّع بفرادة أخلاقيّة مادام لكلّ حياة وزن، ولكلّ حياة قيمة لا تفوق قيمة حياة أخرى (2). أمّا التّهويل والتّشنيع والتّفظيع فهي أعمال لا علاقة لها بالموت، ولا بالجسد المشوّه الّذي أبيد، وإنّما هي أعمال من أعمال الكلام لها صلة بالخطاب لا بالعالم، وبالكلمات لا بالأشياء. وليس أدلّ على ذلك سوى الحجّة النّافية الّتي تدّعي أنّه لا يوجد معتقل détenu واحد بمقدوره أن يثبت أنّه رأى رأي العين، وبأمّ عينيه غرفة غاز. فالعيان فقط هو الشّرط الّذي يبيح لنا أن نقول إنّ هذه الغرفة موجودة أو وجدت. أضف إلى ذلك أنّه ينبغي أن نثبت أنّ تلك الغرفة قد جرى فيها القتل بالغاز وقت العيان. فالحجّة الوحيدة المقبولة هي أنّها حجرة تقتل وأنّنا ميّتون. ولكن إن متنا لن نتمكّن من أن نشهد بأنّنا متنا بسبب غرفة الغاز... (3). فإثبات الجريمة لا يكون إلاّ في خطاب الشّهادة témoignage. ولا تكون جريمة أعظم من جريمة إلاّ في الخطاب وبالخطاب. ولكن في مستوى الوقائع ليست جرائم أوزويتش Auschwitz أشدّ فظاعة من جرائم صبرا وشتيلا ولا قتلى اليهود في معتقلات النّازيّين أشدّ موتا من القتلى الفلسطينيّن في «صبرا، كفر قاسم، دير ياسين، شاتيلا « أو جينين اليوم. فلعبة التّفظيع هي لعبة من ألعاب الكلام يمثّل الأدب طرفا من أطرافها.
حدث ما حدث سنة 1982 بمخيّمي صبرا وشاتيلا. لا أعرف من نصوص الأدب الّتي أبّدت الجريمة في خطاب وأدانتها سوى ما كتبه جان جينيه في شهادته « أربع ساعات في شاتيلا « (4) أو ما كتبه درويش في بعض شعره، وهو في رأيي شعر لا سبيل إلى الفصل فيه بين الشّاعر والشّعر (5) لأنّه كتب في معظمه بروح الشّهادة على ما يجري على الفلسطينيّين، في المنفى وفي الأرض المحتلّة أيضا، من جرائم. ولا يقتضي ذلك أنّ أشعار درويش قد فقدت بالشّهادة شعريّتها وشاعريّتها، فأصبحت مجرّد وثائق لا قيمة لها سوى اضطلاعها بدور الشّهادة التّاريخيّة على ما يجري وما جرى، فبين النّصّ الشّعريّ والقوى الشّعريّة الّتي أنتجته تواشج متين جعلت أشعار درويش تتحرّك في أفق الشّهادة. ونعني بهذه العبارة هذه العلاقة بين عمل الشّهادة acte de témoigner الّذي يضطلع به الشّاهد témoin من ناحية والشّهيد martyr بوصفه جسدا قد أبيد من ناحية أخرى. بيد أنّ هذا الجسد لا يمكن لموته أن يصبح دليلا على الجريمة، وحجّة على عدالة قضيّته إلاّ بوساطة الشّعر )أو القصّة أو المسرح أو الصّورة(. فالشّعر هو خطاب من الخطابات الممكنة الّتي يُصنع بها الشّهيد ويكون. وحينئذ يضحي الشّاعرُ الشّاهدَ الّذي يصنع بشهادته من الضّحيّة شهيدا ، ويقلب بعمل الشّهادة حدث الموت إلى شهادة أو استشهاد martyre
يمكن استقصاء هذا الأفق، أفق الشّهادة، بصفته فرضيّة للاختبار، في أشعار درويش برمّتها، ولكن الأهمّ في رأينا هو بناء هذا الافتراض والبرهنة عليه من خلال بعض القصائد الّتي صنعت شهداءها أفرادا وجماعات.
ليس للشّهيد دليل على عدالة قضيّته سوى موته. بيد أنّ هذا الموت يحتاج إلى طرف ثالث يشهد من ناحية ويقيم الدّليل من ناحية أخرى. فشتّان بين أن نشهد فننقلب بعمل الشّهادة إلى شاهد وبين أن نقيم الدّليل بإعادة بناء الوقائع كما جرت ووقعت أو على نحو قريب ممّا وقعت (6). فكيف جرى عمل الشّهادة في أشعار درويش؟
يصعب في معظم قصائد درويش الفصل بوضوح بين الشّاهد والشّهيد :
«كأنّي أعود إلى ما مضى/ كأنّي أسير أمامي/ وبين البلاط وبين الرّضا/ أعيد انسجامي/ أنا ولد الكلمات البسيطة/ وشهيد الخريطة/ أنا زهرة المشمش العائليّة/ فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل/ من البدء حتّى الجليل/ أعيدوا إليّ يديّ/ أعيدوا إليّ الهويّة.(قصيدة الأرض، أعراس)
ولا يمكن التّمييز بينهما إلاّ عندما يطلق على الشّهيد الضّحيّة اسم علم كسرحان:» ولكن سرحان قطرة دم تفتّش عن جبهة نزفتها.../ وسرحان قطرة دم تفتّش عن جثّة نسيتها... وأين؟/ ولست شريدا... ولست شهيدا/ ورائحة البنّ جغرافيا/ وسرحان يشرب قهوته../ ويضيع سرحان».
أو أحمد الزّعتر:
«راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه/ كان الخطوة / النّجمة/ ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط/ كاموا يعدّون الرّماح/ وأحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا/ ويقفز/ أحمد الآن الرّهينة/ تركت شوارعها المدينة/ وأتت إليه/ لتقتله. (أحمد الزّعنر، أعراس)
أو خديجة:
«خديجة لا تغلقي الباب خلفك/ لا تذهبي في السّحاب/ ستمطر هذا النّهار/ ستمطر هذا النّهار رصاصا/ ستمطر هذا النّهار (قصيدة الأرض، أعراس)
هذا الفصل والوصل بين الشّاهد والشّهيد إنّما هو طريقة في إخراج الحقيقة الّتي يدافع عنها الشّاعر. وهو إخراج يجعل الشّاهد خارج كلّ حياد، ويجعل لشهادته تبعات أخلاقيّة وإيطيقيّة خطيرة. فإضافة إلى أنّ الّذي عاين الحدث إبّان وقوعه هو أيضا القاضي الأوّل الّذي يصدر حكمه على الحدث فإنّنا نعتبر طريقة إخراج الحدث تتضمّن على نحو مّا حكما على ما وقع وإدانة له. ويترتّب على ذلك أنّ قضيّة الشّاهد الشّهيد عادلة لا بالبراهين المبذولة للنّظر العقليّ والفحص المنطقيّ وإنّما هي عادلة بطريقة عرضها، أي بشكل مخصوص في معاينة المرئيّ وعرضه ومحاكمته. ولمّا كان الشّهيد عاجزا عن إقناع كلّ النّاس بعدالة قضيّته ونشرها بينهم وإذاعتها والتّعريف بها اقتضى، لتجاوز هذا الحدّ وتوسيع دائرة المناصرين، أن تمتدّ نجاعة موته وتأثير فظاعته في النّفوس التّوسّل بالقصّة. بل قد يعوّل في تأسيس البعد الفرجويّ للموت على الصّورة (7). فالشّعر والقصّة والصّورة وسائل تمكّن من معرفة الشّهيد لا بوصفه معطى، أي جسد قد أبيد بالموت، وإنّما بوصفه خطابا، أي طريقة في إخراج الموت وتمثيل الشّهيد وعرض موته على نحو بالغ التّأثير.
وقد توسّل درويش بطرق شتّى في الإخراج لعلّ أبرزها القصّ، أو تسريد بعض التّفاصيل الفاجعة الّتي تشخّص الجريمة:»يصعد السّلّم الحجريّ/ سريعا كعادته مثل طير يبلّله البرق/ يدخل غرفته. يتأمّل أوراقه والخريطة والشّهداء الكثيرين فوق الجدار/ ويقرأ برقيّة من دمشق: «تعال مع الصّيف يا ابني «،/ وبرقيّة من بقيّة بيروت: « شدّد عليك الحراسة «/ لم يتساءل لماذا يريدون أن يقتلوه/ ولم يتذكّر بلادا تنام على صرّة الله مثل المسدّس/ لكنّهم أخبروه/ أنّ صاحبه الطّالب العربيّ يريد مقابلة عاجلة/ فألقى عليه تحيّته الشّارده/ وردّ بأقصر منها... وبالطّلقة القاتله/ وعاد إلى شجر الكستناء/ ليشرب قهوته البارده»(الحوار الأخير في باريس لذكرى عزالدين قلق، حصار لمدائح البحر، 1984)
ومن هذا المنظور تضحي أشعار درويش مؤسّسة للحقيقة بما تتضمّنه من ألم وما تعرضه من فظاعة. بل كلّما تضاعف الألم كانت الشّهادة أقوى والحقيقة مثبتة على نحو أفضل، والمشهد مثيرا فاجعا. ولذلك كانت طبيعة الدّليل بالشّهيد قائمة على نوع من المزايدة بين المرئيّ والفظيع. فحدّ الاحتمال الأقصى عند الشّاهد لا يوافقه سوى حدّ القساوة الأقصى عند الجلاّد. نجد هذه الطّريقة في التّفظيع في مشهد من صبرا الشّهيدة:» صبرا تنام. وخنجر الفاشيّ يصحو/ صبرا تنادي... من تنادي/ كلّ هذا اللّيل لي، واللّيل ملح/ يقطع الفاشيّ ثدييها يقلّ اللّيل/ يرقص حول خنجره ويلعقه. يغنّي لانتصار الأرز موّالا، ويمحو/ في هدوء... في هدوء لحمها من عظمها/ ويمدّد الأعضاء فوق الطّاولة/ ويواصل الفاشيّ رقصته ويضحك للعيون المائلة/ويجنّ من فرح، وصبرا لم تعد جسدا:/ يركّبها كما شاءت غرائزه، وتصنعها مشيئته. ويسرق خاتما من لحمها، ويعود من دمها إلى تلموده (مديح الظّلّ العالي، حصار لمدائح البحر، 1984).وعلى هذا النّحو يضحي الموت وحده لا يكفي. ينبغي أن تتضاعف شناعته حتّى يكون فظيعا، ولا يطاق حتّى يكون ظافرا.
لا يوجد شهيد بلا أمّة ولا توجد أمّة بلا نقل، ولا نقل بلا وسائط نقل كالصّور والقصص والأساطير المؤسّسة والشّعر. تنهض أشعار درويش بهذا الدّور. فهي أرشيف لشهداء الأمّة ، أودعت فيه تعب العبارة الدّامية ودماء الضّحايا المستباحة:
«تعب الرّثاء من الضّحايا/ والضّحايا جمّدت أحزانها/ أوّاه! من يرثي المراثي؟/ لست أدري أيّ قافية تحنّطني، فأصبح صورة/ في معرض الكتب القريب/ ولست ادري أيّ إحصائيّة ستضمّني.../ يا أيّها الشّعراء... لا تتكاثروا! / ليست جراحي دفترا./ يا أيّها الزّعماء... لا تتكاثروا! / ليست عظامي منبرا./ فدعوا دمي- حبر التّفاهم بين أشياء الطّبيعة والإله/ ودعوا دمي لغة التّخاطب بين أسوار المدينة والغزاة./ دمي بريد الأنبياء» (الخروج من ساحل المتوسّط، )
غير أنّ الشّعر لا يقتصر على هذا الدّور فحسب، ذلك أنّ الكتابة الشّعريّة عند محمود درويش هي أيضا هذا الفضاء الّذي يتأسّس فيه أفق الشّاهد الشّهيد، أو أفق الشّهادة، بوصفها تأمّلا في الموت والمرتكزات الّتي ينهض عليها. ولعلّ أهمّ مرتكزات الموت في أشعار درويش هي تلك الّتي تحيل على علاقة الفلسطينيّ بالمطلق، أي ذاك المطلق الّذي تجسّد عنده في الأرض لا الله. وكلّ ما يفصم هذه العلاقة من منفى ومطاردة وعشق وفداء... هو الّذي يؤسّس أفق الشّهادة بوصفها شوقا لأرض غدت كأرض الميعاد أو تكاد. لا ينبغي أن يعزب عنّا أنّ الشّوق désir يحيل دوما على افتقار مؤسّس للذّات وفقدان مؤسّس للخطاب. ودون ذاك الافتقار تغدو الكتابة في هذا الأفق غير ممكنة. من عاشق من فلسطين وما قبلها إلى قصيدة بيروت وما بعدها تبدو أشعار درويش كأغنية واحدة متعدّدة الوجوه والأصوات تتغنّى بالأرض/الأمّ، بهذا الوجع الأموميّ والانفصال الّذي يتجدّد ألمه كلّما دعا داعي الرّحيل. فالمنفى أرض تذكّر بفقدان الأرض/الأمّ، وتذكّر بالموت بوصفه وجه العشق الآخر ومصير العشّاق من الأشهاد والشّهداء:» بحر لتسكن أمّ تضيع/بحر لأيلولَ الجدبد أم الرّجوع إلى الفصول الأربعة/بحر أمامك، فيك، بحر من ورائك./تفتح الموج القديم: ولدت قرب البحر من أمّ فلسطينيّة وأب/أراميّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب مؤابيّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب أشوريّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب عروبيّ. ومن أمّ، ومن أمّ.../ على حجر يقيّد فوقه الرّومان أسرى حربهم ويحرّرون جمالهم منّي/ أنا الحجر الّذي شدّ البحار إلى قرون اليابسه/ وأنا نبيّ الأنبياء/ وشاعر الشّعراء/ منذ رسائل المصريّ في الوادي/ إلى أشلاء طفل في شاتيلا/ أنا أوّل القتلى وآخر من يموت/ إنجيل أعدائي وتوراة الوصايا اليائسة/ كتبت على جسدي/ أنا ألف، وباء في كتاب الرّسم يشبهني ويقتلني سواي/ كلّ الشّعوب تعوّدت أن تدفن الموتى بأضلاعي (مديح الظّلّ العالي، حصار لمدائح البحر، 1984)
ولكن للموت في أفق الشّهادة بعد آخر غير الشّوق الأموميّ إلى الأرض. فأشعار درويش هي أشعار إدانة تشهّر بالنّظام السّياسيّ الأرضيّ وآثامه وجرائمه باسم نظام آخر غير تيولوجيّ هو حقوق الإنسان. فالبعد الأخرويّ في هذا الأفق غائب تماما، إذ ليس للشّهيد حياة أخرى يحياها خارج زمانيّة الأرض:
«أنا شاهد المذبحة/ وشهيد الخريطة/أنا ولد الكلمات البسيطة/ رأيت الحصى أجنحه/ رأيت النّدى أسلحه/ عندما أغلقوا باب قلبي عليّا/ وأقاموا الحوافر فيّا// ومنع التّجوّل/ صار قلبي حاره/ وضلوعي حجاره/ وأطلّ القرنفل/ وأطلّ القرنفل»(قصيدة الأرض، أعراس)
ورغم أنّ أفق الشّهادة في أشعار درويش يكاد يكون متجرّدا من بعد تيولوجيّ متعال فإنّ الشّهيد يظلّ في آخر المطاف شأنا دينيّا وإن وجد في التّاريخ شهيد العشق والعلم والفكر الحرّ... فالشّهيد دليل على الحقيقة وموته دليل لكلّ حقيقة وهو ما يحرج الدّولة الحديثة الّتي لا تسمح بأيّ سلوك دينيّ بما أنّها تمتلك كلّ حقيقة وإرادة كلّ حقيقة. ولذلك تضع سلوك الشّهيد في دائرة العصيان المدنيّ والإرهاب. ولكن إذا كان عصر الشّهداء قد ولّى وأضحت شهادتهم بموتهم غير ذات جدوى أو ممكنة مادام دليل الشّهيد غير ناجع للبرهنة على عدالة القضيّة هل نعتبر حقّ التّعذيب والانتهاك اليوميّ للإنسانيّ في الإنسان أمرا شرعيّا؟ تجيبنا الفلسفة بأنّ الجريمة مهما كان غطاؤها الميتافيزيقيّ هي من قبيل ما لا يبرّر L'injustifiable وما لا يقبل L'inacceptable (8)، ويجيبنا الشّاعر شعرا على نحو تشهيريّ وإشهاريّ بالغ القساوة: بيروت جرا/ بيروت ظهرا/ بيروت ليلا/ يخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة/ يرتدي فصلا من التّلمود: اقتل كي تكون/عشرين قرنا كان ينتظر الجنون/عشرين قرنا كان سفّاحا معمّم/ عشرين قرنا كان يبكي... كان يبكي/ كان يخفي سيفه في دمعته/ أو كان يحشو بالدّموع البندقيّة/ عشرين قرنا كان ينتظر الفلسطينيّ في طرف المخيّم/ عشرين قرنا كان يعلم/ أنّ البكاء سلاحه (مديح الظّلّ العالي، )
/انظر: Le magazine littéraire, la littérature et les camps , n438, Janvier 2005
2/انظر:Ricoeur , Paul: (2000) La Mémoire , lصHistoire , lصOubli. Lصordre philosophique. ditions du Seuil , Paris, p418
3/انظر: Lyotard, Jean-François: (1983) Le différend, Les éditions de Minuit, p16 الّذي يستمرّ في توليد حجج الخصم من النّفاة négationnistes
/4 ترجم محمّد برّادة شذرات منها في الكرمل، قبرص، 1984
/5 بكّار، توفيق»مجنون فلسطين»، ضمن): درويش، محمود: مختارات شعريّة،دار الجنوب للنّشر، تونس1985، ص.ص 7-14.)
6 /يميّزDulong , Renaud: (1998 ) Le Témoin oculaire. Les conditions sociales de) lصattestation personnelle. Paris , EHESS , p43 (في هذا العمل بين أن نشهد وأن نروي. فالفرق بينهما يكمن في بناء نسق الأحداث وإثبات مرجعيّتها أو وقوعها في العالم الواقعيّ وذلك بشهادة السّارد البيوغرافيّة. فما يميّز ظاهرة الشّهادة عن غيرها من أعمال الكلام هو اللّحظة الّتي يقدّم فيها المتكلّم نفسه أمام الآخرين، أي على نحو عموميّ ، على أنّه شاهد. فهذا الصّنيع هو العمل الأوّل الّذي يغدو به المتكلّم شاهدا، أو الشّاهد شاهدا على شيء مّا. و ليس عمل الشّهادة غريبا عن محادثاتنا العاديّة. فهو ينجز كلّ يوم عندما يخصّص السّارد بأقوال مخصوصة، فينقلب دوره من ممثّل يقصّ أحداثا إلى ممثّل مضطلع بدور الشّاهد. من هذه الأقوال الّتي تقلب الكلام إلى عمل شهادة نذكر على سبيل المثال: « ينبغي أن نطلب منه أن يقول ما رأى...» أو « هو أولى النّاس بأن يحكي ما جرى « أو « لقد كان موجودا على عين المكان « أو « أؤكّد لك أنّ هذا كلّ ما جرى، لقد كنت هناك حاضرا « أو « أتدري ماذا رأيت...» فهذا الضّرب من الأقاويل يؤصّل دور شاهد العيان ويجعلنا نصرّف اللّغة على نحو يختلف عن الخطاب السّرديّ.
7/انظر، خليل، الهادي: «رمية النّرد، مقالات في الصّورة»، تونس 1999، خصوصا فصل « مدارج سان سلفادور « ص.ص143-149 حيث حلّل صورا رهيبة من مجزرة سان سلفادور، ماي 1979.
8 انظر:Ricoeur , Paul: La Mémoire , lصHistoire , lصOubli, op.cit, p432
------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ جامعي بكلية الآداب منوبة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.