معطيات جديدة بخصوص منتحل صفة صفة مسؤول حكومي: الاحتفاظ بكاهية مدير بالقصرين    صفاقس تُكرّم إبنها الاعلامي المُتميّز إلياس الجراية    سوريا... وجهاء الطائفة الدرزية في السويداء يصدرون بيانا يرفضون فيه التقسيم أو الانفصال أو الانسلاخ    مدنين: انطلاق نشاط شركتين أهليتين في قطاع النسيج    انهزم امام نيجيريا 0 1 : بداية متعثّرة لمنتخب الأواسط في ال«كان»    في انتظار تقرير مصير بيتوني... الساحلي مديرا رياضيا ومستشارا فنيّا في الافريقي    رابطة الهواة لكرة القدم (المستوى 1) (الجولة 7 إيابا) قصور الساف وبوشمة يواصلان الهروب    عاجل/ "براكاج" لحافلة نقل مدرسي بهذه الولاية…ما القصة..؟    الاحتفاظ بمنتحل صفة مدير ديوان رئيس الحكومة في محاضر جديدة من أجل التحيل    الطبوبي في اليوم العالمي للشغالين : المفاوضات الاجتماعية حقّ ولا بدّ من الحوار    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    خطبة الجمعة .. العمل عبادة في الإسلام    المسرحيون يودعون انور الشعافي    نبض الصحافة العربية والدولية... الطائفة الدرزية .. حصان طروادة الإسرائيلي لاحتلال سوريا    الوضع الثقافي بالحوض المنجمي يستحق الدعم السخي    أولا وأخيرا: أم القضايا    إدارة ترامب تبحث ترحيل مهاجرين إلى ليبيا ورواندا    الجلسة العامة للبنك الوطني الفلاحي: القروض الفلاحية تمثل 2ر7 بالمائة من القروض الممنوحة للحرفاء    المهدية: سجن شاب سكب البنزين على والدته وهدّد بحرقها    الكورتيزول: ماذا تعرف عن هرمون التوتر؟    انتخاب رئيس المجلس الوطني لهيئة الصيادلة رئيسا للاتحاد الافريقي للصيادلة    لماذا يصاب الشباب وغير المدخنين بسرطان الرئة؟    وزير الإقتصاد وكاتب الدولة البافاري للإقتصاد يستعرضان فرص تعزيز التعاون الثنائي    إقبال جماهيري كبير على معرض تونس الدولي للكتاب تزامنا مع عيد الشغل    مصدر قضائي يكشف تفاصيل الإطاحة بمرتكب جريمة قتل الشاب عمر بمدينة أكودة    عاجل/ تفاصيل جديدة ومعطيات صادمة في قضية منتحل صفة مدير برئاسة الحكومة..هكذا تحيل على ضحاياه..    الطب الشرعي يكشف جريمة مروعة في مصر    تونس العاصمة وقفة لعدد من أنصار مسار 25 جويلية رفضا لأي تدخل أجنبي في تونس    ارتفاع طفيف في رقم معاملات الخطوط التونسية خلال الثلاثي الأول من 2025    بالأرقام/ ودائع حرفاء بنك تونس والامارات تسجل ارتفاعا ب33 بالمائة سنة 2024..(تقرير)    وزير الصحة: لا يوجد نقص في الأدوية... بل هناك اضطراب في التوزيع    بطولة افريقيا للمصارعة بالمغرب: النخبة التونسية تختتم مسابقات صنفي الاصاغر والصغريات بحصيلة 15 ميدالية منها 3 ذهبيات    عاجل/ مجزرة جديدة للكيان الصهيوني في غزة..وهذه حصيلة الشهداء..    الطبوبي: انطلاق المفاوضات الاجتماعية في القطاع الخاص يوم 7 ماي    نحو توقيع اتفاقية شراكة بين تونس والصين في مجال الترجمة    يوم دراسي حول 'الموسيقى الاندلسية ... ذاكرة ثقافية وابداع' بمنتزه بئر بلحسن بأريانة    البطولة العربية لالعاب القوى للاكابر والكبريات : التونسية اسلام الكثيري تحرز برونزية مسابقة رمي الرمح    تونس العاصمة مسيرة للمطالبة بإطلاق سراح أحمد صواب    توقيع عدد من الإصدارات الشعرية الجديدة ضمن فعاليات معرض تونس الدولي للكتاب    عاجل/ المُقاومة اليمنية تستهدف مواقع إسرائيلية وحاملة طائرات أمريكية..    محمد علي كمون ل"الشروق" : الجمهور على مع العرض الحدث في أواخر شهر جوان    صادم: أسعار الأضاحي تلتهب..رئيس الغرفة الوطنية للقصابين يفجرها ويكشف..    التوقعات الجوية لهذا اليوم..طقس حار..    قيس سعيد: ''عدد من باعثي الشركات الأهلية يتمّ تعطيلهم عمدا''    كأس أمم إفريقيا لكرة القدم داخل القاعة للسيدات: المنتخب المغربي يحرز لقب النسخة الاولى بفوزه على نظيره التنزاني 3-2    توجيه تهمة 'إساءة استخدام السلطة' لرئيس كوريا الجنوبية السابق    منذ سنة 1950: شهر مارس 2025 يصنف ثاني شهر الأشد حرارة    وفاة أكبر معمرة في العالم عن عمر يناهز 116 عاما    منظمة الأغذية والزراعة تدعو دول شمال غرب إفريقيا إلى تعزيز المراقبة على الجراد الصحراوي    معز زغدان: أضاحي العيد متوفرة والأسعار ستكون مقبولة    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    مباراة برشلونة ضد الإنتر فى دورى أبطال أوروبا : التوقيت و القناة الناقلة    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    تعرف على المشروب الأول للقضاء على الكرش..    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الانتصار المنهزم أوالشّاهد والشّهيد في أشعار محمود درويش
بقلم : عادل خضر (*)
نشر في الشعب يوم 16 - 08 - 2008

«Le dédain des objections raisonnables enfante cette sublime
victoire vaincue qu'on nomme le martyre»
Victor Hugo, Les travailleurs de la mer
لم نستوح عنوان هذه المقالة من لدن فيكتور هيغو Victor Hugo لمعالجة قضيّة الشّهيد فحسب وإنّما لنثير معها قضيّة أساسيّة تتعلّق ب « الأدب والمعتقلات «، وهو عنوان الملفّ الأدبيّ الّذي صرفته المجلّة الأدبيّة Le magazine littéraire (1) للعناية بنوع من الكتابات كان موضوعه المعتقلات النّازيّة، خصوصا معتقل أوزويتش Auschwitz الشّهير بتخصّصه في إبادة اليهود. وقد نشأ من هذه الكتابات أدب يقوم على شهادات الفلاسفة والكتّاب والشّعراء من الّذين خاضوا تجربة المعتقلات النّازية. ويعتبر الملفّ أنّ هذه التّجربة فريدة من نوعها في تاريخ المعتقلات لأنّها تشهد على مشروع رهيب عرف بتسمية Shoah وهي كلمة تعني الإبادة الشّاملة المنظّمة ليهود أوروبا من قبل النّازيّين خلال الحرب العالميّة الثّانية.
من المهمّ أن نفضح فظاعة الجرائم ضدّ الإنسانيّة في كلّ مكان وزمان، وفي كلّ الدّول والشّعوب قاطبة، ولكن من الأهمّ أن نؤكّد أنّه لا يوجد تفاضل في الجرائم والفظاعات. فمهما كانت أنواع الجريمة فالموت واحد. ومهما كان لكلّ جريمة فرادتها التّاريخيّة فلا يعني ذلك أنّها تتمتّع بفرادة أخلاقيّة مادام لكلّ حياة وزن، ولكلّ حياة قيمة لا تفوق قيمة حياة أخرى (2). أمّا التّهويل والتّشنيع والتّفظيع فهي أعمال لا علاقة لها بالموت، ولا بالجسد المشوّه الّذي أبيد، وإنّما هي أعمال من أعمال الكلام لها صلة بالخطاب لا بالعالم، وبالكلمات لا بالأشياء. وليس أدلّ على ذلك سوى الحجّة النّافية الّتي تدّعي أنّه لا يوجد معتقل détenu واحد بمقدوره أن يثبت أنّه رأى رأي العين، وبأمّ عينيه غرفة غاز. فالعيان فقط هو الشّرط الّذي يبيح لنا أن نقول إنّ هذه الغرفة موجودة أو وجدت. أضف إلى ذلك أنّه ينبغي أن نثبت أنّ تلك الغرفة قد جرى فيها القتل بالغاز وقت العيان. فالحجّة الوحيدة المقبولة هي أنّها حجرة تقتل وأنّنا ميّتون. ولكن إن متنا لن نتمكّن من أن نشهد بأنّنا متنا بسبب غرفة الغاز... (3). فإثبات الجريمة لا يكون إلاّ في خطاب الشّهادة témoignage. ولا تكون جريمة أعظم من جريمة إلاّ في الخطاب وبالخطاب. ولكن في مستوى الوقائع ليست جرائم أوزويتش Auschwitz أشدّ فظاعة من جرائم صبرا وشتيلا ولا قتلى اليهود في معتقلات النّازيّين أشدّ موتا من القتلى الفلسطينيّن في «صبرا، كفر قاسم، دير ياسين، شاتيلا « أو جينين اليوم. فلعبة التّفظيع هي لعبة من ألعاب الكلام يمثّل الأدب طرفا من أطرافها.
حدث ما حدث سنة 1982 بمخيّمي صبرا وشاتيلا. لا أعرف من نصوص الأدب الّتي أبّدت الجريمة في خطاب وأدانتها سوى ما كتبه جان جينيه في شهادته « أربع ساعات في شاتيلا « (4) أو ما كتبه درويش في بعض شعره، وهو في رأيي شعر لا سبيل إلى الفصل فيه بين الشّاعر والشّعر (5) لأنّه كتب في معظمه بروح الشّهادة على ما يجري على الفلسطينيّين، في المنفى وفي الأرض المحتلّة أيضا، من جرائم. ولا يقتضي ذلك أنّ أشعار درويش قد فقدت بالشّهادة شعريّتها وشاعريّتها، فأصبحت مجرّد وثائق لا قيمة لها سوى اضطلاعها بدور الشّهادة التّاريخيّة على ما يجري وما جرى، فبين النّصّ الشّعريّ والقوى الشّعريّة الّتي أنتجته تواشج متين جعلت أشعار درويش تتحرّك في أفق الشّهادة. ونعني بهذه العبارة هذه العلاقة بين عمل الشّهادة acte de témoigner الّذي يضطلع به الشّاهد témoin من ناحية والشّهيد martyr بوصفه جسدا قد أبيد من ناحية أخرى. بيد أنّ هذا الجسد لا يمكن لموته أن يصبح دليلا على الجريمة، وحجّة على عدالة قضيّته إلاّ بوساطة الشّعر )أو القصّة أو المسرح أو الصّورة(. فالشّعر هو خطاب من الخطابات الممكنة الّتي يُصنع بها الشّهيد ويكون. وحينئذ يضحي الشّاعرُ الشّاهدَ الّذي يصنع بشهادته من الضّحيّة شهيدا ، ويقلب بعمل الشّهادة حدث الموت إلى شهادة أو استشهاد martyre
يمكن استقصاء هذا الأفق، أفق الشّهادة، بصفته فرضيّة للاختبار، في أشعار درويش برمّتها، ولكن الأهمّ في رأينا هو بناء هذا الافتراض والبرهنة عليه من خلال بعض القصائد الّتي صنعت شهداءها أفرادا وجماعات.
ليس للشّهيد دليل على عدالة قضيّته سوى موته. بيد أنّ هذا الموت يحتاج إلى طرف ثالث يشهد من ناحية ويقيم الدّليل من ناحية أخرى. فشتّان بين أن نشهد فننقلب بعمل الشّهادة إلى شاهد وبين أن نقيم الدّليل بإعادة بناء الوقائع كما جرت ووقعت أو على نحو قريب ممّا وقعت (6). فكيف جرى عمل الشّهادة في أشعار درويش؟
يصعب في معظم قصائد درويش الفصل بوضوح بين الشّاهد والشّهيد :
«كأنّي أعود إلى ما مضى/ كأنّي أسير أمامي/ وبين البلاط وبين الرّضا/ أعيد انسجامي/ أنا ولد الكلمات البسيطة/ وشهيد الخريطة/ أنا زهرة المشمش العائليّة/ فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل/ من البدء حتّى الجليل/ أعيدوا إليّ يديّ/ أعيدوا إليّ الهويّة.(قصيدة الأرض، أعراس)
ولا يمكن التّمييز بينهما إلاّ عندما يطلق على الشّهيد الضّحيّة اسم علم كسرحان:» ولكن سرحان قطرة دم تفتّش عن جبهة نزفتها.../ وسرحان قطرة دم تفتّش عن جثّة نسيتها... وأين؟/ ولست شريدا... ولست شهيدا/ ورائحة البنّ جغرافيا/ وسرحان يشرب قهوته../ ويضيع سرحان».
أو أحمد الزّعتر:
«راح أحمد يلتقي بضلوعه ويديه/ كان الخطوة / النّجمة/ ومن المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط/ كاموا يعدّون الرّماح/ وأحمد العربيّ يصعد كي يرى حيفا/ ويقفز/ أحمد الآن الرّهينة/ تركت شوارعها المدينة/ وأتت إليه/ لتقتله. (أحمد الزّعنر، أعراس)
أو خديجة:
«خديجة لا تغلقي الباب خلفك/ لا تذهبي في السّحاب/ ستمطر هذا النّهار/ ستمطر هذا النّهار رصاصا/ ستمطر هذا النّهار (قصيدة الأرض، أعراس)
هذا الفصل والوصل بين الشّاهد والشّهيد إنّما هو طريقة في إخراج الحقيقة الّتي يدافع عنها الشّاعر. وهو إخراج يجعل الشّاهد خارج كلّ حياد، ويجعل لشهادته تبعات أخلاقيّة وإيطيقيّة خطيرة. فإضافة إلى أنّ الّذي عاين الحدث إبّان وقوعه هو أيضا القاضي الأوّل الّذي يصدر حكمه على الحدث فإنّنا نعتبر طريقة إخراج الحدث تتضمّن على نحو مّا حكما على ما وقع وإدانة له. ويترتّب على ذلك أنّ قضيّة الشّاهد الشّهيد عادلة لا بالبراهين المبذولة للنّظر العقليّ والفحص المنطقيّ وإنّما هي عادلة بطريقة عرضها، أي بشكل مخصوص في معاينة المرئيّ وعرضه ومحاكمته. ولمّا كان الشّهيد عاجزا عن إقناع كلّ النّاس بعدالة قضيّته ونشرها بينهم وإذاعتها والتّعريف بها اقتضى، لتجاوز هذا الحدّ وتوسيع دائرة المناصرين، أن تمتدّ نجاعة موته وتأثير فظاعته في النّفوس التّوسّل بالقصّة. بل قد يعوّل في تأسيس البعد الفرجويّ للموت على الصّورة (7). فالشّعر والقصّة والصّورة وسائل تمكّن من معرفة الشّهيد لا بوصفه معطى، أي جسد قد أبيد بالموت، وإنّما بوصفه خطابا، أي طريقة في إخراج الموت وتمثيل الشّهيد وعرض موته على نحو بالغ التّأثير.
وقد توسّل درويش بطرق شتّى في الإخراج لعلّ أبرزها القصّ، أو تسريد بعض التّفاصيل الفاجعة الّتي تشخّص الجريمة:»يصعد السّلّم الحجريّ/ سريعا كعادته مثل طير يبلّله البرق/ يدخل غرفته. يتأمّل أوراقه والخريطة والشّهداء الكثيرين فوق الجدار/ ويقرأ برقيّة من دمشق: «تعال مع الصّيف يا ابني «،/ وبرقيّة من بقيّة بيروت: « شدّد عليك الحراسة «/ لم يتساءل لماذا يريدون أن يقتلوه/ ولم يتذكّر بلادا تنام على صرّة الله مثل المسدّس/ لكنّهم أخبروه/ أنّ صاحبه الطّالب العربيّ يريد مقابلة عاجلة/ فألقى عليه تحيّته الشّارده/ وردّ بأقصر منها... وبالطّلقة القاتله/ وعاد إلى شجر الكستناء/ ليشرب قهوته البارده»(الحوار الأخير في باريس لذكرى عزالدين قلق، حصار لمدائح البحر، 1984)
ومن هذا المنظور تضحي أشعار درويش مؤسّسة للحقيقة بما تتضمّنه من ألم وما تعرضه من فظاعة. بل كلّما تضاعف الألم كانت الشّهادة أقوى والحقيقة مثبتة على نحو أفضل، والمشهد مثيرا فاجعا. ولذلك كانت طبيعة الدّليل بالشّهيد قائمة على نوع من المزايدة بين المرئيّ والفظيع. فحدّ الاحتمال الأقصى عند الشّاهد لا يوافقه سوى حدّ القساوة الأقصى عند الجلاّد. نجد هذه الطّريقة في التّفظيع في مشهد من صبرا الشّهيدة:» صبرا تنام. وخنجر الفاشيّ يصحو/ صبرا تنادي... من تنادي/ كلّ هذا اللّيل لي، واللّيل ملح/ يقطع الفاشيّ ثدييها يقلّ اللّيل/ يرقص حول خنجره ويلعقه. يغنّي لانتصار الأرز موّالا، ويمحو/ في هدوء... في هدوء لحمها من عظمها/ ويمدّد الأعضاء فوق الطّاولة/ ويواصل الفاشيّ رقصته ويضحك للعيون المائلة/ويجنّ من فرح، وصبرا لم تعد جسدا:/ يركّبها كما شاءت غرائزه، وتصنعها مشيئته. ويسرق خاتما من لحمها، ويعود من دمها إلى تلموده (مديح الظّلّ العالي، حصار لمدائح البحر، 1984).وعلى هذا النّحو يضحي الموت وحده لا يكفي. ينبغي أن تتضاعف شناعته حتّى يكون فظيعا، ولا يطاق حتّى يكون ظافرا.
لا يوجد شهيد بلا أمّة ولا توجد أمّة بلا نقل، ولا نقل بلا وسائط نقل كالصّور والقصص والأساطير المؤسّسة والشّعر. تنهض أشعار درويش بهذا الدّور. فهي أرشيف لشهداء الأمّة ، أودعت فيه تعب العبارة الدّامية ودماء الضّحايا المستباحة:
«تعب الرّثاء من الضّحايا/ والضّحايا جمّدت أحزانها/ أوّاه! من يرثي المراثي؟/ لست أدري أيّ قافية تحنّطني، فأصبح صورة/ في معرض الكتب القريب/ ولست ادري أيّ إحصائيّة ستضمّني.../ يا أيّها الشّعراء... لا تتكاثروا! / ليست جراحي دفترا./ يا أيّها الزّعماء... لا تتكاثروا! / ليست عظامي منبرا./ فدعوا دمي- حبر التّفاهم بين أشياء الطّبيعة والإله/ ودعوا دمي لغة التّخاطب بين أسوار المدينة والغزاة./ دمي بريد الأنبياء» (الخروج من ساحل المتوسّط، )
غير أنّ الشّعر لا يقتصر على هذا الدّور فحسب، ذلك أنّ الكتابة الشّعريّة عند محمود درويش هي أيضا هذا الفضاء الّذي يتأسّس فيه أفق الشّاهد الشّهيد، أو أفق الشّهادة، بوصفها تأمّلا في الموت والمرتكزات الّتي ينهض عليها. ولعلّ أهمّ مرتكزات الموت في أشعار درويش هي تلك الّتي تحيل على علاقة الفلسطينيّ بالمطلق، أي ذاك المطلق الّذي تجسّد عنده في الأرض لا الله. وكلّ ما يفصم هذه العلاقة من منفى ومطاردة وعشق وفداء... هو الّذي يؤسّس أفق الشّهادة بوصفها شوقا لأرض غدت كأرض الميعاد أو تكاد. لا ينبغي أن يعزب عنّا أنّ الشّوق désir يحيل دوما على افتقار مؤسّس للذّات وفقدان مؤسّس للخطاب. ودون ذاك الافتقار تغدو الكتابة في هذا الأفق غير ممكنة. من عاشق من فلسطين وما قبلها إلى قصيدة بيروت وما بعدها تبدو أشعار درويش كأغنية واحدة متعدّدة الوجوه والأصوات تتغنّى بالأرض/الأمّ، بهذا الوجع الأموميّ والانفصال الّذي يتجدّد ألمه كلّما دعا داعي الرّحيل. فالمنفى أرض تذكّر بفقدان الأرض/الأمّ، وتذكّر بالموت بوصفه وجه العشق الآخر ومصير العشّاق من الأشهاد والشّهداء:» بحر لتسكن أمّ تضيع/بحر لأيلولَ الجدبد أم الرّجوع إلى الفصول الأربعة/بحر أمامك، فيك، بحر من ورائك./تفتح الموج القديم: ولدت قرب البحر من أمّ فلسطينيّة وأب/أراميّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب مؤابيّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب أشوريّ. ومن أمّ فلسطينيّة وأب عروبيّ. ومن أمّ، ومن أمّ.../ على حجر يقيّد فوقه الرّومان أسرى حربهم ويحرّرون جمالهم منّي/ أنا الحجر الّذي شدّ البحار إلى قرون اليابسه/ وأنا نبيّ الأنبياء/ وشاعر الشّعراء/ منذ رسائل المصريّ في الوادي/ إلى أشلاء طفل في شاتيلا/ أنا أوّل القتلى وآخر من يموت/ إنجيل أعدائي وتوراة الوصايا اليائسة/ كتبت على جسدي/ أنا ألف، وباء في كتاب الرّسم يشبهني ويقتلني سواي/ كلّ الشّعوب تعوّدت أن تدفن الموتى بأضلاعي (مديح الظّلّ العالي، حصار لمدائح البحر، 1984)
ولكن للموت في أفق الشّهادة بعد آخر غير الشّوق الأموميّ إلى الأرض. فأشعار درويش هي أشعار إدانة تشهّر بالنّظام السّياسيّ الأرضيّ وآثامه وجرائمه باسم نظام آخر غير تيولوجيّ هو حقوق الإنسان. فالبعد الأخرويّ في هذا الأفق غائب تماما، إذ ليس للشّهيد حياة أخرى يحياها خارج زمانيّة الأرض:
«أنا شاهد المذبحة/ وشهيد الخريطة/أنا ولد الكلمات البسيطة/ رأيت الحصى أجنحه/ رأيت النّدى أسلحه/ عندما أغلقوا باب قلبي عليّا/ وأقاموا الحوافر فيّا// ومنع التّجوّل/ صار قلبي حاره/ وضلوعي حجاره/ وأطلّ القرنفل/ وأطلّ القرنفل»(قصيدة الأرض، أعراس)
ورغم أنّ أفق الشّهادة في أشعار درويش يكاد يكون متجرّدا من بعد تيولوجيّ متعال فإنّ الشّهيد يظلّ في آخر المطاف شأنا دينيّا وإن وجد في التّاريخ شهيد العشق والعلم والفكر الحرّ... فالشّهيد دليل على الحقيقة وموته دليل لكلّ حقيقة وهو ما يحرج الدّولة الحديثة الّتي لا تسمح بأيّ سلوك دينيّ بما أنّها تمتلك كلّ حقيقة وإرادة كلّ حقيقة. ولذلك تضع سلوك الشّهيد في دائرة العصيان المدنيّ والإرهاب. ولكن إذا كان عصر الشّهداء قد ولّى وأضحت شهادتهم بموتهم غير ذات جدوى أو ممكنة مادام دليل الشّهيد غير ناجع للبرهنة على عدالة القضيّة هل نعتبر حقّ التّعذيب والانتهاك اليوميّ للإنسانيّ في الإنسان أمرا شرعيّا؟ تجيبنا الفلسفة بأنّ الجريمة مهما كان غطاؤها الميتافيزيقيّ هي من قبيل ما لا يبرّر L'injustifiable وما لا يقبل L'inacceptable (8)، ويجيبنا الشّاعر شعرا على نحو تشهيريّ وإشهاريّ بالغ القساوة: بيروت جرا/ بيروت ظهرا/ بيروت ليلا/ يخرج الفاشيّ من جسد الضّحيّة/ يرتدي فصلا من التّلمود: اقتل كي تكون/عشرين قرنا كان ينتظر الجنون/عشرين قرنا كان سفّاحا معمّم/ عشرين قرنا كان يبكي... كان يبكي/ كان يخفي سيفه في دمعته/ أو كان يحشو بالدّموع البندقيّة/ عشرين قرنا كان ينتظر الفلسطينيّ في طرف المخيّم/ عشرين قرنا كان يعلم/ أنّ البكاء سلاحه (مديح الظّلّ العالي، )
/انظر: Le magazine littéraire, la littérature et les camps , n438, Janvier 2005
2/انظر:Ricoeur , Paul: (2000) La Mémoire , lصHistoire , lصOubli. Lصordre philosophique. ditions du Seuil , Paris, p418
3/انظر: Lyotard, Jean-François: (1983) Le différend, Les éditions de Minuit, p16 الّذي يستمرّ في توليد حجج الخصم من النّفاة négationnistes
/4 ترجم محمّد برّادة شذرات منها في الكرمل، قبرص، 1984
/5 بكّار، توفيق»مجنون فلسطين»، ضمن): درويش، محمود: مختارات شعريّة،دار الجنوب للنّشر، تونس1985، ص.ص 7-14.)
6 /يميّزDulong , Renaud: (1998 ) Le Témoin oculaire. Les conditions sociales de) lصattestation personnelle. Paris , EHESS , p43 (في هذا العمل بين أن نشهد وأن نروي. فالفرق بينهما يكمن في بناء نسق الأحداث وإثبات مرجعيّتها أو وقوعها في العالم الواقعيّ وذلك بشهادة السّارد البيوغرافيّة. فما يميّز ظاهرة الشّهادة عن غيرها من أعمال الكلام هو اللّحظة الّتي يقدّم فيها المتكلّم نفسه أمام الآخرين، أي على نحو عموميّ ، على أنّه شاهد. فهذا الصّنيع هو العمل الأوّل الّذي يغدو به المتكلّم شاهدا، أو الشّاهد شاهدا على شيء مّا. و ليس عمل الشّهادة غريبا عن محادثاتنا العاديّة. فهو ينجز كلّ يوم عندما يخصّص السّارد بأقوال مخصوصة، فينقلب دوره من ممثّل يقصّ أحداثا إلى ممثّل مضطلع بدور الشّاهد. من هذه الأقوال الّتي تقلب الكلام إلى عمل شهادة نذكر على سبيل المثال: « ينبغي أن نطلب منه أن يقول ما رأى...» أو « هو أولى النّاس بأن يحكي ما جرى « أو « لقد كان موجودا على عين المكان « أو « أؤكّد لك أنّ هذا كلّ ما جرى، لقد كنت هناك حاضرا « أو « أتدري ماذا رأيت...» فهذا الضّرب من الأقاويل يؤصّل دور شاهد العيان ويجعلنا نصرّف اللّغة على نحو يختلف عن الخطاب السّرديّ.
7/انظر، خليل، الهادي: «رمية النّرد، مقالات في الصّورة»، تونس 1999، خصوصا فصل « مدارج سان سلفادور « ص.ص143-149 حيث حلّل صورا رهيبة من مجزرة سان سلفادور، ماي 1979.
8 انظر:Ricoeur , Paul: La Mémoire , lصHistoire , lصOubli, op.cit, p432
------------------------------------------------------------------------
(*) أستاذ جامعي بكلية الآداب منوبة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.