قال نزار: أنا مسكون بدمشق... حتى حين لا أسكنها... أولياؤها مدفونون في داخلي... حاراتها تتقاطع فوق جسدي... فاذا دخلت دار توفيق القباني عبقت من حولك روائح الياسمين البلدي، والفل الدمشقي وزنبق «الفريزينا» فاذا كان حر وشمس ظللتك أفياء النارنج والكباد.. والأكي منيا والخميسة... وانعش روحك رذاذ النافورة القادم ماؤها من نهر «بانياس».. يقول نزار: لا أسيطيع ان اكتب عن دمشق دون ان يعرش الياسمين على اصابعي ولا أستطيع ان أنطق اسمها دون ان يكتظ فمي بعصير المشمش والرمان والتوت.. والسفرجل... ولا استطيع ان اتذكرها دون ان تحط على جدار ذاكرتي الف حمامة، وتطير الف حمامة... واذا تجلس انت على كرسي في الديوان تحت «القنصلية» بين كنبيتين، عرش فيهما.. الهواء.. و «حشيشة الفي» و «الرافي شعره» ثم تسبح نظرك في القريب فلابد ان تأخذك مشاهد «البنفونيا» و «الشكرية» و «الخبازي» و «سالف العروس» و «الكوكبة» و «الياسمين العراضي» وقد تعانق مع الاصفر وتسلقا الجدار العالي في ارض الديار يريد ان ألا يفترقا،، فهناك فتح نزار الجميل عيني وشم أولى الروائح الزكية ويسمع ألطف الاصوات فتتأكد له من بعد انه محصول دمشقي مائة في المائة.. كما «الحنطة» والخوخ والرمان والجانوك.. واللوز الاخضر.. في بساتين الغوطة.. وكما البروكار والاغباني والداماسكو.. وأباريق النحاس والخزائن المطعمة الصدف... بين النسائم الندية القادمة من اعلى التلة الآرامية في مئذنة «الشحم» وبين الرؤى العابقة بمشاهد العشاق الالهيين تهفو من المقام «الناصري» المقابل او تجيء من زقاق «محاوية» غير بعد عن المعمل الصغير الذي ينشر عبق «الفانيليا» في المكان كله عاش نزار وتعلم العلم.. وتعلم الحب والعشق لكن كلماته الاولى كانت دمشقية شرق وغرب غير ان الحبيبة الابدية ظلت في فؤاده يقول «طفولتي قضيتها تحت مظلة الفيء والرطوبة التي هي بيتنا العتيق في مئذنة الشحم كان هذا البيت هو نهاية حدود العالم عندي، كان الصديق والواحة والمشتى، والمصيف، استطيع الان ان أغمض عيني واعد مسامير ابوابه واستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته استطيع الان ان اعد بلاطاته واحدة واحدة... واسماك بركته واحدة... واحدة... وسلالمه الرخامية درجة درجة... استطيع ان اغمض عيني واستعيد بعد ثلاثين سنة مجلس أبي توفيق في صحن الدار وامامه فنجان قهوته ومنقلته وعلبة تبغه. وجريدته... وعلى صفحات الجريدة تتساقط كل خمس دقائق زهرة ياسمين كأنها رسالة قادمة من السماء... على السجادة الفارسية المدودة على بلاط الدار.. ذاكرت دروسي وكتبت فروضي وحفظت قصائد عمرو بن كلثوم، وكعب بن زهير، والنابغة الذبياني، وطرفة بن العبد.. هذا البيت المظلة ترك بصماته واضحة على شعري تماما كما تركت غرناطة وقرطبة واشبيلية بصماتها على الشعر الاندلسي... ويمضي نزار في رحلة الذكريات الطويلة فيعيد الى الحياة مدرسته الاولى التي امست اليوم أطلالا «الكلية العلمية الوطنية في طرق سوق البزورية يعيدها في اطارها وسط دمشق كانت مزروعة في قلب دمشق القديمة حيث كنا نسكن، ومن حولها ترتفع مآذن الجامع الاموي وقبابه ويتألق قصر العظم برخامه ومرمره وأحواض زرعه وبركته الزرقاء، وأبوابه.. وسقوفه الخشبية التي تركت اصابع النجارين الدمشقيين عليها ثروة من النقوش والآيات القرآنية لم يعرف تايخ الخشب أروع منها وحول مدرستنا كانت تلتف كالاساور الذهبية اسواق دمشق الظليلة سوق الحميدية» وسوق مدحت باشا.. وسوق الصاغة وسوق الحرير.. وسوق الخياطين.. وسوق القطن.. وسوق النسوان كانت المدرسة على بعد خطوات من بيتنا.. اي انها كانت امتدادا طبيعيا للبيت وحجرة اخرى من حجراته.. وبالتالي فان طريقنا الى المدرسة كان طريقا فولكلوريا مغرقا في شاميته.... وعندما كان نزار قباني يغني للحب فقد كان يستوحي بيتا دمشقيا عشقه قبل ان يتراءى له طيف الحبيبة من وراء «الرماية» الخشبية في الدار المقابلة تمتد يدها عند المساء لتناول شربة الماء الباردة... أأنت الذي.. يا حبيبي نقلت لبيض العاضير اخبارنا... فجاءت جموعا... جموعا... تدق مناقيرها الحمر شباكنا... وتغرق زقزقات مضجعنا.. وتغمر بالقش أبوابنا... ومن أخبر النحل عن دارنا فجاء يقاسمنا دارنا... ومن قص قصتنا للفراش فراح يلاحق آثارنا... سيفضحنا يا حبيبي العيير... فقد عرف الطيب ميعادنا... ولم يكن نزار محايدا في حبه دمشق.. كان ملتزما ابدا بهذا الحب ينقله معه من بلد الى بلد يوسد خده عليه حين ينام ويغسل عينيه بأطيافه عندما يفيق... في مدشق لا استطيع ان اكون محايدا فكما لا حياد مع امرأة تحبها فلا حياد مع مدينة اصبح ياسيمنها جزءا من دروتي الدموية واصبح عشقي لها فضيحة معطرة تتناقلها اجهزة الاعلام.. هذه المدينة تخصني.. تشعلني.. تضيئني.. تكفيني.. ترسمني.. باللون الوردي.. تزرعني قمحا وشعرا.. وحروفا أبجدية.. تعبر تقاطيع وجهي.. تحدد طول قامتي.. تختار لون عيني «تؤكدني» تحددني.. تقبلني على فمي.. فيتغير تركيب دمي.. في الشام لا استطيع الا ان اكون شاميا.. لا استطيع الا ان اكون حمامة أو بنفسجة.. او عريشة عنب.. لا استطيع الا ان اكون قصيدة او مئذنة او نهدا.. او سفرجلة... وتتماهى دمشق عند نزار مع القصيدة والكلمة.. والحرف.. كما الحال عند الحلاج.. فتعود لا تميز طرفا من اخر.. يقول الحسين: انا من أهوى.. ومن أهوى أنا... نحن روحان حللنا البدنا... فاذا ابصرتني.. ابصرته.. واذا ابصرته.. ابصرتنا.. ويقول نزار قباني: كل حروف أبجديتي مقتلعة حجرا ... حجرا ... من بيوت دمشق واسوار بساتينها... وفسيفساء جوامعها.. قصائدي كلها معمرة على الطراز الشامي... كل الف رسمتها على الورق هي مئذنة دمشقية... كل ضمة مستديرة هي قبة من قباب الشام... كل حاء هي حمامة بيضاء في صحن الجامع الأموي... كل عين هي عين ماء... كل شين هي شجرة مشمش مزهرة... كل سين هي سنبلة قمح... وكل ميم هي امرأة دمشقية... يتردد كثيرا في شعر نزار ونشره ذكر أمه وأبيه.. وربما تراءت صورة «فائزة» هذه السيدة الدمشقية العظيمة بأكثر مما تلوح رؤى توفيق أبي معتز.. لكن هذا لا يعني شيئا بعيدا عن الاعيب ذاكرة الشاعر.. يقول نزار قباني في قصيدة كتبها عام 1966: أتى أيلول أماه... وجاء الحزن يحمل لي هداياه... ويترك عندنا فذتي... مدامعه وشكواه... أتى أيلول... أين دمشق؟؟... أتى أبي وعيناه... وأين حرير نظرته... وأين عبير قهوته؟... سقى الرحمان مثواه... وها هو ذا يفرد لأم معتز في ديوانه «كل عام وانت حبيبتي» عام 1978 مقطوعة خاصة تحمل اسمها.. يعرفونها في دمشق باسم «أم معتز» وبالرغم من ان اسمها غير مذكور في الدليل السياحي... فهي جزء من الفولكلور الشامي وأهميتها التاريخية لا تقل اهمية عن «قصر العظم» وقبر «صلاح الدين» و «مئذنة العروس» و «مزار محي الدين ابن عربي»... ثم يلتفت نزار ليتذكر أباه على نحو في منتهى اللطف واللباقة دامجا بين صورته وبين ذكريات الحركة الوطنية التي كان ابو معتز بين افرادها... مشيرا في هذه الاثناء الى ان البيت في «مئذنة الشحم»... كان معقلا للحركة الوطنية عام 1935... «وفي ساحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة السورية بالجماهير ومنها كانت تنطلق المسيرات والتظاهرات ضد الانتداب الفرنسي وبعد كل اجتماع شعبي كانت أمي تحصي ضحاياها من اصحن الزرع التي تحطمت والشتول النادرة التي انقصفت، وأعواد الزنبق التي انكسرت وعندها كانت تذهب الى ابي شاكية خسارتها الفادحة شهداء الوطن.. وعوضك الله... وتخجل امي من سخرية ابي المبطئة ولكنها في نفس الوقت تشعر بهزة عنفوان لأن بيتها صار بيت الوطنية ولان ازهارها ماتت من اجل الحرية... وحين كان نزار يبتعد عن بيته، عن امه وابيه وبقية اهله، في اسفاره الكثيرة والطويلة نسبيا وينآى عن دمشقه المكنونة خلف الشفاف فانما كان حاله مثل حال البطل في حكاية «شادكو» التي استوحاها الموسيقار الروسي ريسمسكي كورساكوف... لقد غادر ذلك الرجل دياره بحثا عن السعادة مرتحلا بين الجهات الاربع دون ان يضع يده على الطائر المنشود... لكنه اذا رجع الى أرضه وأهله أحس ان الطائر الجميل الفرحي بات ملك يديه... يقول نزار: عائد اليكم... وانا مضرج بأمطار حنيني... عائد لأملأ جيوبي... بالقضامة.. والجانوك.. واللوز الاخضر.. عائد الى محارتي... عائد الى سرير ولادتي... فلا نوافير فرساي... عوضتني عن مقهى النوفرة... ولا سوق الهال في باريس عوضتني عن سوق الجمعة ولا قصر باكنغهام في لندن... عوضتني عن قصر العظم... ولا حمائم ساحة سان ماركوفي فينيسيا اكثر بركة من حمائم الجامع الأموي ولا قبر نابليون في الانفابيد اكثر جلالا من قبر صلاح الدين الايوبي...