تحرّك القطار بطيئا، متثاقلا بركابه الغاطين في العربات كسمك السردين وقد داهم العرق وجوههم وتصبّب من مسام أجسادهم ففاحت رائحة امتزجت برائحة الأحذية المتلاصقة المتداخلة، لا تقدر لترات من العطور دحرها وإزالتها وبحت أصواتهم من النداء على طفل أو قريب تاه في الزحمة ومن الشتائم والسباب للظفر بجزء من فضاء تقلصت مساحته لحدّ الإختناق. أمّا أنا فقد ظفرت بمقعد قرب شاب، لطيف تعلو أنفه نظارات طبيّة وتسلحت بجريدة لأكابد الملل وطول المسافة، رغم هذه «الإمتيازات» فقد استقرّت غصّة في حلقي ومرارة في فمي وأنا أشاهد هذا «الحاجز البشري» السميك يتخبّط في الرفس والدّهس وزاد توتري بمطالعة الجريدة والتطلع لصور تعرض انهيار العمارات جرّاء القصف الاسرائيلي على لبنان وانتشار الأشلاء والجماجم تحت الأنقاض واستغاثة الأطفال والنساء وإعلام حول اجتماع «الجامعة العربية» لم أتوصّل لقراءة الحروف الدقيقة في المقال لإحتجاب النور نسبيا من قبل «الستار الآدمي» قلت في نفسي: لا أظنّ أنّ هذا الإجتماع يختلف عن الاجتماعات الأخرى في شرم الشيخ، الجزائر، تونس... لكن إشباعا لفضولي وإنصافا للجامعة العربيّة أخرجت بصعوبة من بين ثيابي «نظارات القراءة» وقرأت المقال في الجريدة، فأحمرّ وجهي خجلا وحنقا وأنا أردّد كلمات حفظتها «نأسف.. نندّد.. وأنتهى البيان على أمل اللقاء حول قصف جديد ومذبحة أخرى للوطن والعرب. فكّرت في تمزيق الجريدة لكنّني خفت أن يثير هذا الصنيع تساؤل هذا الحشد المعلب فتعصف بي عاصفة من «الغمز» و»الهمس» لا طاقة لي على تحملها فأكتفيت بتسليم الجريدة الى جاري في المقعد وقد لاحظ توتري وقال: ما بالك؟ ماذا قرأت في الجريدة حتى تغضب بهذه الصفة؟ قلت بصوت أقرب الى الصياح لأقفز بعباراتي على هذا الدوي المتداخل، المتفاوت الطبقات. أيعجبك ما يحصل في لبنان؟ تدمير وتقتيل وإغتصاب للنساء والأرض... والجامعة العربية تندّد وبعض الدول منها تحمل المقاومة المنفردة مسؤولية الحرب. لم ينبس ببنت شفة وكأنّ غضبي إنتقل إليه فصار غضبا مشتركا فأحمر وجهه وأعتلت جبينه قطرات من العرق وأنبعثت من صدره النحيف زفرة طويلة وقال: ماذا عسانا أن نفعل؟ قلت له ومظاهر الإحباط بادية على وجهي... إيه... نعم... أتعرف يا بني لو كنت من شخصيات ألف ليلة وليلة التي تعيش في عالم وردي يحكمه السحر والأسطورة لبحثت على خاتم سليمان أو فانوس علاء الدين وفركته حتّى إحمرّ كفي وطلبت من عفريت الفانوس أمنية واحدة لا مال فيها ولا جاه ولا بنون بل أمنية تختزل الأمنيات الثلاث التي يعرضها العفريت «جامعة عربية ممثلة لطموحات شعوبها».. سكت برهة ثمّ قلت: لو فرضنا أنّ العفاريت موجودة.. أظنّها ستبقى حائرة.. عاجزة ويتبدّد عمود الدخان المكوّن لقامتها الفارغة، الإفتراضية أمام هذه الوجوه الشاحبة التي امتصّ نظارتها هول التوتر والبطالة التي «لم تقص» أي فئة عمرية وأي مستوى تعليمي وأمام الإختناق الشاد على حناجرهم، ضحكنا «ضحكة اليائس» وأنا أستحضر مرّة أخرى صورة العفاريت الحائرة المتبخرة قال جاري في المقعد: مادام العجز كبلك فصرت تتمنّى حلولا ولو بالسحر والأسطورة.. هناك حلّ. قلت بلهفة.. أيّ حل؟؟ هل تمزح قال.. لا... الحلم ألم يقل «فرويد» في دراساته عن الأحلام «الحلم تعبير عن رغبة مكبوتة».. يمكنك أن تركز على كبتك فتنحت في حلمك «جامعة عربيّة حسب رغبتك».. فالحلم فضاء وجداني وفكري.. فردي أبوابه موصودة أمام الكلاب المسعورة التي تجمد فيك الفكرة فتتقوقع وتصطف عنوة في الطابور. إرتسمت على ثغري ابتسامة عريضة وقلت: فليكن.. سأعيش ولو لفترة قصيرة افتراضيّة رغبتي وأمنيتي. فارقت جاري على صخب وقبضة يد سريعة أنهتها المشاداة العنيفة والتدافع المتواتر للمسافرين.. اخترقت «اليم البشري» بعون اللّه وبدفعات بالرأس والمنكبين. نزلت من القطار وتوجّهت الى المنزل، قابلتني زوجتي بوابل من الإحتجاجات واللوم حول التأخير وقلّة الكسب.. وتوجّهت الى غرفة النوم،، ليس للراحة من تعب كلّس مفاصلي أو فرارا من لوم زوجتي بل رغبة في الحلم لأحقق رغبتي المكبوتة. رأيت في منامي فضاء ورديا تداخلت فيه الألوان والأنوار وقادة رؤوسهم مرفوعة وهاماتهم فارعة يتباهون بنسبة واحد وخمسون بالمائة وحولهم فرسان تلفهم راية واحدة، يقطعون كلّ رجل غاصبة، ملوّثة للأديم وناس يحرسون مياههم بأسنانهم وأظافرهم، يغرفون منها، يرون الأرض الطيّبة بسخاء فتورق الأشجار كتبا وتزهر التربة ضياء وحماما أجنحته فضيّة، تطير وتحط على رؤوس الناس وأكتافهم وترسم على وجوههم الفرحة. قمت مرعوبا، مستلقي بأسفل الفراش.. يدايا مرفوعتان والماء البارد يتقاطر من وجهي وصدري.. قلت في لهفة: ماذا؟؟ أين أنا؟؟ قالت زوجتي: كنت تهذي.. حاولت إيقاظك من النوم دون جدوى.. فاستعنت بإبريق من الماء البارد.. قم وأذهب الى العمل.. لا وقت للنوم.. والحلم.. خرجت من المنزل.. اعتصرتني زحمة الشارع وأنا أجتر ستة وتسعون بالمائة من غصّة لازمتني طول حياتي وبداخلي أمل في حلم أحقق فيه رغبة جديدة.