في مطلع قرننا الواحد والعشرين، هذا الذي قصرت فيه ال بين البلدان وتهاوت أسوار العزلة بين الشعوب، حتى غدا بإمكان المرء أن يطلع على أحوال الناس في أي بلد من المعمورة ،شرقا وغربا، ويواكب معهم، عن بعد، الأحداث التي يعيشونها لحظة بلحظة حتى لكأنه واحد منهم، كان من المفترض أن يصبح إنسان هذا الزمن أكثرا انفتاحا على الآخر وأكثر تسامحا إزاء معتقده وأكثر تفهما لمطامحه وتقديرا لمخاوفه... غير أن ما نلاحظه على أرض الواقع هو العكس تماما إذ أصبح التشدد الديني والتعصب المذهبي والانغلاق الفكري ظاهرة عامة مكتسحة للحدود القومية وعابرة للقارات الخمس وليس حكرا على أتباع دين دون آخر. لقد أصبح الكبار، أفرادا ودولا، لا يتحرجون، في ألاعيبهم، من ان يٌشرّعوا قتل الإنسان لأخيه الإنسان، فردا وجمعا، بعد افتعال المبررات التي تلبس الجريمة مسوح العمل الخيّر، وتٌطلق عليها من النعوت ما ينزع عنها صفة الخطيئة التي يٌحرّم اقترافها في حق الكائن البشري، وتحويلها إلى حسنة يجب أن تٌؤتى . كما انهم فتحوا الطريق لصغارهم ليقتفوا أثرهم والذهاب مذهبهم. لقد أصبحت العديد من وسائل الإعلام المكتوبة والإيلكترونية والمسموعة والمرئية الأرضية والفضائية والأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية والحكومات القومية، الرافعة لشعار الذود على أوطانها والدفاع على مصالح شعوبها، تروج للميز العنصري والتعصب الديني وهو ما آتى أكله على النحو الذي أثبتته الأرقام. ويكفي أن نشير هنا إلى نتائج المسح العالمي الذي أجراه مركز بيو للأبحاث في واشنطن والذي أظهر أن المشاعر المناهضة للمسلمين واليهود اتخذت مسارا تصاعديا في البلدان الأوروبية الرئيسية مابين سنتي 2006 و2008 . وقد بلغت نسب مناهضة المسلمين أرقاما مفزعة حيث تبنى هذا الموقف 52 % من الأسبان و 50 % من الألمان و46 % من البولونيين و 38 % من الفرنسيين... أما مناهضة اليهود فإنها، وإن كانت أقل بالأرقام، فانها لا تبعث على الارتياح حيث بلغت نسبة46 % من الأسبان و 36 % من البولونيين و34 % من الروس و25 % من الألمان و 20 % من الفرنسيين... أما لو نظرنا إلى مشاعر العداء لليهود والنصارى لدى الشعوب العربية والمسلمة فإن النسب، هنا أيضا، لا تدعو بأي حال للإرتياح. وإذا كانت مسألة معاداة اليهود والمسلمين تجد، في أوروبا، من يتصدى لها بالدرس ويسعى لمعرفة أسبابها ويعمل على اقتلاعها، أو الحد منه على الأقل، فإن معاداة غير المسلمين لا تحظى باهتمام يذكر لدينا، بل إن أمر تشكيل الرأي العام في هذا المجال الحساس والخطير قد ترك لبعض الفضائيات والمجموعات الأصولية وبعض خطباء الجوامع الذين لا يذكرون غير المسلمين من يهود ونصارى وغير متدينين إلا بسوء وبالدعاء عليهم بالويل والثبور وسوء المنقلب والمصير... كيف لا ولم يسلم من هؤلاء حتى المسلمون من المنتمين إلى مذهب آخر، إذ غالبا ما يلحق هؤلاء أيضا ب «الكفرة الفجرة» الذين لا يسلمون من التحريض على قتلهم... إن التعصب الديني مرشح، في الضفتين، إلى مزيد التصعيد بسبب بعض التصرفات الحمقاء حينا والخبيثة حينا آخر من نوع الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول أو اللعبة الإيلكترونية التي ظهرت منذ مدة، ثم اختفت، وكانت بعنوان «مذبحة المسلمين» ...إلخ وردود الفعل التي لا تقل عنها حمقا، أحيانا، من جانب ثان ... وكذلك بسبب التلويح بأخطار وهمية منها إذكاء مشاعر الخوف من الإسلام أو ما يعرف في أوروبا بتسمية الإسلاموفوبيا التي تسعى لاستغلال بناء أي مسجد في أية مدينة أوروبية لشن حملة ضد ما أسموه ب «أسلمة» أوروبا... ونفس الشيء هو ما يحدث في الضفة الجنوبية وان بأشكال اخرى، بتأليب الرأي العام ضد ما تطلق عليه تسمية حملات التبشير والتنصير... ولست أدري لماذا يقيمون الأفراح لأن بعض النصارى أعلنوا إسلامهم ويقيمون الدنيا لأن شخصا ما تنصر بعد أن كان مسلما واختار عن طواعية تغيير معتقده؟!