هل كُتب التاريخ العربي المعاصر منذ بدايته بغير الأسى في قلوب أحفاده؟ وهل تُوّج فرحهم «بالأبطال» بغير نهايتهم التي تخلع غشاء الرفعة التي يكتسبونها كلّما وُلد فمٌ لا يسكتُ عن طلب الرقي الفكري والاجتماعي للشعب العربي المستهدف والمحاصر بكلّ أسباب التفكير الثقافي والاقتصادي؟ هذا هو تاريخنا، تاريخكم الملوء حزنا ودمعًا. هذا «كأس الحنظل» الذي يُسقى لكلّ عربي عند ولاته.. لينشأ على الاختمار به.. هذا هو مرّ الكلام. فبرحيل قلاعنا الثقافية بفعل القدر أو الغدر نبقى نتجرّع مرارة الفراق والحرمان فيسود أرضنا الجذب والقحط الثقافي الابداعي... فبالأمس البعيد رحل شاعر الشباب صاحب ««أغاني الحياة» أبو القاسم الشابي الذي تغنّى ب «إرادة الحياة وتونس الجميلة وفلسفة الثعبان المقدّس قصيدة إلى طغاة العالم.. الخ وان رحل في ريعان شبابه وقوّة وغزارة عطائه الأدبي، الاّ أننا لا نزال ننهل من رسالته الفكرية الابداعية الانسانية العالمية الخالدة. وكذلك بالأمس رحل شاعر الثورة الفلسطينية «معين بسيسو» ملهم الثائرين العاشقين للحرية حتى الموت فداء للوطن، وبالأمس القريب رحل شاعر الحب والمرأة والجمال «نزار قبّاني» هذا الذي جسّد الوطن في المرأة فغمرها بحبّه وحنانه وأعلى من شأنها لننجب الأبطال للذود عن الحمى وينتشر الحبّ والحنان لجمال بني الأوطان. واليوم يرحل عنّا علمٌ من أعلام الكلمة المناضلة من أعلام ثقافة المقاومة العربية الشاعر «محمود درويش» حارس ومؤرخ القضية الوطن الأرض المقدسة فلسطين السليبة، رحل صاحب الظاهرة الشعرية الملحمية النضالية.. رحل أنشودة الحرية لكلّ الانسانية، رحل الشاعر المعرّف بالقضية للعالمية حتى آمن بها وحمل املها كل انسان محبّ للحرية فذادوا عن القضيّة من كلّ برية لفكّ الحصار عن غزة الأبيّة والضفة المحميّة، واخوة الدين والعرق والتاريخ والجغرافيا أوفياء لستائرهم الحديدية!؟ فهل من مُعتبر؟ رحل شاعر انتفاضة الحجر.. رحل من جعل من الحروف والكلمات.. أفتك سلاح أفزع ودمّر عمق كيان الصهاينة الغزاة في قصيدته «أيها المارون بين الكلمات العابرة» رحل من أحدث ثورة في الشعر والنثر أرهقت فكر الأدباء والساسة والنبلاء... رحل من قال عن تونس الخضراء، تونس الحضارة والثقافة والابداع والوفاء في رحلته في المكان والزمان: «دخلنا إلى فلسطين معززين مكرّمين.. وخرجنا منها مطرودين» «ودخلنا تونس الخضراء معززين مكرّمين.. وخرجنات منها كذلك معزّزين مكرمين» وأقول منهيّا مرّ الكلام، وان رحلت يازين الشباب وفارس الفرسان ومؤسس الملاحم الشعرية المناضلة لعزّة بني الأوطان، فإنّنا نقول لك وأنت في الملأ الأعلى انّ ارواحنا ترحل في كلّ يوم صباح مساءَ. يا من نحتم لنا طريق العزة والكرامة، فهل ستنجب أرضنا الولادة إليكم شابيا آخر ومعينا آخر ونزارا ودرويش أم سنجني عقمًا. والمنحى الثاني من مرّ الكلام يتعلّق بافلاس نظام أباطرة المال في العالم، النظام النيوليبرالي الرأسمالي المعولم الرهيب الذي يفتخرون به وبآفاقه في تحقيق الرخاء للبشرية؟ وهو الذي بُني على الاحتكار والمضاربات ومصّ دماء الشعوب وتجويعها. وما هذه العاصفة التسونامية المالية الاّ دليل على إفلاس الفكر الرأسمالي الجشع.. والمؤسف والمؤلم هو انسياق عديد الدول ومنها العربية الغنية بعديد الثروات في تكنيز ودائعهم المالية الفخمة في البورصات العالمية وبنوك الأباطرة منذ عشرات السنين.. عوضا عن استثمارها في الوطن العربي حتى ننهض اقتصاديا وزراعيا لتحقيق الاكتفاء الذاتي الغذائي والعالم قادم على أزمة غذائية مدمّرة.. فيا ترى ماهي فاتورة الخسائر المالية العربية في تسونامي المال فكم من مدرسة أو جامعة لم تنجز في البلدان العربية الفقيرة وكم من طريق أو جسر أو سدّ لبعث الحياة لم ير النور بعد وكم من أراضٍ صالحة للزراعة مازالت تنتظر الاصلاح والرعاية لتعطي ثمارها للجميع وكم عدد الملايين من الشبان العرب ينتظرون فرص العمل والاستثمار لتفجير طاقات التنمية والرقي.. والى متى سنبقى مهمشين مشتتين نقتات من بقايا فُتاة الآخرين.. ومتى يتبدّل «كأس المرّ الحنظل» الذي يُسقى لكل عربي بكأس ارادة الحياة فنغيّر تاريخنا المملوء مرارة وحزنًا إلى مستقبل العزّة والكرامة والحياة للجميع في وطننا الكبير.