كنا في قاعة الجلوس نستمتع بأجوبة الطفل عبد الهادي (ابن أخي الأصغر) على أسئلتنا المستفزّة .. الماكرة , حين تتالت فجأة على شاشة التلفازمشاهد مجزرة بيت حانون : أشلاء أطفال .. برك دم .. هلع .. وجه أب متفحّم ..عويل أمّهات .. وأطبّاء يحاولون إعادة النبض إلى قلب طفل سلبته يد الغدر الصهيوني حقّ الحياة .. تملّكني من المشاعر ما يناسب هول المجزرة سخطا على الأعداء, وشفقة على الفلسطينيين وترحّما على الشهداء , وازدراء للمتواطئين من العرب والمسلمين ... فلولاهم لما كانت هذه المجزرة الرهيبة , مجزرة الأطفال والنساء... ونسيت من حولي.. ففظاعة ما أرى ملكت عليّ زمام أمري ... وفجأة تذكّرت عبد الهادي , قفزت لمّا تخيّلت ما يمكن أن تتركه هذه المشاهد المروّعة من آثار سلبيّة على نفسيته الغضّة وما يمكن أن تحدثه من خدوش في ذهنه الخصب وروحه المعطاء ... هممت بتغيير القناة لكنه لم يمهلني إذ التفت إليّ , وقد كسا الحزن وجهه وملأ الأسى عينيه, وقال يخاطبني: «شُفتْ ..مَخْيِبْهم لِسْرائليين» يعني ( أرأيت كم هم بشعون هؤلاء الإسرائليون! ) وفاجأني التعليق مثلما فاجأ ابنتي , فحملقنا فيه مستغربيْن , وحرّكنا رأسيْنا موافقيْن ... وانتابني شعوران متناقضان : غمّ وبهجة .. اغتممت لما جنيته على الطفل عبد الهادي إذ أشركته , سهوا , في مشاهدة أطفال بيت حانون وقد مزّقت أجسادهم الطريّة مخالب الوحش الإسرائيلي ... اغتممت لأنّ عشرات الصوّر المروّعة , المرعبة انطبعت في وجدانه الغض النقيّ فتألّم ألماعميقا انعكس على صفحة وجهه البيضاء حزنا ثقيلا أسود, وتدفّق في عينيه الصافيتين أمواجا من الأسى ... اغتممت لأنّني أخرجت عبد الهادي من عالم الطفولة البريء وأقحمته في عالم الكبار .. وحمّلته وهو الطفل الغرير مشقّة التعليق على فظاعة ما اقترفه الأعداء .... اغتممت ...نعم .. ولكنّني ابتهجت ايضا .. ابتهجت لأنّ تعليقه التلقائي البريء جاء على بساطته دقيقا عميقا حمّال دلالات .. لقد هدته فطرته - وهو الذي لم يبلغ الرابعة بعد- إلى التقاط أكثر الصفات تعبيرا عن طبيعة العدوّ الإسرائيلي وأفعاله . فلم يجد غير» لْخْيُوبيّه»(أي البشاعة) يشتقّ منها صيغة التّعجّب والاستنكار تعبيراعن شعوره بالامتعاض ممّن كان سببا فيما يرى . والحقّ أننّي لا أجد لفظة أدقّ في التصوير ولا أبلغ في التعبير من لفظة البشاعة تحاصرفظاعة المجزرة ووحشية فاعليها .لأنّ البشاعة كلمة تختزل منظومة فكرية وسلوكية مناقضة ومناهضة لقيم الحبّ والخير والجمال. ومن كانت هذه مقوّمات فكره وتصرّفاته لا يتورّع عن فعل كلّ قبيح: يقتّل ويدمّر ... يغتصب ويهجّر... يجرّف ويزيّف ... وذلك ديدن الصهاينة منذ اغتصابهم فلسطين . فمجازرهم أكثر من أن تحصى ... ولكنّها لاتنسى .. هي منقوشة في الذاكرة «.. تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد»، يذكّر بها خلود ضحاياها في كفرقاسم بفلسطين ومدرسة بحر البقر بمصر وصبرا وشتيلا وقانا بلبنان وحمّام الشط بتونس ومدن بلاد الرافدين وساحاتها .. وليس ما ذكرنا إلاّ النزر اليسير.. وابتهجت لغباوة العدوّ لأنّه , بإمعانه في أفعاله الشنيعة ضدّنا , يؤجّج شعور الكراهية في قلوب صغارنا قبل كبارنا . ويجعل إصرارنا على استعادة أرضنا وحماية عرضنا مطلبا يتوارثه الأبناء عن الآباء .. فيأخذ اللاحق بثأر السابق . ذلك ما فعله شباب المقاومة اللبنانية في الحرب السادسة , حرب تمّوز المجيدة إذ انتصرت قلّة مؤمنة مدرّبة على جحافل جيش مدجّج بأعتى الأسلحة وأشدّها فتكا .. كان البعض من هذه القلّة أطفالا إبّان الاجتياح الاسرائيلي للبنان سنة 1982 و كان البعض الآخر ما يزال في رحم الغيب . ولكنّهم جميعهم تشرّبوا حبّ الأرض فاستماتوا في الدفاع عنها. وأجزلوا العطاء... نعم , كانوا أطفالا سنة 1982 وأصبحوا أبطالا سنة 2006 فجرّعوا المعتدين كؤوس الهزيمة وأعادوا إلى الأمّة كبرياءها وأحيوا ببطولاتهم ما تهاوى من ثقة بالنفس واعتزاز بالانتماء... وتذكرت رهان نزار قبّاني على الطفولة وإيمانه بقدرتها على إقالة الأمّة من عثرتها ... تذكّرت قصيدته «هوامش على دفتر النكسة» وخاتمتها المتفائلة حين قال موجّها خطابه إلى الأطفال: يا أيّها الأطفالْ... يا مطر الربيع .. يا سنابل الآمالْ أنتم بذور الخصب في حياتنا العقيمهْ وأنتم الجيل الذي سيهزم الهزيمهْ وصدق حدس نزار... فهزم جيل الأطفال الهزيمة , وكسر شباب لبنان المقاوم شوكة الجيش الذي لا يقهر. وتحقّق الانتصار. ففشل العدوان الصهيونيّ ، وخابت أحلام الغزاة وانكشفت سوءات المتواطئين من أدعياء العروبة المتآمرين . ولم تجد حكومة العدوّ المرتبكة المسعورة غير الفلسطينيين المحاصرين تثأر منهم لسمعتها العسكرية الملوّثة في أوحال لبنان ... ولم تجد غير دماء أطفالهم قربانا على مذبح أمنها الداخلي المنهار .. فكانت مجزرة بيت حانون ... وكانت تلك المشاهد المروّع: أشلاء أطفال... برك دمّ ... ..هلع ... وجه أب متفحّم ..عويل أمّهات ... وأطبّاء يحاولون إعادة النبض إلى قلب طفل سلبه الغاصب المحتلّ حقّه في الحياة ... وكان تعليق الطفل عبد الهادي: شُفْتْ ... مَخْيبهم لِسْرائليين! ووجدتني منكسرا ، مهموما... أردّد هامشا من هوامش نزار قبّاني على دفتر النكسة: لو أنّنا لم ندفن الوحدة في التّرابْ لو لم نمزّق جسمها الطّريّ بالحرابْ لو بقيت في داخل العيون والأهدابْ لما استباحت لحمنا الكلابْ.