الأزمات التي عاشها اتحاد الشغل لا تعود الى طبيعة السلطة التي ثقل عليها دوما الاقرار بالأمر الواقع والاعتراف بصعوبة ترويض المنظمة النقابية بل يعود أيضا الى طبيعة المنظمة التي تعايشت مع السلطة في ما يشبه تنكيد الضرائر فلا المنظمة امتلكت القدرة على فصم الارتباط بالسلطة ولا السلطة أدركت إستحالة إلحاق المنظمة بواجهات السلطة الحزب. لقد أدركت كل القيادات بتفاوت وطبقا لطبيعة الظرفية أن التفريط الكلي في إستقلالية المنظمة يفقد القيادة وجاهتها وشرعيتها بل إن هذه القيادات باتت تنقذ نفسها وتستعيد شرعيتها كلما لبست لبوس الاستقلالية. في هذا الاطار يُفهم إلتفاف النقابيين وسائر القوى التقدمية والديمقراطية حول المنظمة وقيادتها كلما اصطنعت السلطة أزمة نقابية حتى بات الجزم بأن تهميش الاتحاد مخاطرة سياسية وإن كان البعض لا يزال يردّد إحتمال ترويض السلطة للمنظمة كمدخل لتبرير تلكؤ قيادة الاتحاد في حسم بعض الملفات وفي تبني بعض النضالات.
الاستحقاق التاريخي الذي راكمته الحركة النقابية أجبر كل الاطراف على التعاطي مع الاتحاد بكثير من الحذر لا إعترافا بالمكانة الطبيعية التي تعود اليه وإنما تجنبا لصراع تبين أن السلطة تخسر فيه أكثر مما تستفيد ولكن هذا الاستحقاق ذاته تحول الى حالة مرضية في المخيال النقابي فالقيادة بوعي محسوب تعيش على ماضيها الذي صنعه الرواد وتُعليه بمغالاة ولا تعنيها كثيرا تبدل الملابسات والظروف ولا تنفك في كل المناسبات تمجّد الزعماء حدّ التقديس وتعتبر إنجازهم فوق التصور وفوق التاريخ وتتباهى بصون إرثهم والاهتداء بهم ولا يخطر إطلاقا في بال هذه القيادات أن ذلك الإرث صنعه الرواد وأن عليها أن تصنع إرثها الذي هو ضرورة تمثل لتجربة الرواد وإغناء لها. والأطياف الديمقراطية وإن كانت لا تبخل بالنقد والتحليل والمحاسبة فإنها هي الأخرى مشدودة الى الماضي فنقدها حتى الراديكالي منه وجهته المقارنة مع ما فات لا مع ما يجب أن يكون. في هذا الاطار يُفهم التقديس شبه الديني لفرحات حشاد مثلا (والحال أن قيمته كزعيم تاريخي ليست محل شكّ من أحد). إن الأدبيات التي يقع تداولها في المناسبات الوطنية والمحطات النقابية تكاد تتناسخ ولا يخرج جوهرها تقريبا عن تقييم نقابي يرى المنظمة قد انزاحت عن الدور الذي كانت تلعبه ويرى القيادات قد تنكرت لتراث الرواد وماضي المنظمة. وعوض أن تنكبّ التقييمات على تحديد المهام التي يجب أن تؤديها المنظمة وصبر الآليات والتأكيد على النضالات التي يجب أن تُخاض حتى لو لم يكن للمنظمة إرث تنصب هذه التقييمات على ما يشبه الجلد لحاضر العمل النقابي.
يعمد الخطاب الرسمي للسلطة الى تأكيد إحترامها للاتحاد كمكسب وطني والتغني بذلك ويمرر في المقابل كلما سنحت الفرصة سياساته على حساب توجهات المنظمة وإلتزاماتها. ويعمد الخطاب النقابي الرسمي الى المغالاة في التغني بإرث الاتحاد ليمرر فهما فوقيا وفعلا عموديا للعمل النقابي. ويعمد الخطاب النقابي النقدي (المعارض) الى استحضار سيرورة المنظمة ليدعو الى النسيج على منوال «السلف» مهملا ما لتباعد الزمن وتبدّل الملابسات من إنعكاس في تغير طبيعة المهام والأشكال وإن حملت نفس التسميات. إن الفهم الجدي لهذه المسائل هو الذي يفرض ويجذر استيعاب المنظمة لهويتها ولوزنها وبصالح النقابيين مع الارث الذي يعتزون بامتلاكه ولكن ذلك يتوقف على هضم وإدراك معطيات تقدم كمسلمات ولكن الواقع العنيد يكذبها: فالذين يذهبون الى المنظمة كانت دوما مستقلة عن كل الاحزاب السياسية يخلطون عن جهل أو عن تعمد بين الاستقلالية التنظيمية وفهم المنظمات لدورها الذي يتطلب منها نحتا لكيان مخصوص والتفاعل مع المحيط الاجتماعي والثقافي والسياسي فلم يكن الاتحاد في تاريخه، زمن الاستعمار خاصة، اللعبة السياسية ولم يكن في قطيعة مع الاحزاب بل كان منغرسا بوعي في محيطه السياسي دون أن يتنازل عن هويته النقابية. والذين يذهبون الى أن الاتحاد في ظل «الدولة الوطنية» كان دوما مستقلا وفي أسوء الحالات رافضا للهيمنة يهملون عن قصد قيادة الاتحاد الى التفاعل والانصياع الى أوامر الحزب الدولة. كانت الاستقلالية مدار صراع، نعم، لأن الاتحاد ليس كلا متجانسا وتلك خاصياته ولذلك فالإطلاقية حكم خاطئ. وكانت الاستقلالية دوما مطمحا وهدفا ولم تكن واقعا منذ تربّع الحزب الدستوري على السلطة وحتى الفترات التي خاض فيها الاتحاد صراعا مريرا من أجل فض التبعية يتنزل في اطار صراع بين أجنحة السلطة حاولت فيه المركزية أن توظف رصيد المنظمة للمساهمة في حسم الصراع واستغلته الهياكل الوسطى والسفلى وبعض الاطياف التقدمية والديمقراطية لفصم الولاء وفرض القطيعة. ليست المنظمة فوق الأحزاب ولا العمل النقابي عداء لكل نزوع سياسي. الاستقلالية هي بالأساس إستقلالية عن التدخل في الشأن النقابي من السلطة أولا أما باقي الأطراف فبعض منها صديق وحليف للحركة النقابية ولا يمكن للمنظمة النقابية أن تعيش عزلة عن محيطها في ما يعرف اليوم بالمجتمع المدني. النزوع الى الاستقلالية وفك الارتباط لا يعني موضوعيا جرّ المنظمة الى صدام. واعلان التناقض مع توجهات السلطة لا يساوي رسما لعداء مفتوح كما يروج لذلك البعض فهذه الاستقلالية إستحقاق تاريخي على حقيقه فعليا يتوقف الحديث عن توازن مفترض يوكل بالاتحاد أن يلعبه ويعمل على تحقيقه لأن منظمة لا زالت تتلكأ في فرض وجاهتها ومكانتها وتوجهها ليس حريا بها أن تنشد توازنا. إلا أن إستقلالية المنظمة لا تتأتى فقط من إدراك طبيعة العلاقة مع الاطراف الخارجية فحسب بل تتأتى أيضا من العالم الداخلي للمنظمة. وحدها المنظمة الديمقراطية من بابها الى محرابها قادرة على فرض إحترام جميع الأطراف لها. في هذا الإطار يتنزل الادراك المسؤول والواعي لكون المنظمة ملكا للجميع جهات وأطيافا. والحال أن الجهوية والعروشية أحيانا وتنفذ الجهاز الاداري وتضخم المركزية التي اختزلت دوما في الأمانة العامة منذ عهود حالت دون تحول المنظمة الى جسم يمثل حقا الشغالين وحتى العوامل التاريخية التي ساهمت في بعث العمل النقابي وجعلت نصيب جهات أهم من جهات أخرى حوّلته الأجهزة معطى ثابتا وقدرا والحال أن هوية العمل الاجتماعي والنقابي تملي تجاوزا وقطعا مع التقاطب الجهوي وسعيا الى فرض توازن يضمن الحديث عن توافق يكون مدروسا وهادفا ومؤطرا يشد الى ثوابت المنظمة والى معايير نضالية أكثر مما يرتبط بوجاهات وأقطاب، جهات وولاءات تجعل البعض يحس بالغبن والإقصاء والتهميش وليست محاولات المروق وضرب وحدة المنظمة والسعي الى إرساء منظمات بديلة خيانة للحركة النقابية وسعيا الى إضعاف المنظمة ومؤامرة برانية بقدر ما هي أيضا نتائج لواقع طبيعي إذا استفحل وتورم شرّع موضوعيا كل فعل مواز. يتبع