تسفّ ما تسفّ الرّيح العاتية وتعبث الأهوية من شتّى الاتجاهات وهم لا يتزعزعون مع زيتوناتهم. أصل الزيتون ثابت وهم رعاة. رعوا الماعز والابل والشاة وما حصلوا منها على نتاج. وبداية الحكاية طويلة ملتوية كمسارب الخرفان في أرض الرُّبى الصلدة أو الأودية التي لا عمق ولا ماء بها. ولا يقوى أحد على روايتها على حقيقتها الاّ من عركهم الزّمن والعجاج والصّبر وانتظار الامطار والقبول بالصّيف الحارّ والخريف العاصف والشتاء الكالح والرّبيع الذي لا يُزهر النبت الذي به يحلمون. والصورة القاتمة لم تكن قاتمة الاّ لما جاء ذلك الغريب. فنصحه حكيمهم الأعرج بأن يكفّ عن قراءة شعر الصعاليك وشرب الخمر وإغواء النساء بقصّته الطويلة الاّ أنّه رفض مدّعيا أنّ حياته له وحده وهو حرّ فيما يفعل بها. فدعا الأعرج رجال القبيلة وأجلسهم أمام خيمة السمر الكبرى ودعالهم بالشاي الأحمر المجلوب من وراء الروابي حيث الخضرة ولف لهم سجائر يد خنونها. ولم يكن الشيخ يفعل هذا الاّ في الطوارئ: في عقد التحالفات مع القبائل الأخرى وفي البحث عن مشكلة أعضلت وفي تزويج أحد شبّان القبيلة. لكنّه هذه المرّة صمت ولم يبن وكتم عن الشيوخ الأمر وعزم على أن يفاتح به الجميع فيكون الخبر مشاعا حتى يعرف كلّ واحد ماله وما عليه. واذن فقد جاء الرّجال واصطفوا أمامه جالسين كالأثافي. وغامرت بعض النساء بالجلوس وراء الستارة يتنصتن، يردن أن يعلمن الأسرار ويتنبأن نبوءات مختلفة عن هذا السرّ الذي سيفاتحهم به الشيخ. وبعد أن هدأ المكان واعتلى الشيخ مصطبته وشنفت الآذان وعلقت القلوب تنشد السرّ تريد أن تعرفه وتظفر به والكل بينه وبين نفسه يدعو: اللهم اجعله خيرا. قرع الشيخ الأعرج الأرض بعصاه الغليظة ثم قال: «الجدب أجدب والدواب نحلت وبئرانا غار ماؤهما. وهذا لا يخفى عليكم. والطريق إلى النجاج بين أديكم. صوموا تكفيرا عسى اللّه أن يغوثكم. صوموا وداوموا على نحر الجداء الرضع حتى يكون صومكم مزكى». وقرع الشيخ الأرض مرّة أخرى اعلانا بنهاية الوعظ، وصام الناس ونحروا جداءهم «الحاطمة» وفصدوا الدم فتغذّوا به وبعثوا بالشواء إلى شيخهم وما أمطرت السماء وما أغاثتهم الآلهة. وشكا كل واحد من الموت والجدب: الموت المحدق بهم بعد بهائهم وأنعامهم والجدب أبى أن يفارق. واستدعاهم الشيخ مرّة أخرى إلى خيمته فجاؤوا يُجرجْرُون أرجلهم وكل يلبس «قرقا» يمنع به رجليه أن يصيبها الشوك أو تدميها الحجارة. فحرك الشيخ عصاه ونطق كلاما واضحا هذه الرّة وبعد دعاء للآلهة كثير وبرم من الجفاف وفساد للخلق غير خاف على أحد حرّك سبّابته وعصاه في اتجاه غير معلوم، يرسم بهما عالما بهيميا وقال: هذا الغريب أجوف أتى لنا بالدواهي فالخير لنا أن ندعوه إلى مفارقتنا حتى تذهب اللعنة. وسكت الحكيم منتظرا من مستمعيه ردّة فعل فرأى على وجوههم خليطا من خوف وتصديق فشجّعه ذلك على أن يضيف: عليكم أن تختاروا بين أن تعيشوا في نكد وبين أن تطردوا الغريب فيكون لكم الخصب والبركة. وأجابه فتى من بين صفوف رجال، كأنّهم أعجاز زيتون: إنّنا بفضل هذا الغريب نتعلّم ما لم تعلموه ونعرف سبيل مقارعة الجوع والظمإ ونستطيع الحصول على الرغيف ولا نخشى في الحياة لوما. إنّ هذا الغريب هو من يرينا الحياة على علاتها وأجابه آخر مساندا. نعم انّ الغريب هو من غرس فينا الصبر والذي كان يقول لنا دائما: كن كزيتونة فلن تهلك. وعلت الهمهمات فغدت صياحا وقال الشبان بصوت واحد والشيوخ يحاولون اثناءهم فلا يقدرون: لن نقتل الغريب ولن نعرضه للموت سنمنعه كل ضرّ لكن الشيخ قرع بعصاه الأرض مثلما فعل أول مرّة معلنا انتهاء الوعظ وأعاد على الجمع قوله غير أنّ «هديل» فاتنة القرية تكلمت من وراء الستارة فقالت: ومن يعلّمنا كلام الغزل الرقيق! ومن يحكي لنا مصارع العشاق إلاّ هو. عشنا معكم فكنتم والحجر أشباها. تلجون مراقدنا صامتين وتخرجون منها صامتين فما عرفنا أأنتم الأفضل أم تيوسكم وجمالكم؟ وفي الحال غضّ الرجال من أبصارهم وبعضهم شهر السيف عاليا. وأقسم أن لن يبقي امرأة تردّد كلام الغريب. ولم يهدأ اللغط ولم يسكت الغضب الاّ بعد الاتفاق النهائي على وجوب طرد الغريب من القبيلة صباح الغد. كان صباحا مريرا بطعم الحنظل والدفلى مخلوطين وكانت الشمس تلقي سوطها على الجميع من الرجال وهم يهيمون في المنحدرات البعيدة والقريبة ويجوبون الافاق ويزورون الكهوف التي اعتادوا أن يقيلوا فيها. ولم يظفروا بأثر يشفي الغليل الاّ خطوات الرجل الأعرج وآثار مشيه ولما عادوا مساء كانوا مشرفين على الموت. وجلس كل شيخ حذو خيمته يبكي زوجه وأبناءه الذين افاق فلم يجدهم لقد رحلوا جميعا مع الغريب. ويئسوا آنذاك من الحل ولما أعياهم البحث عادوا إلى شيخهم الأعرج يستشيرونه ويطلبون منه أن ينظر في غيبهم عن الأبناء والزوجات الذين رحلوا مع مغويهم الغريب. وما وجدوه. ونادى المنادون أن ابحثوا عن شيخنا حتى يفك عنّا المصيبة أو يزيح عنّا همّ الفقد. ولكن الشيخ لم يظهر وذهبوا إلى كوخه فلم يجدوا الاّ عكازه وبرنسه وأرواقا فيها شهادة ميلاده وصورا تؤرخ للحظات من عمره شابا وشيخا. إنّها نفس صورة الغريب الذي رحل بأبنائهم ونسائهم.