صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    "التكوين في ميكانيك السيارات الكهربائية والهجينة، التحديات والآفاق" موضوع ندوة إقليمية بمركز التكوين والتدريب المهني بالوردانين    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    نبض الصحافة العربية والدولية ... مخطّط خبيث لاستهداف الجزائر    تونس تُحرز بطولة إفريقيا للبيسبول 5    ساحة العملة بالعاصمة .. بؤرة للإهمال والتلوث ... وملاذ للمهمشين    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    العاب التضامن الاسلامي (الرياض 2025): التونسية اريج عقاب تحرز برونزية منافسات الجيدو    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    بنزرت: ماراطون "تحدي الرمال" بمنزل جميل يكسب الرهان بمشاركة حوالي من 3000 رياضي ورياضية    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    الجولة 14 من الرابطة الأولى: الترجي يحافظ على الصدارة والهزيمة الأولى للبقلاوة    عاجل: أولى الساقطات الثلجية لهذا الموسم في هذه الدولة العربية    شنيا يصير كان توقفت عن ''الترميش'' لدقيقة؟    عاجل: دولة أوروبية تعلن حظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي على الأطفال دون 15 عامًا    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    عاجل : فرنسا تُعلّق منصة ''شي إن''    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    عاجل: النادي الافريقي يصدر هذا البلاغ قبل الدربي بسويعات    أول تعليق من القاهرة بعد اختطاف 3 مصريين في مالي    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    خطير: النوم بعد الحادية عشرة ليلاََ يزيد خطر النوبات القلبية بنسبة 60٪    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    تحذير من تسونامي في اليابان بعد زلزال بقوة 6.7 درجة    عاجل-أمريكا: رفض منح ال Visaللأشخاص الذين يعانون من هذه الأمراض    النواب يناقشو مهمة رئاسة الحكومة: مشاريع معطّلة، إصلاح إداري، ومكافحة الفساد    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    الشرع في واشنطن.. أول زيارة لرئيس سوري منذ 1946    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    رأس جدير: إحباط تهريب عملة أجنبية بقيمة تفوق 3 ملايين دينار    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    الدورة 44 لمعرض الشارقة الدولي للكتاب: 10أجنحة تمثل قطاع النشر التونسي    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    شنيا حكاية فاتورة معجنات في إزمير الي سومها تجاوز ال7 آلاف ليرة؟    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    الطقس اليوم..أمطار مؤقتا رعدية بهذه المناطق..#خبر_عاجل    بايدن يوجه انتقادا حادا لترامب وحاشيته: "لا ملوك في الديمقراطية"    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    تعرف قدّاش عندنا من مكتبة عمومية في تونس؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    مصر.. فتوى بعد اعتداء فرد أمن سعودي على معتمر مصري في المسجد الحرام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشاعر التونسي المكي الهمامي يتسلّم جائزة مفدي زكريّا للشعر
نشر في ديما أونلاين يوم 19 - 04 - 2012

تسلّم الشاعر التونسي المكي الهمامي جائزة مفدي زكريا العربية للشعر بالعاصمة الجزائرية وفيما يلي القصيد الفائز بالجائزة تحية من"ديما أونلاين" للشاعر
القصيدة الفائزة بجائزة
مفدي زكريّاء العربيّة للشّعر
الدّورة العربيّة الثّانية
(2010 _ 2011)
تَحَوُّلاَتُ الشَّاعِرِ
(قصيدة سرديّة مطوّلة)
المكّي الهمّامي
شاعر من تونس
(01)
للشّاعرِ ثمْرُ الأسرَارِ،
وخمرُ النّسيانِ. لهُ شجرٌ مجنُونٌ
يَكبرُ في الأحدَاقِ، ويُورِقُ منتشِيًا
كالبستانِ. لَهُ الأمطَارُ المَأْخُوذَةُ
بِالغَمْرِ. وسَقْفُ الأكوانِ مُنَاهُ...
(02)
عُكَّازُ الشّاعرِ قافيةٌ، فَلْيَرْمِ بِهذا العكّازِ بعيدًا، ولْيَبْحَثْ في دَمِهِ عن معجزَةٍ كبرى – قِيلَ لهُ – يَحتاجُ الشّاعرُ شيئا أدهشَ من أوزانٍ وتفاعيلَ لكي يُقْنِعَنَا بِنُبُوَّتِهِ. يحتاجُ الشّاعرُ، مَثَلاً: أَنْ يبتكرَ البرقَ اللاّمعَ في الظّلماتِ/ وأنْ ينصتَ مَشْدُوهًا للأَنْسَاغِ تَصَاعَدُ في شجَرِ الأدغالِ/ وأَنْ يتوحَّدَ كالحلزُونِ سعيدًا بحرائقِهِ، ويكوِّرَ في كفَّيْهِ الخَالِقَتَيْنِ سَمَاهُ...
(03)
الشَّاعِرُ مَنْ يُخْفي العالَمَ،
في الكلمَاتِ. وإِذْ يَتَغَلْغَلُ في الفكرَةِ
أو في الغيمَةِ أو في شهقَةِ أُنْثَى،
يَتَنَاثَرُ من بُرْدَتِهِ يَاقُوتُ الفَجْرِ،
ويَجري من وَرْدَتِهِ مَاءٌ شَبَقِيُّ النُّورِ،
وتَخبطُ في الدَّيْجُورِ عَصَاهُ...
(04)
يَمْضي، يَعبرُ سُجُفًا تُخفي سُجُفًا، وغُيوبًا فوقَ غيوبٍ. مقدورُ الشّاعرِ أن يضربَ في الأكوانِ، غريبًا. يعتمرُ الغيمَ. ويشربُ أنهارًا عَطْشَى. يَتَفَتَّتُ في الأبديَّةِ أضواءً وَلْهَى. حِكْمَتُهُ الأمطارُ. وحجّتُهُ الأزهارُ، لَهُ فيها بِدَعٌ ومُحَالٌ. والأقمارُ ظِلالٌ لِمَرَائِيهِ. خَيْمَتُهُ الرِّيحُ. ومَوْطِنُهُ الرَّفْضُ. ولا سَمْتٌ لرَوَاحِلِهِ، إذْ تَشْرُدُ في التِّيهِ. ولا بَدْأٌ لغوايَتِهِ، إذْ تخلُقُ أتباعًا مَلْعُونِينَ. ولا خَاتِمَةٌ لِهُبُوبِ الرُّؤْيَا في عينَيْهِ. لدَيْهِ تقاويمُ الصّحراءِ. ويَتْرُكُ أحفادًا، في كلِّ بلادٍ يَعْبُرُهَا. يَنْسَى، دومًا، شيئًا سحريًّا وبسيطًا، يحرسُ ذِكْرَاهُ...
(05)
في الجَدْبِ، يَرُوغُ إلى امْرَأَةٍ يَتَسَرَّاهَا، يَبْحَثُ عن فَيرُوزِ الدّهشَةِ فيها. مَنْ ينقذُهُ من خَيْطِ الشَّهْوَةِ، إذْ يلتفُّ نعيمًا وجحيمًا حولَ فحولَتِهِ، ويحرِّرُهُ مِنْهُ ومِنْهَا ؟ جَدْوَلُ عِشْقٍ إِيرُوسِيٍّ هذا المُلْقَى فوقَ الكتفينِ، سُقُوطًا أَبْهَى في هَاوِيَةِ الرَّوْعَةِ. نبعٌ ملعونُ الماءِ لشَارِبِهِ هذا الثَّغْرُ القَانِي. وحدائِقُ من زهرٍ أسطوريٍّ هذا الصَّدْرُ العامِرُ بالأسرار. وحينَ يحدّقُ في سُرَّتِهَا، يبصرُ في العمقِ قطيعَ آيَائِلَ تَرْعَى الأنوار. لهذا الجَسَدِ المَجْنُونِ بَلاَغَتُهُ الْمُعْجِزُ مَعْنَاهَا. لا عينَ رَأَتْ، من قَبْلُ، ولا كفّ جَسَّتْ... كانتْ سِرْبَ نساءٍ يَتَكَوْكَبْنَ جميعًا، في هذا الجسدِ القاهر، يَصْرُخُ فيهنَّ وفيهِ الشّاعر: [ هذا الجسدُ الآثِمُ ما أَغْوَاهُ !!! ]
(06)
والشّاعرُ، إذْ يَتقدَّمُ منفيًّا، ووحيدًا،
في ما يَغْدُو وَطَنًا لِمَبَاهِجِهِ،
يَتْرُكُ أَثَرًا بلّوريًّا،
يَزرعُ شَجَرًا /
قَمَرًا /
قَدَرًا نُورانِيًّا،
خَلْفَ خُطَاهُ...
(07)
أطوارُ الشّاعرِ مرعِبَةٌ. يمضي منذورًا للتّيهِ، ومفتونًا بالموسيقى تَصَّاعَدُ من شفتَيْهِ، يَدًا تَقطفُ لذّاتٍ وفراشاتٍ وغماماتٍ / صَدْرًا مزدحمًا بالأَرْيَاحِ الفَذَّةِ / وَجْهًا يبرقُ كالمِشْكَاةِ ويشرقُ في الظّلمَةِ. يَمْضي. يَعْبُرُ بوّاباتٍ سبعًا. يبحث عن مدنٍ شاهقَةٍ، فيها القمرُ الوَهَّاجُ الغارقُ في دمِهِ. يَمضي. ويَطُوف، وحيدًا، مَسْحُورًا بِصَدًى يَتَرَدَّدُ في الآبَادِ وأجراسِ حُرُوف. يَمْضي. يضربُ في المَلَكُوتِ، كَأَنْ لا أرضَ لهُ لا سقفَ، سماؤهُ إعصارٌ وحُتُوف. يَمْضي، مَوْسُومًا بِعَذَابِ الخَلْقِ، جَنَاحَاهُ الجَبَّارَانِ رُؤَاهُ...
(08)
كان يُهَوِّمُ في الفَلَوَاتِ، شريدًا كالغزلانِ،
شفيفًا كخيالاتِ الصّوفيّينَ،
تُرافِقُهُ الأطيارُ الجَذْلَى...
[ غرناطةَ أم بغدادَ،
يريدُ الرّجلُ المِسْفَارُ،
وكلُّ دُرُوبِ الأرضِ دمارُ،
والأكوانُ تَسَاقَطُ في الرُّوحِ رمادَا...؟! ]
مطعونًا بمراياهُ يسيرُ، ومترَعَةً بالفَقْدِ أنَاهُ،
وغارقَةً في سُرَّةِ أنثاهُ قَوَاقِعُ بهجَتِهِ. وكَخَاتمِ سِحْرٍ
في إصبعِ غجريٍّ أعمى، كان يُشيرُ إلى الآفَاقِ،
فيَرْتَسِمُ الفِرْدَوْسُ أمامَ مَدَاهُ...
(09)
مخفورًا، بصباحاتٍ لم يُبصِرْهَا أحدٌ، كان يَمُرُّ على وَلَهٍ وذُهُولٍ. صرختُهُ الأَبَدِيَّةُ، إذْ يُطْلِقُهُا في الظّلمَةِ يشربُهَا اللّيلُ، وتَنْثَالُ رذاذًا أبيضَ يُوقِظُ نعناعَ البرّيَّةِ من غفوتهِ. قدماهُ دوائرُ غائرَةٌ في صُحُفِ الرَّمْلِ. ودَرْبُهُ مُنْحَفِرٌ في الأَسْمَى. ومُلَبَّدَةٌ بالغَامِضِ سِيرَتُهُ. وممزَّقَةٌ أسفارُ قِيَامَتِهِ. يَدخلُ في رُعْبِ الأقدارِ، وفي المجهولِ المتوحِّشِ. يَدخلُ في طَلْعِ الأزهارِ الذّهبيِّ، وفي زَغَبِ الأطيارِ الباهِرِ. لم نفهمْ سرَّ الشّاعرِ. لم نُدْرِكْ حُمَّاهُ. لقد كان الشّاعرُ أبدعَ مِنْ أَنْ نفقَهَ مَعْنَاهُ...
(10)
الشّاعرُ ذاكَ المُتَوَهِّجُ كالرُّؤْيَا،
والمَعْجُونُ بِجَمْرِ الإِثْمِ وكَوْثَرِهِ...
يَحْمِلُ للأكوانِ القَدَرَ الأبْهَى.
يَحْمِلُ سِرَّ الوردَةِ
في عُرْوَتِهِ الوُثْقَى.
يَحملُ في يُمْنَاهُ
كتابَ الرّفْضِ،
ويَرْحَلُ مَفْتُونًا بخَطَايَاهُ...
(11)
قَلْبُ الشّاعرِ، في هِجْرَتِهِ، وَطَنٌ للكلماتِ الوَثَنِيَّةِ، قلبُ الشّاعرِ آنِيَةٌ للأزهارِ القمريَّةِ، قلبُ الشّاعرِ أُفْقٌ للغيماتِ. نُحدِّقُ فيهِ، فلا نُبْصِرُ إلاّ أطيافًا تَتَمَرْأَى فوقَ رَكَايَاهُ. نُحَاوِلُ فَهْمَ غَرَابَتِهِ بالعقلِ، فيُرْعِبُنَا النُقصانُ. نُقَارِنُهُ بِنَبِيٍّ مجنونٍ أو بإِلَهٍ سكرانَ يُبَدِّدُ مُلْكَا في التَّرْحَالِ، ونُغْلِقُ بابَ الحَيْرَةِ [ حَمْدًا حَمْدًا، أَنْ لَمْ نُجْرَحْ بِشَظَايَاهُ... !!! ]
(12)
هُوَ مَنْ يُهْرِقُ قَادُوسَ البَهْجَةِ،
فوقَ نواصي اللّيلِ، فيهرَمُ
مفتونًا بالأفراحِ اللّيلُ. وتطلعُ
مِنْ أَحْشَاءِ الظّلمَةِ شَمْسٌ،
لم يَرَهَا أحدٌ مِنْ قَبْلُ. لَهُ بَرْقٌ
يفتضُّ سماءً أعلى، ولَهُ أَسْمَاءٌ
غَارِقَةٌ كَفَرَاشَاتٍ في خَمْرِ المعنى،
ولَهُ الخَيْبَةُ والخُسرانُ، لَهُ التّيجانُ
الْباهِرُ ضوءُ لآلِئِهَا. يَخْتَطُّ
خرائطَهُ في الأقفَارِ طريدًا،
والتِّيهُ العَاصِفُ مَرْسَاهُ...
(13)
يوقظنا، ويقولُ لنا: ( هذي الشّمسُ لَنَا أُمٌّ. تَمْنَحُنَا الدّهشَةَ، والخبزَ السّاخنَ في الأَصْبَاحِ. وتَسْقِينا ماءً نورانيًّا يُسكبُ في أقداحِ الأُفْقِ. وتُطْلِقُ، في الأَفْجَارِ، جناحَ الطَّيْرِ. وتُرْضِعُ أطفالاً مَنْسِيِّينَ حليبَ الغبطةِ. بُورِكْتِ لنا أُمًّا، دومًا، يا شَمْسَاهُ... )
(14)
الشّاعرُ مَنْ يَبْقَى،
كالصّرخَةِ في هذي الدّنيَا.
هُوَ ما لا يُسْمَى، هُوَ ما يَجْلُو
صَدَأَ الأحلامِ الكَسْلَى...
الشّاعرُ، حَقًّا، مَنْ يَبْقَى
حُرًّا وطليقًا، رغمَ الغُربَةِ، في مَنْفَاهُ...
(15)
للشّاعِرِ أسطورتُهُ الشّخصيَّةُ دومًا [ حينَ ينامُ العالَمُ يَصْنَعُ من أغصانِ الغاباتِ سِلاَلاً للأَحْلاَمِ الحُمَّى. ويعيدُ لهذا اللّيلِ لآلِئَهُ الفضيّةَ لؤلؤةً تِلْوَ الأخرى، محترقًا بلهيبِ النّجماتِ يضيءُ الأسحارَ، ويُبْعَثُ فيها كالعنقاءِ الحَيْرَى ]. ما أغربَ هذا الشّاعرَ، هذا الرّجلَ المِغْبَارَ. سِمَاتُ المُلاَّكِ على جَبْهَتِهِ البيضاءِ، ولا إرثَ لَهُ غير التَّرحال. أصابِعُهُ الملكُوتُ الرَّحْبُ، ولا بيتَ لَهُ إلاّ الزّلزال. مريضٌ بِتَعَاوِيذِ الأَسْلاَفِ، ومَسْكُونٌ بالنَّارِ، كَأَنَّ البَرْقَ الأَخَّاذَ مقيمٌ في عينَيْهِ، كأَنَّ لدَيْهِ مفاتيحَ الأسرارِ الكبرى. ما أروعَ أن تُولَدَ من كَفَّيْهِ الآثِمَتَيْنِ الأَصْبَاحُ، وما أفدحَ أن يُبْصِرَ في بلّورِ التِّيهِ هُدَاهُ...
(16)
الشّاعرُ، لو تدرونَ، الرَّائي
في مرآةِ النّرجسِ، تُبْصِرُ
ما لا يُبْصَرُ عيناهُ، وتَقْرَأُ
ما لا يُقْرَأُ من أخبارٍ وفُتُوحَاتٍ...
الشّاعرُ، لا أحدٌ
يُشْبِهُهُ في الدّنيا،
لا بشرٌ يبلغُ مَرْقَاهُ...
(17)
الشّاعرُ مَلِكٌ مطرودٌ في الأكوانِ، وهَيْمَانُ. أضاع عروشًا في الوهْمِ، وبَدَّدَ في التّطوافِ كنوزا. أطفَأَ شمسَ الصّمتِ، وأَضْرَمَ شمسًا أخرى للصّوتِ الطّالعِ من أحشاءِ العزلَةِ، بحثًا عن كلماتٍ لا تشبهها كلماتٌ. يُوغِلُ في شطرنجِ كتابَتِهِ [ هِيَ في الأَصْلِ متاهَتُهُ ]. ويُحَنِّطُ أوجاعًا في الأبيضِ. يبني في النّشوةِ إيقاعا نزقًا، وقلاعًا من ذَهَبِ الأحزانِ... غنائمُهُ الأحجارُ تَهَاوَى في القِيعَانِ عميقًا. ومباهجُهُ المِلْحُ المتخثّرُ في شهقَةِ أُنثى. ومَسَرَّتُهُ الأنوارُ، إذا سَطعَتْ... ترياقُ اليَأْسِ قصائِدُهُ. والأرضُ له قبرٌ ومماتٌ. والأفْقُ لرؤياهُ حياةٌ سَكْرَى، يَنْشُدُهَا... وملاكٌ منفيٌّ في هذا العَصْرِ، صباحٌ مَرْمِيٌّ في الظّلمَةِ، زهرٌ جبليٌّ يُورِقُ في الفجرِ، هو الشّاعرُ. لا أحدٌ يُدْرِكُ، ما الشّاعرُ ؟ سِرُّ الأسرارِ، هُوَ الشّاعرُ في الأكوانِ، وقدسُ الأقداسِ تَجَلَّى. والأسماءُ هَوَاهُ...
(18)
للشّاعرِ حَتْمًا ما يَكْفي،
من خُبْزِ الدّهشَةِ كَيْ يَحْيَا،
قَلِقًا وسعيدًا، فوق ذُرَاهُ...
(19)
إحساسُ الشّاعرِ رفَّةُ عصفُورٍ مَقْرُورٍ. وذهولُ الشّاعرِ، في الرّؤيا، نُسُكٌ مبهمَةٌ لا تفقهُهَا الدَّهْمَاءُ. وإِرْثُ الشّاعرِ مملكةُ الأشياءِ الصُّغْرَى، تَكبرُ في الأحلامِ وفيهِ. غريبٌ هذا الكائنُ، في وحْدَتِهِ، تَزْحَمُهُ الأضواءُ، تُآخِيهِ. غريبٌ ومريعٌ وبديعٌ. قد تَتَّخِذُ الأطيارُ أصابعَهُ الفِضِّيَّةَ أعشاشًا. وتَلُوذُ بِهِ الغيماتُ، إنِ انْفَجَرَ الإعصارُ. وتَرْقُدُ في بُرْدَتِهِ اللَّيْلاَتُ، كَطِفْلٍ عَانَقَ حَلْوَاهُ...
(20)
في قَلْبِ الشّاعرِ، في أَصْقَاعِ
مَجَاهِلِهِ، في أَصْدَافِ رغائِبِهِ السِّرِّيَّةِ،
يَسكُنُ دومًا وَلَدٌ يَعْبَثُ بِالأَوْثَانِ،
ويَلْهَجُ بالطُّوفَانِ القَادِمِ،
من جِهَةٍ لا يَعْلَمُهَا أَحَدٌ إِلاَّهُ.
ويَسْكُنُ فِيهِ – أُؤَكِّدُ - يَسْكُنُ فِيهِ إِلَهُ...
(21)
الشّاعرُ من يَمْلأُ رَاوُوقَ الكلماتِ، بخمْرِ المعنى. ويُرِيقُ الماءَ الفاتِنَ فوقَ الأوراقِ، شغوفًا بغوايتِهِ الأولى... التّفّاحةَ يَرْسُمُهَا في مملكَةِ الأبيضِ، شَبِقًا. ويُلَوِّنُهَا بِغُبَارِ الرَّغْبَةِ، يَنْفُخُ فيها من شهوتِهِ حتّى تُصبحَ أُنْثَى، أجملَ من كُلِّ الأَخْطَاءِ وأَحْلَى... الشّاعِرُ من يَكتُبُ بالجمرَةِ تاريخًا آخَرَ للأزمانِ، ويَمْحُو الماضي الآسِرَ بأصابعِهِ، يقتلُهُ كَيْ يَحْيَا فينا، كَيْ نَحْيَا...
الشّاعرُ من يَكتبُ يَشطبُ،
يَشنقُ يَخْلُقُ،
لا خَالِقَ في كَوْنِ الأَوْرَاقِ سِوَاهُ...
(22)
[ الشّاعرُ ماتَ، أُكَرِّرُ
أنّ الشّاعرَ ماتْ...! ]
أبدًا، الشّاعرُ حيٌّ في الكلماتْ...
والشّاعرُ أعظمُ مِنْ أَنْ يُولَدَ، ثمّ يَمُوت.
الشّاعرُ يَعبقُ عِطْرًا في المَلَكُوت،
ويَصْعَدُ موسيقى ومَبَاهِجَ شَتَّى...
إِنْ سَلَّمْنَا، جَدَلاً، أنّ الشّاعرَ "مات".
فهذا الأبيض،
مثل سريرِ الغَيْمِ السّابِحِ،
حَتْمًا، مَثْوَاهُ...
(فرنانة - تونس/ ماي 2010)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.