لم يكن هذه المرة خلف عدسة الكاميرا كعادته، ولا أمامها أيضا كما يشتهي ربما... لم يكن لا خلفها ولا أمامها بل كان في قلب الصورة، خافتا مثل هسيس الفراشات عبر، وحيا كوقع الخطى على الرصيف تكلم عن السينما الوثائقية تأريخا وتجربة واستشرافا... المخرج السينمائي صاحب «كافي شانتا» و»رايس لبحار» و»شفت النجوم في القايلة» عندما تتوفر لك فرصة مقابلته والاستماع إليه ستُسقط حتما تلك المسافة إذ تجد نفسك وجها لوجه أمام جسد حي يتحرك بخفة مدهشة، وبكل تلقائية وعفوية يتنقل بين خانات الكلام مثل بهلوان ماهر...يفيض كلام بشكل منظم في الحديث عن التجارب السينمائية العالمية بإحالاته المرجعية والوقوف عند أهم الأعلام واهم المحطات المفصلية في تاريخ السينما، وعن تجربته الشخصية بتفاصيلها المضنية وبشرارتها التي أتت متأخرة كأنها طائر مينرفا... «صدمة العراق والثورة الرقمية هما اللذان دفعاني للفيلم الوثائقي» هكذا يقدم مبررات هوسه بهذا الصنف السينمائي الذي أضاف له من خلال إنتاجه للأعمال الوثائقية التي عزز بها المدونة السينمائية التونسية في جانبها التوثيقي... حتى أنك تتراجع أو تتخلى عن مقاطعته بسؤال أو استفهام لتترك له ارض الكلام شاسعة وأيضا لتترك لنفسك سماء الاستمتاع بكلامه أكثر شساعة... «عشق تفاصيل الواقع هو القادح للتوثيق السينمائي» بهذه الجملة انطلق بن عمار في حديثه عن زاوية اختيار المواضيع التي يعالجها في الأفلام وعن ضرورة الصبر والتأني لاقتناص اللحظات الحميمية في تصوير الفيلم الوثائقي باعتبارها التيمة المحركة لشحنات هذا الصنف السينمائي... فهو قناص المهمل بجمالية مرهفة وحساسية عالية... يتحدث بحرارة وحميمية أيضا عن حقوق الشخوص المُصورة في هذا الشكل السينمائي وأيضا عن ضرورة حمايتهم واحترام حياتهم الشخصية... وان كان ذلك على حساب جمالية العمل المنجز... كان مبهرا وهو يتذكر لحظات توزيع الجائزة التي نالها عن فيلم «رايس لبحار» على كل البحارة الذين صورهم في فيلمهم حيث قدم لهم في عيد الأضحى أضحية لكل واحد منهم... لم يمنحهم حقوقا مادية بالمعنى التام للحقوق وإنما قدم لهم هدية بسيطة تعبيرا منه لعلاقة الحب التي جمعته بهم أثناء تصوير الفيلم... ولم يكن مفاخرا بذلك بقدر ما كان يحاول التأسيس لممارسة إنسانية مفعمة بالحب والاعتراف لدى المخرجين السينمائيين... علاقة حب، نعم السينما هي فن الحب بامتياز، مثلما يصفه وهو يقارن بين بداية الحب المعلومة ونهايته المفتوحة وبداية الفيلم التوثيقي المعلومة من حيث المنطلقات والأهداف والانتظارات وبين نهايته اللامنتظرة أو اللامتوقعة... علاقة حب تلك التي تجلت في أسمى معانيها عندما يصف تجارب الشبان السينمائيين التونسيين بشحنات صادقة وباحترام وحب وهو الخمسييني المعتد بتجربته وبموقعه...»أليس الموقع هو المحدد للموقف... في السينما كما في الحياة...» وهو يتحدث عن أعماله التوثيقية وعن السينما عموما يأخذك بحنو الأب من الضوء المنهمر من فضائك النهاري ليلقيك في قلب ظلمة الصمت والانتباه... ظلمة قاعة السينما بتعاليمها الشعرية... فتختلط عليك الصفة وأنت تصغي لجمله وفواصله ولحظات صمته هل أنت أمام المخرج الذي عرفناه أم أنت أمام المنشط في بداية مشواره أم أنت أمام أستاذ مادة السينما بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار بتونس... هل عشت ذاك الإحساس... الذي يعتريك وأنت تغادر قاعة السينما بعد عرض متميز، عندما تجد نفسك صديقا للبطل ومتعاطفا مع تفاصيل حكايته وطافحا بموسيقى المشاهد ومثخنا بمنمنمات الشاشة وحركتها... هو ذاته تقريبا الذي سيرتديه جسدك وذاكرتك وحتى حركاتك وأنت تودع المخرج بالفعل والممثل بالقوة... لأنه ببساطة يقوض مقولة تكلم لأعرفك ويعوضها بمقولة تكلم لأحبك...