في برنامجه الإنتخابي، أعلن الرئيس زين العابدين بن علي عن سلسلة من التعهدات التي لها علاقة مباشرة بالشغالين والنقابيين وعموم الأجراء. أبرز هذه التعهدات توفير 425 ألف فرصة عمل جديدة وانشاء 700 مؤسسة وضمان دخل فردي ب 7 آلاف دينار وتغطية اجتماعية لا تقلّ عن 98 بالمئة للمعنيين بالأمر. لكن لاشك أنّ أبرز التعهدات التي لفتت انتباه الرأي العام العمّالي والنقابي هو ذلك المتمثّل في الرفع المتواصل للأجور. وهو تعهّد التزم به الرئيس بن علي منذ مطلع العهد الجديد حيث أصبحت المفاوضات الجماعية دورية وتنعقد كل 3 سنوات وقد أسفرت منذ التئامها لأوّل مرّة في سنة 1990 وآخر مرّة في سنة 2008 عن زيادات هامة في الأجور في القطاعات الثلاثة (الوظيفة العمومية، القطاع العام والقطاع الخاص) كما أسفرت عن مكاسب ترتيبية جمّه هي في غالب الأحيان ترجمان للإتفاقيات الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية وصادقت عليها الحكومة التونسية. والواقع أنّه ليس في الأمر غرابة، مادام الاتفاق حاصلا على العمل المشترك والإحترام المتبادل خدمة لمصالح الشغالين والوطن من خلال اشاعة السلم الاجتماعية والعمل بصفة دائمة على ترسيخها. ولاجدال في انّ الإطار الذي سمح بذلك انّما هو اطار السابع من نوفمبر حيث كان الرئيس بن علي عند اعتلائه سدة الحكم على قدر كبير من البداهة فتجاوب بسرعة قياسية مع الحركة النقابية وبادر في اطار المصالحة الوطنية إلى رفع الظلم والقهر المسلّط على الاتحاد... فأطلق سراح القادة والمناضلين النقابيين وأمر بإرجاع النقابيين المطرودين إلى سالف عملهم وبحث أحسن السبل لإعادة الاعتبار للإتحاد العام التونسي للشغل الى حدّ عقد مؤتمر سوسة الذي كرّس عودة الشرعية للعمل النقابي وفتح صفحة جديدة في تاريخ نضالنا المجيد. ولقد أضفت الاجراءات المتعدّدة والمختلفة التي أقدمت عليها السلطة السياسية الجديدة جوّا من الحماس والاندفاع لدى مختلف شرائح الشعب التونسي ممّا أهّل البلاد لتقبّل التغييرات والتحولات الدولية واطلاق مبادرات سياسية هامة غيّرت وجه المنطقة عموما ومن بينها الحرص على تأسيس اتحاد المغرب العربي بعد 15 شهرا فقط من التغيير. وقد كان ذلك حدثا بارزا في المنطقة وفي الوطن العربي وحوض المتوسط عموما. ولقد تمكّنت بلادنا التي عاشت سنوات طويلة مريرة، هي سنوات نهاية العهد السابق، من امتصاص الرجّات والهزّات التي شهدها العالم بفضل روح الحماس التي بثّها التغيير. كما استطاعت ان تدخل عهد التعددية السياسية الفعلية دون ضغوط أو املاءات خارجية وجعلت بلادنا مهيأة لتقبّل التيارات الفكرية الجديدة الجارفة والتي رفعت شعارات الديمقراطية والدفاع عن حقوق الانسان وجعلت منها قاعدة أساسية لكل التغيّرات. استقلاليتنا محفوظة ومن حسن حظّ اتحادنا أنّ تغيير السابع من نوفمبر أدخل البلاد في فضاء سياسي انتفت فيه مظاهر نزعة الهيمنة على المنظمات التي عرفناها في العهد السابق. فالاتحاد وبعد اعادة بنائه وجد نفسه في مناخ ديمقراطي، الأمر الذي عمّق الحس الاستقلالي لدى مناضلينا. ونحن نعتقد أنّه لا خوف اليوم على استقلالية الاتحاد. فهو فضاء مفتوح للجميع ونقصد جميع المؤمنين بمبادئه وأهدافه وقوانينه، الملتزمين بتراثه والمثمنين لنضالاته الخالدة. انّ استقلالية اتحادنا اليوم هي في منأى عن كل محاولات الهيمنة فالأحزاب سواء كانت في الحكم أو في المعارضة وكذلك التيّارات أو الحساسيات الفكرية لا يمكنها أن تمسّ من استقلالية اتحادنا أو تتدخل في عملية صنع القرار النقابي. وفي المقابل وللتاريخ نقول أنّ السنوات الماضية أثبتت بما لا يدع مجالا للشك ان اتحادنا كان قادرا على توفير حياة ديمقراطية داخل وبين هياكله، والمحافظة على طابعه المتميّز كفضاء يتيح تعايش كل التيارات والحساسيات والأفكار. وإلى جانب ضمانه للوحدة وترسيخه للاستقلالية استطاع اتحادنا وطبقا لقوانينه ان يكون منظمة تعمل بالأسلوب الديمقراطي بعيدا عن الوصاية والتعيين والقرارات الفوقية. فلقد عقدنا خلال السنوات الماضية آلاف المؤتمرات للهياكل القاعدية والقطاعية والجهوية على اختلاف أنواعها. والرأي العام النقابي والرأي العام الوطني عموما يشهد ان اتحادنا يعتمد الأسلوب الديمقراطي في عملية اتخاذه للقرار ويعتمد الديمقراطية في اسناد المسؤوليات مهما كانت درجتها. ان اتحادنا أثبت بحق انّه مدرسة للديمقراطية ومدرسة للروح المدنيّة يتربّى فيها المناضلون والقادة على الحسّ المدني والانقطاع للشأن العام. علاقاتنا مع السلطة لقد مثّلت العلاقة بين الاتحاد والسلطة في تونس ومنذ مطلع الاستقلال اشكالية كبرى كثيرا ما آلت الى صراعات وأزمات حادة نتج عنها فقدان الاتحاد جزئيا أو كلّيا لاستقلاليته مع ما يترتّب عن ذلك من تقلص للممارسة الديمقراطية داخله. إلى حين المصالحة الوطنية الشاملة التي اعتمدها بن علي واتخاذه لجملة من الاجراءات لفائدة الاتحاد العام التونسي للشغل وسعيه الملموس الى اعادة الاعتبار للإتحاد كمنظّمة وطنية ذات مسؤوليات ومهام كبرى في اعادة البناء الوطني. إنّ هدفنا وكما هو مثبّت في القانون الأساسي لاتحادنا ليس محاربة السلطة أو اتخاذ موقف العداء تجاهها أو السعي الى مناوشتها بسبب أو بدون سبب، أو التحول إلى خصم سياسي كما يدعو لذلك من لا همّ لهم الاّ استعمال المنظمة لأغراضهم الحزبية الضيقة ولا أيضا التحول إلى مجرّد أداة طيّعة هدفها الأساسي خدمة السلطة السياسية. إنّ التبصّر ودروس الماضي القريب والبعيد وخصوصا حسن الاستعداد الذي وجدناه لدى أعلى هرم السلطة أملى علينا سلوكا نعتقد أنّه الأصوب والأصلح لاتحادنا ولبلادنا ولنمط المجتمع الذي اخترناه، سلوكا ينبني على التعاون والتشاور في كنف الاحترام. وقد أثبتت الأيّام ان تمشينا وكذلك الأسلوب الذي اعتمدته السلطة تجاهنا كان سليما. ويحقّ لنا في الاتحاد العام التونسي للشغل ان نفخر بأنّنا تمكنا من تقويم علاقة ظلّت غير طبيعية وعلى امتداد أكثر من ثلاثين سنة. ويحقّ لنا ان نفخر أيضا بأنّ نضالات الاتحاد العام التونسي للشغل والشعب التونسي عموما وشجاعة بن علي جعلت رئيس الجمهورية صديقا وسندا للشغالين ولمنظمتهم. مزيدا من الحرية النقابية لقد تحركنا على كلّ هذه الواجهات ونجحنا في تحقيق الكثير من مطالبنا، ففي مجال الحريات النقابية وضمان احترام ممارسة الحق النقابي توصّلنا الى إلغاء أو الاستغناء عن العمل بالعديد من الأوامر والاجراءات التي فرضت على الحركة النقابية في العهد السابق. فالعديد من المناشير أصبحت لاغية والعديد من القوانين المتعلقة بالممارسة النقابية داخل المؤسسات روجعت بشكل يسمح لمنظمتنا بالعمل بكلّ حرية. وحق الاضراب الذي انبنت عليه جل نضالاتنا والذي شكّل على الدوام أداتنا الأنجع في الكفاح الاجتماعي أصبح محترما من قبل الجميع، ناهيك أنّنا خضنا منذ مؤتمر سوسة ما شئنا من الاضرابات عن العمل لأسباب مختلفة شارك فيها مئات الآلاف من العمّال والعاملات دون أن يزجّ بأي نقابي أو عامل في السجن أو يمثل مناضلو اتحادنا أمام القضاء للمحاكمة من أجل ممارسة هذا الحق، مثلما كان يجري في السابق. انّ هذا المكسب الثمين الذي حققناه بالنضال يضاف الى بقيّة المكاسب التي تحققت في مجال الممارسة النقابية والذي تعزّز من خلال مراجعة العقد الإطاري المشترك الذي يكرّس العمل النقابي الحرّ داخل المؤسسات عبر الاضافات التي تمّ اقرارها، وخصوصا تقنين العطلة النقابية الخالصة الأجر للتكوين النقابي وكذلك مصادقة الحكومة التونسية على عديد الاتفاقيات الدولية ومنها الاتفاقية رقم 135 الضامنة لحماية المسؤول النقابي. والأمل معقود على أن يتمّ خلال الخماسية المقبلة مصادقة الحكومة على ما تبقى من اتفاقيات منظمة العمل الدولية. وقد انعكست هذه الاجراءات بصورة ايجابيّة على توسع العمل النقابي ولم تعد هناك مناطق أو مؤسسات محرّمة على العمل النقابي. فاتحادنا قادر اليوم على تنظيم العمّال في كلّ المؤسسات مهما كان شكلها القانوني والمسؤولية موكولة لنا نحن النقابيين للذهاب الى العمال في مواقع عملهم وتوعيتهم وتحسيسهم بحقهم وضرورة انتسابهم الى اتحادنا العتيد وتكريس الشعار الذي رفعناه بضرورة بعث نقابة في كل مؤسسة. تصفية تركة الماضي إنّ الجانب الثاني الذي أخذ الكثير من وقتنا وجهدنا واهتمام منظمتنا يتعلّق بمحو اثار الأزمة. انّ التركة كانت ثقيلة بحجم الأزمات التي عاشها النقابيون، ذلك أنّ مئات النقابيين والعمّال أطردوا من عملهم وشرّدوا خلال الأزمات، وتمّ الاستيلاء على كل ممتلكات الاتحاد ومؤسساته الاقتصادية كما كان العديد من أرباب العمل في القطاعين العام والخاص والذين اكتسبوا سلوكا متحفّظا تجاه العمل النقابي نتيجة الممارسات والعقلية التي سادت في العهد السابق، يرفضون الخوض في هذا الموضوع ويبادرون بطرد النقابيين ومازال بعضهم الى الآن يفعل ذلك. وقد تعاملنا ونتعامل مع هذه القضية بمرونة وبحزم مدعومين بقرار سياسي شجاع وتوصلنا الى رفع العديد من المظالم لاسيما المطرودين وأعدنا لهم الاعتبار كشغالين وكنقابيين والعديد منهم اليوم يمارسون النشاط النقابي بأكثر حماس وثقة في الاتحاد. ولاشك انّ تعاملنا بهذا الشكل وبهذه المصداقية قد نزع من قلوب بعضهم ما زرعه فيهم العهد السابق من حقد وتشفٍّ، أراد بها تدمير المؤسسات التي كوّنها الاتحاد وانخرط بها في العمل التنموي للبلاد. لكن قيادة التغيير وواقعيتها وتقديرها للاتحاد كمكسب وطني لعموم الشعب التونسي وكذلك صمود النقابيين ووعي الطبقة الشغيلة والنقابيين ساعدنا على تصفية تركة الماضي وتأسيس مناخ جديد قوامه العمل المشترك والاحترام المتبادل.