ماكان واقع الحال العربي- على بؤسه - بحاجة لمباراة في كرة القدم، كمثل التي جرت بين فريقي مصر والجزائر، لينكشف على حقيقته غاية في العري والهشاشة والتعصّب. المشكلة أن ماحصل ليس له علاقة مباشرة بالسياسة، ولا بالصراع على السلطة، ولا بالتنافس على المكانة السياسية أو التنموية أو العلمية والمعرفية، وثمة بين مصر والجزائر مساحات جغرافية شاسعة، تقوم فيهما دولتين عربيتين أخرتين، و»نحمد الله على ذلك« (على ماذهب ساطع نور الدين في »السفير« قبل أيام). لكن كيف يمكننا تشخيص هذه الظاهرة المرضية، أو هذه »الصرعة« الجديدة، المتمثلة بالتصارع بين »جماهير« هذه الدولة وتلك، وهو أمر لم نألفه، نحن الذين عرفنا صراعات الدول والسلطات، وصنوف الحروب الأهلية في»وطننا«العربي. بداهة، لايمكننا بأي حال تنزيه السياسات السائدة، والسلطات الحاكمة، وأنماط الخطابات الإعلامية)التلفزيونية والانترنتية (المهيمنة، عن ماحصل بين الجمهورين المصري والجزائري، لمجرد تنافس على لقب أو على مكانة في عالم كرة القدم، لأن ذلك هو تحصيل حاصل للدرك الذي وصلت إليه بلداننا وجماهيرنا. إهتراءالشارع العربي و خواء الحالة الجماهيرية ويبدو أن حال الاستعصاء في أوضاعنا باتت تشمل كل شيء، السياسة والاقتصاد والثقافة والاندماج المجتمعي، والوعي الهوياتي، والقيمي. وبالنتيجة فقد تجلى هذا الاستعصاء على شكل اهتراء في »الشارع العربي«، الذي طالما جرى التغني به من قبل الزعامات والأحزاب السائدة، باعتباره مجرد شارع، دون التبصر بأحواله، وبواقع أنه لم يرق بعد إلى مستوى مجتمع، في ظل الكوابح السلطوية والعصبيات القبلية) المذهبية والطائفية والاثنية والعشائرية)، التي تحول دون اندماجه المجتمعي/الوطني، ودون تمحوره من حول دولة مواطنين، أي دولة مؤسسات وقانون) هي غائبة أو مهمشة بواقع الحال) . وبمعنى أخر فقد فضحت الحادثة الكروية، والشعارات التي طرحت على خلفياتها، ضحالة ادراكات »الجماهير« لأوضاعها، وكشفت كم أن القطاعات الأكثر وعيا، في هذه الجماهير، لم تعد تلق بالا لشؤونها الحياتية، ربما لأنها ملت أو يئست من إمكانية التغيير، بهذه الجماهير، أو من إمكانية التغيير ذاتها. كذلك فقد بينت هذه الحادثة بتداعياتها المرة خواء الحالة الجماهيرية في العالم العربي، وهو أمر كانت كشفته سلسلة من الأحداث الكبيرة والخطيرة في العالم العربي، خلال العقود الثلاثة الماضية مثلا، حصار بيروت (1982) وحصار العراق ثم احتلاله(1991 2003) مرورا بأحداث الانتفاضتين الفلسطينيتين(1987 1993و2000 2005)، وحروب إسرائيل على لبنان والفلسطينيين في الضفة وغزة، إذ كشفت هذه الأحداث خرافة الجماهير العربية، الغائبة والمغيبة، والمغلوبة على أمرها، لأسباب عديدة( سلطوية ومجتمعية وثقافوية.( التخلف بلغة الأرقام وفي الأرقام ما يسلط الضوء على مكمن ضعف هذه الأسطورة، إذ أن 33) بالمئة أي الثلث (سكان العالم العربي تقل أعمارهم عن 15 عاما. ويبلغ معدل أمية البالغين فيه (فوق سن ال15 28 بالمئة)، وفقط (21 بالمئة ) يلتحقون بالتعليم مافوق الثانوي؛ وهي أرقام تشير إلى الكم الهائل من الناس، الذين لايستطيعون التمكن من إدراك أحوالهم. وثمة معايير أخرى، أيضا، فكل ألف فرد من العالم العربي يمتلكون(91 حاسوبا ) فقط! وبين كل ألف فرد ثمة 114 مستخدما لشبكة الانترنيت. ويصدر كتاب واحد فقط لكل 12000 مواطن عربي في العام، مقابل كتاب لكل 500 انكليزي وكتاب لكل 900 ألماني، ومعدل القراءة في العالم العربي لا يتجاوز 4 في المئة من معدل القراءة في انكلترا، ويبلغ معدل قراءة المواطن العربي سنويا ربع صفحة، بينما معدل قراءة الأميركي 11 كتابا والبريطاني 7 كتب في العام، ويقدر عدد العاملين في العالم العربي في القطاع الصناعي بنحو 19.2 مليون عامل فقط، يشكلون حوالي 16.3% فقط من إجمالي العمالة العربية، وهي نسبة جد متدنية، في واقع عربي يعتمد في 40 بالمئة من مداخليه على النفط. »ستار أكادمي« تهزم الانتفاظة عموما فإن هذه الحادثة الكروية، وما نتج عنها من عصبيات، وهستيريا جماهيرية، بين جماهير هذا البلد أو ذاك، لم تكن المثال الوحيد، فقد شهدنا مثالا عليها في مسابقات برامج تلفزيونية مشهورة، مثل»سوبر ستار« و»ستار أكاديمي«، في تعصب جمهور كل بلد لمرشحه. ومعلوم أن إقبال الجماهير على هذه البرامج تجاوز، وقتها، إقبالها، أو اهتمامها، بالقضايا الكبرى التي زامنتها كأحداث الانتفاضة الثانية، والحرب الإسرائيلية على لبنان وهو أمر بات ملحوظا في المتابعة الجماهيرية» لمونديال« كرة القدم، ولبعض البرامج الترفيهية في الأفنية التلفزيونية، وبما يفوق الاهتمام بالقضايا المصيرية، وضمنها القضايا المعيشية، وقضايا التعليم والصحة والسكن والعمل والتنمية والإصلاح السياسي! وفي ذلك يمكن القول بأن الحكومات، وبالأصح السلطات الحاكمة، تتحمل قسطا كبيرا من المسؤولية عن هذا الأمر، بقعودها عن تنمية ادراكات الناس بأوضاعها، ووضعها قيودات وحتى عقوبات على سعيها للتعبير عن أحوالها، كما على سعيها للمشاركة في تقرير أوضاعها، بحيث بتنا، ليس فقط أمام واقع دول رخوة وإنما أمام »مجتمعات« رخوة أيضا. وسائل الإعلام و صناعة النموذج أما وسائل الإعلام، وهي باتت تتوخى الربح، وتبني برامجها على ذلك، من دون أي توازن في عملياتها، فتتحمل مسؤولية كبيرة عن ذلك أيضا، بترويجها للسطحي والرخيص والمبتذل، في مجالات الفن، والأنكى أن هذه الوسائل رفعت نجوم الرقص والطرب وكرة القدم وعارضي الأزياء(مع كل الاحترام للموهوبين كما للعاملين في هذه المجالات) إلى مكانة المفكرين والأكاديميين والصحفيين والباحثين، هكذا بات الفنان( وهو شخص موهوب في مجاله) يستعرض تاريخ حياته، وأهوائه ومشاعره، وسيرته العاطفية، وطريقة أكله وشكل لباسه وقصة شعره )وماكياجها وعملياتها التجميلية(، على الملأ، بما يتيح له أو لها عبر»الميديا« أن يصبح نوعا من النموذج؛ وحتى أن عديد منهم لا يقصر بطرح أرائه في السياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة! وهكذا بتنا نشهد كيف أدى هذا الوضع إلى تراجع مكانة المثقف والمفكر والأكاديمي والباحث وتآكل دوره في مجتمعه، فهؤلاء من النادر أن يظهروا في برامج التلفزة، في واقع عربي في غالبيته لايقرأ، ولا يشجع على القراءة. »المؤتمرات القومّية «و القطيعة مع الجماهير وفي ظل هذه الأوضاع باتت إطارات من مثل المؤتمر القومي العربي، والمؤتمر الإسلامي القومي العربي، ومؤتمر الأحزاب العربية، وملتقى الحوار العربي الثوري الديمقراطي، ومؤتمر الفكر العربي، وغيرها، لاتستطيع شيئا في تغيير هذا الحراك »الجماهيري«، في»الاتجاه المعاكس«، بل إنها ما عادت تستطيع تحريك ما يمكن أن تحركه مباراة رياضية أو برامج ترفيه أو إثارة تلفزيونية ! وقد شهدنا كيف أن حدث مباراة الجزائر ومصر أحدث »حراكا« جماهيريا، أكبر بكثير من الحراك الذي أحدثه مؤتمر الأحزاب العربية)الذي كان يعقد بالصدفة بنفس الفترة في دمشق). المعنى من ذلك أن السيطرة في المجال»الجماهيري« العربي باتت» للميديا«، فهي التي تخلق ادراكات الناس، وتوجه مشاعرهم وتشحن غرائزهم، أكثر بكثير من كل الأحزاب والجامعات والمكتبات والصحف القائمة. إنها تأثيرات الميديا على الناس، في عصر العولمة، وفي عصر مجتمعات الجماهير التي باتت تتحرك» بالأفنية التلفزيونية والانترنيت والموبايل«، ولكن مشكلتنا أننا ندخل هذا العصر بدون نضج مناسب، أي بدون اندماجات مجتمعية، وفي ظل تأزم علاقات الهوية والسلطة والدولة في بلداننا العربية، على خلاف غيرنا.