سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
حديث الهادي نويرة إلى مبعوثة مجلة »لونوفال ابسارفاتور« فصول من تاريخ الإتحاد العام التونسي للشغل أزمة سنة 1978الحلقة الثانية :
بقلم: الأستاذ منصور الشفي
كانت مبعوثة جريدة» لونوفال ابسرفاتور «إلى تونس اثر مؤتمر الحزب سنة 1974 هي الصحفيّة الشهيرة والكاتبة القديرة» كينيزي موراد «والتي تحمل الجنسيّة الفرنسيّة وهي من أصول هندية من جهة الأب وتركية من جهة الأم وقد اشتهرت روايتاها اللتان أصدرتهما بالفرنسية (من طرف الأميرة الميّتة، وحدائق بومبادور). وسجلت حديثها الصحفي مع الهادي نويرة بتاريخ سبتمبر 74 وفيه يبرز تعيينه باعتباره وزيرا أوّلا وأمينا عاما للحزب كخليفة للرئيس بورقيبة في صورة حصول شغور في الرئاسة. ويقول فيه: (نحن في نظام رئاسي فلماذا نقبل أن يعيّن بورقيبة الوزراء ولا نقبل منه تعيينه لأعضاء الديوان السياسي ونطالب بالإنتخاب ورئيس الدولة له أشخاص لا يريد العمل معهم فلماذا نفرضهم عليه بواسطة الانتخاب، انّ الجدوى ستنعدم لأنّ الوقت سيمضي في التجاذبات والخصومات كما أعلن الهادي نويرة أنّه ضدّ التعدديّة الحزبية وأنّ تونس لم تعرف ظروفا أحسن من التي تعيشها الآن بالنسبة للأجراء). وفي هذا الحديث أعلن الهادي نويرة أنّه معاد للديمقراطية ولا يسمح باختلاف الآراء حتى داخل الحزب الحاكم. ولكنّه لم يتمكّن من تطبيق هاته الأفكار بالنسبة للنقابيين فهم قد فرضوا عليه طريقة الحوار واعتبر الحبيب عاشور نفسه شريكا في الحكم حتى أنّه عند تكوين الوزارة كوّنها مع الهادي نويرة لا غير. وفي مؤتمر الحزب لسنة 1974 (سبتمبر 1974) أرسل محمد المصمودي رسالة للحبيب بورقيبة يطلب فيها منه أن يمكّنه من حضور المؤتمر ليدافع عن نفسه من أجل المآخذ التي أوخذ بها وقد نشرت جريدة »لوموند« الفرنسية هاته الرسالة بالكامل. لكن لم يسمح للمصمودي بالرجوع إلى تونس ولابحضور المؤتمر وقد أنتخب الحبيب عاشور في مؤتمر الحزب لسنة 1974 (وهو ما عرف بمؤتمر المنستير 2) عضوا في الديوان السياسي. وفي هذا المؤتمر وقعت مبايعة (المجاهد الأكبر) رئيسا مدى الحياة وأوصى المؤتمر بتنقيح الدستور بما يخوّل إسناد رئاسة الدولة لبورقيبة مدى الحياة. وفي حديث صحفي لبورقيبة على هامش المؤتمر قال: (كلّ شيء في تونس منذ الإستقلال حققته لوحدي، وكان رفاقي أحيانا يميلون إلى التمتّع بالحياة والتخلّي عن المسيرة لأنّهم لم يكونوا يؤمنون بأنّ ذلك سيؤدي إلى نتيجة ولم يكن من أحد عنده ايمان بنجاح الخطّة إلاّ أنا فالأمّة التونسية مدينة لهذا الحزب ولهذا الرجل). وبعد رجوع محمد الصياح إلى إدارة الحزب ومنذ سنة 1973 سعى إلى إرجاع الشعب المهنية. وفي سنة 1975 يبدأ الصياح محاولته لتغيير الأمين العام للإتحاد فيتصل بفرحات الدشراوي وينظّم له لقاء مع الرئيس بورقيبة وإن كان الدشراوي قد أنكر بعد سنوات من ذلك سعيه إلى تعويض الحبيب عاشور على رأس المنظمة الاّ أنّ ما كان يؤكده دوما المرحوم الحبيب عاشور ان ذلك قد وقع بالفعل وانّ المحاولة قد وقعت من محمد الصياح. وقد عمل الإتحاد على المحافظة على صلاحياته إذ عارض بكلّ قواه تركيز الشعب المهنية وخاصة توسيع مهامها خشية أن تزاحم النقابات الأساسية وان التحالف القائم بين الإتحاد والحكومة طيلة السنوات 70 75 لم يمنع الاتحاد من أن يرفع مطالب الشغالين ويعمل من أجل تحقيقها حسب مؤتمرات الاتحاد ومجالسه الوطنيّة متمحورة حول الزيادة في الأجور والضغط على الأسعار ومراجعة العقود المشتركة. ولكن بالرغم من الإضرابات التي زاد نسقها بداية من سنة 1972 حتى أصبحت بالمئات سنويا فإنّ العلاقات بين الحبيب عاشور والهادي نويرة بقيت جيّدة.وإنّما بقي الشرط الوحيد،لإعتبار الإضراب شرعيّا هو أن يحظى بموافقه المركزيّة النقابيّة. في أواسط السبعينات بدأ مدّ جديد من النقابيين الشبّان غيّروا وجه المنظمة ففي المؤسسات بلغت نسبة العمّال والعاملات من الذين يحسنون القراءة والكتابة 80 وأصبح الإتحاد لذلك يجمع بين العاملين بالساعد والعاملين بالفكر. و قد كان الإتحاد العام التونسي للشغل الفضاء الوحيد الشرعي للشباب لممارسة نضالاته وخاصة لمن لم يكن منهم يرغب في النضال داخل الحزب الحر الدستوري الحزب الحاكم ولذلك كانت المنظمة الشغيلة هي التي تستقطب هاته الأعداد الهامة من الشبّان وكانوا كلّهم يتجمعون حول الحبيب عاشور الذي فتح لهم أبواب الإتحاد،و بذلك إنخرط الكثير من المثقفين اليساريين أمثال عبد الجليل البدوي ومحمد الزواغي والطاهر الشايب ومحمد الشرفي ومحمد محفوظ والمنصر الرويسي والطيب البكوش والجنيدي عبد الجوادي والمهدي عبد الجواد وصالح الزغيدي والمنصف بن سليمان وسالم في العمل النقابي بكلّ نشاط وحماس وكان الحبيب عاشور يشجعهم بدون أن يمسّ ذلك في شيء من صداقته السياسية وتحالفه مع الهادي نويرة ومحمد المصمودي وحتى بعدما ساءت العلاقة بينهما احتفظ هو بعلاقته الوطيدة بكلّ واحد منهما، وعلى يد هؤلاء الشبّان المتحمسين والعمّال النقابيين شهد العمل النقابي دفعا جديدا وأصبحت المنظمة هي القوّة الأولى في البلاد وحتى قبل الحزب الحاكم. وأصبح الحبيب عاشور في هاته الفترة هو محور الحياة السياسية وكان الهادي نويرة في قرارة نفسه يخشى هاته القوّة المهابة خاصة وأنّ الحبيب عاشور ورغم الصداقة المتينة التي تربط بينهما لم يصرّح له بدعمه له كخليفة منتظر للحيبب بورقيبة. وكانت وسيلة زوجة الرئيس بورقيبة تُظهر في العلن عدم رضاها عن الهادي نويرة وبالرغم من انّهما ظهرا لفترة عند إعلام الوحدة المجهضة بين ليبيا وتونس كحليفين الاّ أنّ وسيلة لم تتخلّ مطلقا عن صداقتها لمحمد المصمودي. أمّا العمل النقابي فكان كلّ يوم يتجذّر أكثر ووسيلة الاضرابات قد استعملت بدون انقطاع كما سبق لي أن ذكرت. وفي هاته الفترة قاوم الهادي نويرة الطلبة اليساريين بكلّ قوّة مستعينا في ذلك بإدارة الحزب ووزارة الداخلية. وكان الطلبة يعتبرون عدوّهم الرئيسي الهادي نويرة وكثيرا ما جابت مظاهرات الطلبة بعض شوارع العاصمة وخاصة شارع الحبيب بورقيبة وهم رافعين لشعارات معادية للهادي نويرة مثل (خبز وماء والهادي نويرة لا). وإذا كان الهادي نويرة قد إستمال الحبيب عاشور لمقاومة الطلبة فإنّما كان ذلك في ظرف وجيز لم يتجاوز سنة 72 لأنّ الحبيب عاشور سرعان ما عاد لموقفه المبدئي وهو السماح للطلبة بإنتخاب قياداتهم بكل حرية وديمقراطيّة. ومنذ سنة 1972 فإنّ وضعيّة العمّال قد تحسّنت وأصبحت المفاوضات الإجتماعية والإضرابات هي وسيلة النقابات لفرض تحسينات جوهرية مسّت حياة الشغالين في كافة القطاعات وكلّ ذلك تحت إشراف الحبيب عاشور وبإعانة رفاق أخلصوا للعمل النقابي وجعلوا من المنظمة قوّة فرضت نفسها على الساحة السياسية وأصبحت النقابات في هاته الفترة هي السلطة المضادّة تتدخل في شتى مناحي الحياة الإقتصادية والإجتماعية وإذا كان الحزب الحر الدستوري قد قبل وسعى في بعث جبهة قوميّة عند الإنتخابات التشريعية فإنّ نوّاب الإتحاد في المجلس النيابي كانوا يكوّنون شبه كتلة مستقلة برئاسة الحبيب عاشور وبرز من هؤلاء خاصة المرحوم خليفة عبيد. وكان الحبيب عاشور من ضمن هذا السيل الدافق من المنخرطين في الإتحاد يرعى بصفة خاصة صعود نقابيين، لمس منهم حسن تمثيلهم لقطاعاتهم، فسعى بالخصوص لتقوية أربعة أشخاص هم: عبد السلام جراد على رأس قطاع النقل وعلي رمضان على رأس قطاع الفلاحة والحسين بن قدور على رأس قطاع التعليم الإبتدائي وإسماعيل السحباني على رأس قطاع المعادن وكانت هاته القطاعات أهم القطاعات في العمل النقابي لتجذرها فيه منذ تأسيس الإتحاد وكان هؤلاء الشبان محلّ متابعة يومية وإهتمام متصّل بنشاطاتهم النقابية لدفعهم لاحتلال الصفوف الأمامية كقيادات وانضاف لهم الطيب البكوش من قطاع التعليم العالي. فهؤلاء بدأوا فعلا في تحمّل مسؤولية قطاعاتهم بعد رجوع الحبيب عاشور للإتحاد وكانوا بفضل إندفاعهم في العمل النقابي وحماسهم يتهيّؤون لتحمّل المسؤوليات الأولى بالإتحاد وليكونوا هم خلفاء الرعيل الذي باشر عمله النقابي مع المرحوم فرحات حشاد أو الذين انتموا للعمل النقابي في بداية فترة الإستقلال. علاوة على علاقة الصداقة بين الحبيب عاشور والهادي نويرة فقد ارتبط عاشور بصداقة بالطاهر بلخوجة وزير الداخلية منذ شهر مارس 1973 كما إرتبط بصداقة مع محاوريه ومحاوري الإتحاد وهما كل من الوزير محمد الناصر الذي عوّض سنة 1974 فرحات الدشراوي على رأس وزارة الشؤون الإجتماعية والوزير المنصف بلحاج عمر وزير الوظيفة العمومية والكاتب العام للحكومة المكلّف بالملف التفاوضي وهذان الأخيران قد آمنا بجدوى الحوار الإجتماعي وقد قدّم محمد الناصر عملا جليلا بوزارة الشؤون الإجتماعية إستفاد منه تطوّر التشريع العمّالي لفائدة الطبقة الشغيلة وكذلك الأمر بالنسبة للمنصف بلحاج عمر. وكان الحبيب عاشور يستدعيهما للحضور بغالب التظاهرات العمّالية وخاصة في إحتفاليات ذكرى 5 أوت بصفاقس وكانا يشيدان في خطبهما بوجوب إبقاء هاته اللحمة مع الإتحاد برئاسة الحبيب عاشور. أمّا الطاهر بلخوجة فكان الحبيب عاشور يلاقيه بإستمرار وكان يستدعيه لتقضية بضعة أيّام من عطلته بجزيرة قرقنة وأحيانا في منزله بالجزيرة.و بعد أن رجع محمد الصياح لإدارة الحزب في شهر جوان 1973 أعيدت الشعب المهنيّة للوجود بعد أن توقف الحزب عن بعثها منذ سنة 1970 وذلك بقرار من اللجنة العليا للحزب التي كان أحمد المستيري مقرّرا لها والتي تحدّثت عنها مطوّلا في الجزء السابق الذي كتبته عن تاريخ المنظمة الشغيلة. وكان محمد الصياح يسعى إلى تقوية إدارة الحزب بعناصر متطرفة، والمتمثلة في عامر بن عائشة الذي كان مديرا مساعدا للحزب وقد تفرّغ للعمل الحزبي بعد أن وقعت إزاحته من الإتحاد العام التونسي للشغل وذلك تطبيقا لتوصية صادرة عن الهيئة الإدارية بتاريخ سنة 1973 تقرّر فيها عدم السماح بالإزدواج في المسؤولية وقد شمل هذا القرار علاوة عن عامر بن عائشة عضوي المكتب التنفيذي محمّد الوسلاتي الذي كان رئيسا مديرا عاما لشركة الشحن والترصيف ومحمد عزالدين الذي كان موظفا ساميا بإدارة البريد وإن كان محمد عزالدين قد إستعاد بعد مدّة منصبه في المكتب التنفيذي. كما تمثّلت هاته العناصر المتطرفة بالإضافة إلى بن عائشة في الحبيب فتح اللّه ومحمد جراد الذين كان قد كوّنا ما أطلق عليه مليشيا الحزب وهي مليشيا ثابتة الوجود كانت مهمّتها تأديب النقابيين المتحمسين وبعض الطلبة المعارضين. ويقول الحبيب عاشور في مذكراته (ص 129) ما يلي: »في اجتماع للديوان السياسي عرض محمد الصياح مشروع تكوين شعب مهنية وفي نظره فإن هذا من شأنه أن يسمح للحزب بالإتصال بكل طبقات الشعب وأن يسمح أيضا بمضاعفة عدد منخرطيه وكنت أقول لنفسي انّها فكرة شيطانيّة أخرى لمحمد الصياح فهو يريد الرجوع إلى الوضعيّة القديمة التي كانت سائدة قبل أحداث سنة 1965 والتي استعمل فيها الحزب هاته الشعب المهنيّة ضدّ الإتحاد العام التونسي للشغل وذلك لكسر وحدته وإستقلاليته ولم يمنعني ذلك من القول بأنّ هاته الشعب غير واردة في هذا الظرف الذي يسود فيه الوئام والوفاق بين الحزب والحكومة«. وهكذا بعثت هاته الشعب المهنية ليعتمدها محمد الصياح وعامر بن عائشة والحبيب فتح اللّه ومحمد جراد لبث الفرقة بين العمّال والحكومة.