فيديو: كارثة بيئية تهدد خليج المنستير والمياه تتحول الي اللون الوردي بسبب التلوث    15 سنة سجنا ضد الصحبي عتيق: الناطق باسم محكمة أريانة يكشف ويوضح..#خبر_عاجل    عاجل : منها الترفيع في المنحة ...وزارة الصحة تزف أخبارا سارة للأطباء الشبان    زغوان: رصد اعتماد بقيمة 9ر1 مليون دينار لإعادة بناء مركب رعاية الطفولة ونادي التنشيط التربوي والاجتماعي بالزريبة قرية    قابس: أكثر من 250 مشاركا في الدورة 41 لمعرض قابس الدولي    عاجل : هيئة الرقابة النووية والإشعاعية في السعودية تحذر و تنشر هذا البيان الرسمي    منوبة: اصدار بطاقة إيداع بالسجن في حق مربي نحل بطبربة تسبب في حريق غابي    عاجل : تعرف على أول فريق يغادر كأس العالم للأندية 2025    بلاغ توضيحي للجنة الإنتخابات بالنادي الإفريقي للمنخرطين    نقل نجم ريال مدريد مبابي إلى المستشفى...تفاصيل    الترجي يعود لزيه التقليدي في مواجهة مصيرية ضد لوس أنجلوس في كأس العالم للأندية 2025    تونس: الدولة توفّر تذاكر سفر لعودة المهاجرين غير النظاميين    عين دراهم: حملة واسعة للتصدي للانتصاب الفوضوي    سحر البُن.. وعبق الإبداع والفن    اختتام مشروع "البحر الأزرق هود"    زيارة وفد نيابي الى المركب الصحي بجبل الوسط: تراجع خدمات المركب بسبب صعوبات عدة منها نقص الموارد البشرية وضعف الميزانية والايرادات    ارتفاع لافت في مداخيل السياحة وتحويلات التونسيين بالخارج... مؤشرات إيجابية للاقتصاد الوطني    عاجل : أزمة جديدة تلاحق محمد رمضان    ارتفاع درجات الحرارة يسبب صداعًا مزمنًا لدى التونسيين    وائل نوار: الرهان المستقبلي لقافلة الصمود حشد مئات الآلاف والتوجه مجددا لكسر الحصار    حماية المستهلك والتجارة الإلكترونية: تذكير بالقواعد من قبل وزارة التجارة وتنمية الصادرات    وزير السياحة يؤدي زيارة إلى ولاية جندوبة    إزالة مخيم ''العشي'' للمهاجرين في العامرة..التفاصيل    منصّة "نجدة" تساعد في انقاذ 5 مرضى من جلطات حادّة.. #خبر_عاجل    منتدى الحقوق الاقتصادية يطالب بإصلاح المنظومة القانونية وإيجاد بدائل إيواء آمنة تحفظ كرامة اللاجئين وطالبي اللجوء    بداية من 172 ألف دينار : Cupra Terramar أخيرا في تونس ....كل ما تريد معرفته    عاجل: القلق الإسرائيلي يتصاعد بسبب تأجيل القرار الأميركي بشأن الحرب على إيران    صلاح وماك أليستر ضمن ستة مرشحين لجائزة أفضل لاعب من رابطة المحترفين في إنقلترا    وزير الإقتصاد في المنتدى الإقتصادى الدولي بسان بيترسبورغ.    "ليني أفريكو" لمروان لبيب يفوز بجائزة أفضل إخراج ضمن الدورة 13 للمهرجان الدولي للفيلم بالداخلة    من مكة إلى المدينة... لماذا يحتفل التونسيون برأس السنة الهجرية؟    عاجل: اتحاد الشغل يطالب بفتح مفاوضات اجتماعية جديدة في القطاعين العام والوظيفة العمومية    بلومبيرغ: إيران تخترق كاميرات المراقبة المنزلية للتجسّس داخل إسرائيل    ''التوانسة'' على موعد مع موجة حرّ جديدة في هذا التاريخ بعد أمطار جوان الغزيرة    كأس العالم للأندية: الترجي الرياضي يواجه الليلة لوس أنجلوس الأمريكي    بطولة برلين للتنس: أنس جابر توانجه اليوم التشيكية "فوندروسوفا"    ميسي يقود إنتر ميامي لفوز مثير على بورتو في كأس العالم للأندية    روسيا تحذّر أمريكا: "لا تعبثوا بالنار النووية"    صاروخ إيراني يضرب بئر السبع وفشل تام للقبة الحديدية...''شنو صار''؟    عاجل/ طهران ترفض التفاوض مع واشنطن    طقس اليوم: أمطار بهذه المناطق والحرارة في ارتفاع طفيف    تقص الدلاع والبطيخ من غير ما تغسلو؟ هاو شنو ينجم يصير لجسمك    ما تستهينش ''بالذبانة''... أنواع تلدغ وتنقل جراثيم خطيرة    الأوركسترا السيمفوني التونسي يحتفي بالموسيقى بمناسبة العيد العالمي للموسيقى    بالفيديو: رئيس الجمهورية يشرف على اجتماع مجلس الوزراء...التفاصيل    ملف الأسبوع...ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ تَدَبُّرِ القُرْآنِ الْكَرِيِمِ...وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ    شارع القناص ...فسحة العين والأذن يؤمّنها الهادي السنوسي .. الثقافة وهواة اللقمة الباردة : دعم ومدعوم وما بينهما معدوم.. وأهل الجود والكرم غارقون في «سابع نوم»!    موسم الحبوب: تجميع4.572 مليون قنطار إلى غاية 18 جوان 2025    خطبة الجمعة... ذكر الله في السراء والضراء    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    وفاة أول مذيعة طقس في العالم عن عمر يناهز 76 عاما    أمطار أحيانا غزيرة ليل الخميس    بعد 9 سنوات.. شيرين تعود إلى لقاء جمهور "مهرجان موازين"    اطلاق بطاقات مسبقة الدفع بداية من 22 جوان 2025 لاستخلاص مآوي السيارات بمطار تونس قرطاج الدولي    وفاة 5 أعوان في حادث مرور: الحرس الوطني يكشف التفاصيل.. #خبر_عاجل    قرابة 33 ألفا و500 تلميذ يشرعون في اجتياز امتحان شهادة ختم التعليم الأساسي العام والتقني دورة 2025    أمل جديد لمرضى البروستات: علاج دون جراحة في مستشفى الرابطة.. #خبر_عاجل    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد المجيد الشرفي : إسلام البترول ليس من مصلحته أن تنجح الديمقراطيّة في العالم العربيّ !
نشر في حقائق أون لاين يوم 20 - 07 - 2013

داخل حقل الدراسات الإسلاميّة والحضاريّة، انطلق الأستاذ عبد المجيد الشرفيّ في بناء مشروعه الفكريّ من تشخيص أوّلي مفاده أنّ الإسلام التقليديّ قد فقد قدرا كبيرا من قيمته التفسيريّة للكون، وأنّ المسلم الذي يعيش مع القرآن وضعا تأويليّا مستمرّا صارت حاجتُه، اليوم، ماسّة إلى تحيين الرسالة القرآنيّة بحسب مقتضيات الحداثة.
ضمن هذا الأفق، تنزّلت الرهانات التحديثيّة والتنويريّة في مشروع المفكّر عبد المجيد الشرفيّ. وهي رهانات تشتغل على تاريخيّة النصّ التأسيسيّ وما سيّجه من نصوص تفسيريّة وحديثيّة وفقهيّة وأصوليّة وكلاميّة. والغاية من كلّ ذلك هي نفسها الغاية من كلّ جهد نقديّ ينصبّ على تحديث الفكر الدينيّ: قراءة تحاول أن تخترق الطبقات التأويليّة التاريخيّة من أجل الخلوص إلى روح الإسلام ومقاصده الأساسيّة.
مدار الحديث مع عبد المجيد الشرفي كان على محوريْن، آنيّ وزمانيّ. ولذلك، فقد امتدّ ليشمل قراءته للشأن الجاري كالربيع العربيّ الذي يؤول "خراجه" إلى حجر الإسلامويّين، واستشرافه لآفاق هذه التجربة في تونس وفي المنطقة وغير ذلك من المواضيع..
وفي ما يلي نص الحوار كاملا:
- الأستاذ عبد المجيد الشرفي باعتبار أنّك من أهمّ المشتغلين في حقل الإسلاميّات الذين راكموا رصيدا بحثيّا مهمّا في الموضوع ربا على عشرات العناوين من الكتب والدراسات، هل المهمّة التي ندبتَ إليها أعمالك هي تجديد الفكر الإسلاميّ أم تحديثه على ما بين التجديد والتحديث من فرق؟
- أنا من القائلين بالتحديث لا بالتجديد. أقول ذلك لأنّ المسألة لا تتعلّق بجديد، والجديد ليس كلّه حسنا كما أنّ القديم ليس كلّه سيّئا. أقصد بالتحديث الانخراط في أنماط من السلوك مرتبط بالمدّ الحضاريّ.
ألحّ على المقتضيات المعرفيّة لأنّ القيم التي يستند إليها التديّن التقليديّ لا تعترف بقيمة الفرد ولا تؤمن بالحرّية ولا بالمساواة. هذه ركائز الحداثة الثلاث. وبما أنّ التديّن التقليديّ هو قراءة للنصوص التأسيسيّة فتحديث الفكر الدينيّ هو قراءة أخرى مخالفة، ولكنّها تسعى لأن تكون وفيّة لروح الإسلام ولمقاصده الأساسيّة.
- من المسائل المطروحة على من تصدّى للاشتغال على تحديث الفكر الدينيّ في المجال الإسلاميّ أنْ يميّز قراءته للنصّ التأسيسيّ عن قراءة ذوي الفهوم التقليديّة. وفاء لروح الإسلام ومقاصده الكبرى، ميّز بعض المجدّدين وأخصّ بالذكر المفكّر السوداني محمد محمود طه (الذي أعدمه نظام النميري- الترابي سنة 1985) بين رسالة عامّة كان مجالها مكّة، ورسالة خاصّة مناسبة لأوضاع القرن السادس الميلاديّ داخل المدينة. وخلص إلى أنّه من الوجيه اليوم استحضار الرسالة العامّة في الإسلام لا الخاصّة.. هل توافق هذا التمييز وما يترتّب عليه من نتائج؟
- كنت قد عبّرت عن موقفي من محمّد محمود طه في كتابي "الإسلام بين الرسالة والتاريخ". وقلتُ إنّي لا أميّز بين القرآن المكّي والقرآن المدنيّ، وإنّي أعتبر أنّ هناك تواصلاً في الرسالة المحمّديّة، ولكنْ هناك في الآن نفسه أخذ الظروف الخصوصيّة للمجتمع المدنيّ بعين الاعتبار. ولهذا، فهناك تطوّر من هذه الناحية، بينما تركّزت أطروحة محمد محمود طه على القطيعة. هذا ما أختلف فيه معه. ولهذا، على المسلم، اليوم، أنْ يتبيّن ما في النصّ القرآني كلّه لا فقط في ما نزل بمكّة، وأنْ يميّز فيه بين ما هو ظرفيّ وما هو من أسس الدين. وأسُس الدين العقديّة والأخلاقيّة في نظري لم تتغيّر. ولهذا السبب، فإنّ القراءة التحديثيّة هي قراءة تحاول أن تخترق الطبقات التأويليّة التاريخيّة لتتوصّل إلى ما قصده القرآن حتّى من خلال اعتباره للظروف الخاصّة بالمجموعة الإسلاميّة الأولى.
المشكل هو أنّ أغلب المسلمين حين يقرؤون القرآن يقرؤونه عبر هذه التأويلات التاريخيّة، فلا يقومون بهذا المجهود الذي يخترق تلك الطبقات التأويليّة. وهذا يمكن التأكّد منه من خلال عديد الأمثلة. على سبيل المثال مفهوم الزكاة الذي هو مفهوم جوهريّ موجود في القرآن المكّي (الحديث عن الصدقة والإحسان إلى الفقير)، وفي الإسلام المدنيّ على حدّ السواء. المفهوم هو هو. ما أتى به الإسلام من جديد هو أنّ للفقراء حقّا في مال الأغنياء. وهذه ثورة كبرى هي التي تعكسها، اليوم، الضرائب التي تفرضها الدولة على الأغنياء. ما هو نصيب المال الذي يستدعي الزكاة؟ كيف توزّع هذه الزكاة؟ ما هي الوجوه التي تصرف فيها؟ إلى غير ذلك.
هذه تراعي الظروف التاريخيّة ولكنّها ليست الجوهر. من خلال هذا المثال نرى أنّ هناك تواصلاً في هذا المبدإ من القرآن المكّي إلى القرآن المدنيّ. ونلاحظ في الآن نفسه أنّ هذا المبدأ قابل لأنْ يطبّق في عصرنا بطرق تختلف عن الطرق التي تمّ اتّباعها في القديم. هذا مثال من الأمثلة. وهو ما يجعلني لا أميّز بين إسلام مكّي وإسلام مدنيّ، وإنّما أميّز بين المبادئ والأحكام الظرفيّة.
- كان الطاهر الحدّاد قد ميّز، مبكّرا، بين ما جاء به الإسلام وما جاء من أجله. وبيّن وجاهة الأخذ بمقاصد الإسلام أو المقاصد التي جاء من أجلها الإسلام. الرأي ذاته ما ذهب إليه الشيخ الطاهر بن عاشور حين جعل من الحرّية رأس تلك المقاصد. فهل يمكن، بمعنى ما، أنْ ندرج هذا الفكر المقاصديّ في الإسلام ضمن حركة الإصلاح الدينيّ؟
-موقفي هو غيرُ موقف الطاهر الحدّاد. الحدّاد كان داعيةً إلى هذا التمييز بين ما جاء من أجله الإسلام وما جاء به من أحكام. موقفي هو موقف المؤرّخ لا موقف الداعية. وهو ينبع، كذلك، من نظرة مقارنيّة إلى تاريخ الأديان. فأنا لا أدعو إلى أنْ يتبع قرّائي ما أفسّره وما أفهمه من النصّ القرآنيّ أو من الدين عموما. ما أحاوله هو أنْ أكشف ما هو مغيّبٌ في الضمير الإسلاميّ وأحاول أنْ أعين المسلم المعاصر على الوعي بالمآزق التي يؤدّي إليها الفهم التقليديّ.
وبصرف النظر عن هذا الفرق بين موقف المصلح وموقف الباحث المؤرّخ فمن الواضح أنّ هذا الفهم المقاصديّ هو، كما قلتُ، أكثر انسجاما مع المقتضيات المعرفيّة والحضاريّة المعيشة.
- لا يبدو، إلى حدّ الآن، أنّ محاولات الإصلاح الدينيّ في المجال الإسلاميّ بما فيها جهود محمّد إقبال ومحمّد أركون وفضل الرحمان ومحمّد محمود طه وغيرهم قد أثمرت مراجعات جوهريّة تجعل من الإسلام صالحا لهذا العصر. هل إنّ الإسلام عصيّ على الحداثة؟
- الجواب بكلّ تأكيد هو لا. ليس هناك تنافرٌ بين الإسلام والحداثة لأنّهما مفهومان ينتميان إلى حقليْن مختلفيْن كلّ الاختلاف. الإسلام دينٌ أي إنّه مجموعة عقائد وسلوكات. والحداثة نمط حضاريّ هو النمط الموجود في عصرنا رغم أنّ هناك من يعتبر أنّنا نعيش ما بعد الحداثة. أعني بالحداثة ذلك النمط الذي نشأ في الغرب، وأصبح، الآن، كونيّا. هذا النمط الحضاريّ يمكن أن يوجَد لدى المسلمين ولدى المسيحيّين ولدى اليهود ولدى البوذيّين ولدى الهندوسيّين لأنّه لا يمسّ العقائد والسلوكات التي يقوم عليها الدين، وإنّما هو يمسّ أنماطا من التديّن لا تقرّ، مثلاً، بمنزلة الفرد، أو لا تقرّ بحرّية الإنسان، أو لا تؤمن بالمساواة. ولا أظنّ أنّ في الإسلام – بصفته دينا لا بصفته تاريخا – ما يتعارض مع هذه القيم التي قامت عليها الحداثة. التعارض موجود ولا بدّ من الإقرار به، ولكنْ هو تعارض بين فُهوم مختلفة للإسلام. تعارض بين فُهوم تاريخيّة وفُهوم تعطي للعقل، مثلا، مكانة لم تكن له دائما في القديم، وتعترف للمرأة بمنزلة مساوية للرجل لم يكن معترفا لها بها في كلّ الحضارات القديمة. هذه القيم التي يمكن أنْ نسمّيها حداثيّة هي في الواقع مستمدّة من تراكم للتجربة البشريّة، وفي الآن نفسه متجاوزة لهذه التجربة التاريخيّة.
إذن، يصعب على من يتشبّث بالقيم التقليديّة أنْ يوفّق بينها وبين الحداثة. لكنْ يمكن للإنسان أنْ يبقى مسلما وأنْ يتبنّى هذه القيم الحداثيّة. وهذا هو سبب موقفي من عدم التنافر بين الأمريْن.
- يبدو أنّ خراج هذا "الربيع العربيّ" قد آل إلى حجر الإسلامويّين، كما يبدو أنّ مطالب المنتفضين والمحتجّين المدنيّة والحيويّة قد غطّت عليها، الآن، المطالب الهوويّة والاستيهاميّة. كيف تفسّر ذلك؟ (المقابلة كانت قبل التطوّرات الأخيرة في مصر)
- هذه الظاهرة ليست غريبة إذا ما قارنّاها بسائر الثورات عبر التاريخ. الأمثلة عديدة على أنّ الثورات تعوقها الثورات المضادّة. وهذا الانحراف عن المبادئ التي نادت بها الثورة أمر طبيعيّ غير مستغرب، وإنْ لم تكنْ بالضرورة أمرا محتّما. ولكنْ رغم ذلك فقد أحدث الربيع العربيّ في ضمير المواطنين رجّةً لا بدّ أنْ تظهر آثارها على المدى المتوسّط والبعيد. فلأوّل مرّة في التاريخ العربيّ يكون للإرادة الشعبيّة قدرة على طرد حاكم مستبدّ. ولذلك فلا يمكن رغم كلّ المحاولات أنْ تقبل هذه الشعوب في المستقبل بعودة الاستبداد وإنكار حقّ الشعوب في الممارسة الديمقراطيّة. بعبارة أخرى، لا ينبغي أنْ نقيس صعوبات الواقع إلاّ على ضوء المدى التاريخيّ الطويل. أمّا على المدى القصير فالمسألة رهينة موازين القوى في المجتمع لا أكثر ولا أقلّ. ينبغي أنْ لا نغترّ بالخطابات لأنّ الواقع أصلب من الخطاب.
- عرّى زلزال الرابع عشر من جانفي 2011 طبقات التحديث والعصرنة في تونس. وقدّمت انتخابات 23 أكتوبر 2011 وعمليّات سبر الآراء التي أعقبتها تشخيصا تقريبيّا لحال المجتمع التونسيّ وبُناه السياسيّة والفكريّة حجبته عنّا أوهامنا التحديثيّة في التعليم والثقافة على وجه الخصوص. فأين ترى – أستاذ الشرفيّ – مواطن الخلل والخطإ المعلّقة على مشاريع الإصلاح الدينيّ والتحديث الفكريّ وقد كنتَ من الخائضين فيهما طيلة العقود الأخيرة؟
- كتبتُ في ثمانينات القرن الماضي أو في بداية التسعينات فصلا اعتبرت فيه أنّ الإسلامويّين هم ضحايا التحديث المنقوص بقدر ما هم أعداؤه. وأظنّ أنّ تحليلي هذا هو الذي أكّدته الأحداث التي عشناها منذ الثورة.
التحديث المنقوص تجلّى في هذا التفاوت بين الجهات، وكذلك في التراجع المأسويّ في برامج التعليم وفي هياكله بصفة عامّة منذ السبعينات. لقد تخرّجت من صلب نظامنا التعليمي منذ ذلك الوقت أجيال يغلب عليها التفكير الجماعيّ، ولم تدرّبْ على التفكير الحرّ، ولم تتشبّع بالحسّ النقديّ. وهذه هي الأرضيّة التي كانت مهيّئِةً لصعود الإسلام السياسيّ إلى الحكم. هذه نقائص في العمليّة التحديثيّة التي عاشتها تونس لا يمكن إنكارها. ولكن التحديث الذي عاشته تونس عرف، كذلك وفي الآن نفسه، نجاحات هي التي تبعث على التفاؤل. من هذه النجاحات مجلّة الأحوال الشخصيّة وسياسة التنظيم العائليّ وارتفاع مستوى الدخل، وحركة تصنيعيّة هامّة، وازدياد معدّل الأمل في الحياة، والقضاء على عدد من الأوبئة والأمراض الفتّاكة التي كانت تنخر المجتمع التونسيّ قبل الاستقلال.
هذه النجاحات تتعلّق لا بالظواهر العرضيّة فقط وإنّما بالبنى التي يقوم عليها المجتمع. ولذلك، فهي باقية حمّالة لأسباب التجاوز لتلك النقائص التي تحدّثنا عنها في البداية. على سبيل المثال، لا يمكن، اليوم، العودة إلى الأسرة البطريركيّة التقليديّة. ولا يمكن رغم ما نسمعه من دعوات إلى العودة بالمرأة إلى الوضعيّة الدونيّة التي كانت عليها. ولا يمكن لتونس أنْ تنغلق على العالم من حولنا، أي على عكس الخطاب الهووي الذي ذكرتَه منذ حين. وكلّ هذه عوامل لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار لتحليل هذه القوى الموجودة في المجتمع والتي لا يمكن أنْ تتمّ فيها الغلبة في النهاية للقوى الماضويّة أو قوى الردّة رغم كلّ الصعوبات.
- الظاهرة السلفيّة بمختلف درجات تعبيرها تهدّد بحرف عجلة الانتقال عن مسارها في تونس وسائر دول "الربيع العربيّ". هل يمكن الحديث عن إحداثيّات أفرزت هذه الظاهرة، وما هو مستقبلها في المدى المنظور؟
- الظاهرة السلفيّة لا يمكن تفسيرها بمعزل عن القوى التي تدعمها أي ما يسمّى "إسلام البترول". و"إسلام البترول" ليس من مصلحته أن تنجح الديمقراطيّة في أيّ نظام من الأنظمة العربيّة القائمة. ولذلك، فهذا التيّار الذي هو هامشيّ اجتماعيّا والذي هو ظاهرة إعلاميّة أكثر منه ظاهرة مجتمعيّة واسعة مشكلته الأساسيّة هي عدم الوعي بأنّه يخدم المصالح المناوئة للعرب والمسلمين عامّة. ولنقلها بصراحة إنّ التيّارات السلفيّة تنخرط عن غير وعي في تطبيق المخطّطات الإسرائيليّة والإمبرياليّة التي تريد أنْ يهتمّ المسلمون بإطلاق اللّحية أو حلقها، وبتغطية شعر المرأة من عدمه عوض أنْ يهتمّوا بخلق الظروف التي تسمح لهم بالإسهام في المنجزات الحضاريّة المعاصرة التي هي منجزات علميّة وتكنولوجيّة لا تعترف بأنّ هناك حدودا للمعرفة، وتقرّ بقيم أساسيّة من أبرزها المبادرة ونبذ التقليد وتحمّل المسؤوليّة الفرديّة لا الجماعيّة. وهكذا، يكون هذا التيّار مجدّفا ضدّ حركة التاريخ، ويمكن أن يعرقلها إلى حدّ ما، لكنّه لم ولن يستطيع إيقافها.
- تركّزت الاستعراضات الشعبويّة ذات الغطاء الدينيّ على أهداف رمزيّة مخصوصة. شهدنا غزوات ضدّ السينما وبعض العروض المسرحيّة والندوات الفكريّة. وعشنا اعتصامات في كلّيات الآداب والفنون بمنّوبة وسوسة والقيروان. وتابعنا غزوة ضدّ الأعمال الفنّية في معرض "العبدليّة". وفي أثناء ذلك كلّه عشنا ومازلنا نعيش حملات تخوين وشحن وتجييش ضدّ الفنّانين والنخب والمثقفين؟
ما هي الدلالات المستخلصة من هذه الأهداف في علاقة بتيّار وصفتًه، منذ حين، بالهامشيّ ومحدود التأثير؟
- أكاد أقول إنّ هذه المواقف منتظرةٌ لأنّ أصحابها قد غاب عنهم هذا الوعي الذي كنتُ أتحدّث عنه، ولأنّ مجال العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة يقوم على حرّية البحث وعلى الإضافة كما أنّ ميدان الفنون بصفة عامّة يقوم على الحرّية وعلى نكران الضوابط الأخلاقويّة. فتصدّى التيّار السلفيّ لهذه الحرّية في مختلف تجلّياتها إنّما هو من طبيعة الأمور. لكنْ في المقابل فإنّ تصدّي المجتمع المدنيّ لهذه المواقف كان تصدّيا لافتا بل أقول إنّه نجح في إفشال هذه الدعوات إلى الحدّ من الحرّية. كلّ هذا يؤكّد أنّه إنْ لم تكن هناك حتميّة تاريخيّة فهناك على الأقلّ قواعد عامّة تسير حسبها المجتمعات. وهذه القواعد العامّة التي يسير حسبها المجتمع التونسيّ لا يمكن أنْ تسمح للظاهرة السلفيّة بأنْ تتجاوز حدودها الهامشيّة. فلن تستطيع هذه الظاهرة، إذن، أنْ تحتلّ وسط الميدان وأنْ تتحكّم في توجّه المجتمع كلّه.
- هل يمكن المراهنة – باعتبار مقتضيات الحكم وإكراهاته – على مراجعات جذريّة في صلب حركات الإسلام السياسيّ؟
- المراجعات سبيل القائلين بمعقوليّة الفكر والسياسة. في موضوع الحركات الدينيّة بوجهيها الدعويّ والسياسيّ لم تقع أيّة مراجعات مهمّة، ناهيك أنّ هذه الجماعات تعيش حالة يُتْم منذ رحيل سيّد قطب الوحيد الذي يمكن أن نطلق عليه صفة المفكّر بين رموز هذه التيّارات. وعسر هذه المراجعات، بالأساس، يعود إلى أنّ هذه الحركات تأسّست على نمط الجماعات الفاشيّة. وللعلم فحركة "الإخوان المسلمين" تأسّست في الوقت ذاته الذي نشأت فيه النازيّة والفاشيّة في أوروبّا. المشترك بين الفاشيّة وبين هذه الحركات أو الجماعات يمكن تلخيصه في ثلاث سمات: السمة الأولى تقديس الزعيم وتنزيهه، فالزعيم لا يخطئ ولا ينطق عن هوى. السمة الثانية هي الشعبويّة، فهذه الحركات تساير الرأي العامّ، وتدغدغ عواطف الجمهور. والسمة الثالثة هي الانضباط الكامل. من هنا تفسير الطاعة العمياء للقيادات والانصياع التامّ للقرارات والأوامر دون تفكير أو مناقشة.
- صرنا في المدّة الأخيرة بصدد مقايضة غريبة بين الجامع والجامعة. جامعيّون تونسيّون يشدّون الرحال إلى دول الخليج وتخصيصا إلى المملكة العربيّة السعوديّة للعمل في مؤسّسات التعليم العالي فيها، وفي المقابل تشدّ وفود من مشايخ الوهابيّة الرحال إلينا. هل نحن بصدد مقايضة العلماء بالدعاة، وهل تستجيب هذه المقايضة إلى سوق العرض والطلب؟
- أظنّ أنّ هذه "الظاهرة" هي التي تسمح لنا بالتمييز بين القوى الفاعلة في المجتمع، وتمكّننا من معرفة وزن هذه القوى. ففي دول الخليج كذلك – إلى جانب الأيديولوجيا الرسميّة بما فيها الوهابيّة – قوى تسعى إلى التحديث وإلى التقدّم، ولذلك فهي تستنجد بالكفاءات التونسيّة وغير التونسيّة. كما أنّ في تونس قوى معاكسة للتيّار الذي يسير فيه المجتمع وتسعى إلى العودة به إلى نظام مثاليّ متخيّل، ولذا فهي تجلب هؤلاء الدعاة.
في كلتا الحالتيْن، يمكن أن نستشفّ قيمة هؤلاء و أولئك ومن هو الذي من الفريقيْن يبني و من يهدم.
- بخصوص الجامعة والجامع، يدور في تونس منذ أشهر حديث عن "عودة التعليم الزيتونيّ الأصليّ". وهو حديث مصحوب بخطوات عمليّة في تركيز "مؤسّسات" هذا التعليم انطلاقا من جامع الزيتونة ووصولا إلى فروعه بالجهات. هذه العودة الإشكاليّة زادها ريبة وغموضا التسرّب الوهابيّ في مسالك التعليم الدينيّ الموازي من خلال استثماراته بالوكالة في رياض الأطفال ومدارس النشء "القرآنية" و"الإسلاميّة".. ماذا تقول – أستاذ الشرفي – عن هذه العودة، وهل هي عودة ممكنة؟ وما هي المحاذير المحتملة من انتشار هذا التعليم الديني الموازي؟
- هذا التعليم ليس له من الزيتونيّ إلاّ الاسم. إنّ الزيتونة قد قامت بدور رياديّ في عصرها، ثمّ تقلّص هذا الدور مع نشوء حاجات جديدة وعقليّات جديدة وظروف جديدة. وكان الطلبة الزيتونيّون هم أوّل الواعين بهذا الانحدار الذي عاشته هذه المؤسّسة العريقة والذي كان مشائخ الزيتونة، بدعم غير مباشر من السلط الاستعماريّة، مسؤولين إلى حدّ كبير عن العجز عن تلافي ذلك الانحدار. ولهذا، فما نشهده، اليوم، لا صلة له بتاريخ تونس وتاريخ التعليم الدينيّ فيها. هذه "العودة" هي أحد إفرازات القوى الماليّة التي تتوفّر لأنظمة الخليج والتي تسعى من خلالها إلى بسط هيمنتها. ولكنْ أنا على يقين من أنّ هذه المساعي لن تجد في تونس المناخ الملائم لكيْ تعمّ فيه وتنتشر على نطاق واسع.
لنعتبرْ أنّها تمثّل موقف الهامشيّين على غرار كلّ الظواهر الهامشيّة الأخرى التي توجد في المجتمع، ولكنّها ليست هي التي توجّهه في بناه الأساسيّة، وفي توجّهاته العامّة.
- أستاذ الشرفي، في إجاباتك على الإشكاليّات القلقة في الشأن الجاري تفاؤل يقترب من درجة الاطمئنان. بالرغم من دقّة المرحلة التي يجتازها التونسيّون اليوم فإنّك تبدو على درجة من التفاؤل والإيمان بأنّ التهديدات المحدقة بالبلاد ليس لها أثرٌ في العمق، وأنّ لا مستقبل للتعبيرات النكوصيّة والماضويّة..
- قلتُ بأنّ التيّارات السلفيّة من التيّارات الهامشيّة. وذكرت لك أنّ الظاهرة السلفيّة لا تفهم بمعزل عن "إسلام البترول". ولكنْ، في بلاد ليس فيها ثروات نفطيّة، ويقوم فيها دخل الدولة على دافعي الضرائب بالأساس سيكون للشعب الكلمة الفصل. في تونس خصوصا، يمكن الحديث عن مقاومة جدّية لظواهر النكوص بسبب من عامليْن : وجود طبقة وسطى متماسكة نوعا ما، وتوفّر وعي مواطنيّ يميل إلى الانفتاح والاعتدال والتسامح. لهذا ولغيره، لن يكون لهذه التعبيرات الماضويّة مستقبل أو آفاق علي المدى المتوسّط وعلى المدى البعيد.
باذن من الاستاذ مختار الخلفاوي ننشر حواره مع الدكتور عبد المجيد الشرفي الذي نشر في مجلة الفكرية الفصلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.