يبدو السؤال للوهلة الأولى غير ذي معنى بل مستفزّا وصادما الى أبعد الحدود ذلك أن طَرْحه بهاته الطريقة المجرّدة قد توحي بأن كاتب هذه الأسطر من الذين يستكثرون على أنفسهم حقا بديهيا وحتميّا لا يمكن بأي حال من الأحوال نكرانه أو التشكيك فيه. بيد أنه، وبعيدا عن لغة الشعارات الجوفاء والمزايدات التي لا نفع لها، واذا تمعنا مليّا في واقعنا الإعلامي وما يشهده قطاع الصّحافة في بلادنا من تغيرات وتحوّلات جذريّة سيصبح هذا الطرح ضرورة ملحّة بل وحتميّة قصوى لا مفرّ منها. من نافلة القول أن ما حققته صحافتنا من مكاسب منذ سقوط النظام السابق، العدو الأوّل والدّابة السوداء للاعلاميين ولحرية الصحافة، عاد بالنفع والفائدة على جميع الصحفييّن تقريبا باستثناء أولئك الذين تربّوا وترعرعوا على الخطابات التمجيدبة والتهليلية والذين نرى منهم رهطا مازال يصارع الى هذه اللحظة خلف حصون مترهّلة. ولا نبالغ اذا جزمنا أن المكسب الأكبر بل الأوحد من هذه الثورة هو الحرّية بمختلف تجلّياتها بما فيها حرّية الصحافة والإعلام. غير أن هذا المفهوم، أي الحرية في معناها الشامل ، اصبح كحصان طروادة. فقد أباح الكثير من الاعلاميين لانفسهم، وتحت مسمّى الحرية ممارسات يتجاوز مداها سقف الأخلاق والمبادئ أحيانا لتهوى مدوية في الابتذال والانحطاط، والامثلة هنا كثيرة لعل ابرزها ما نراه على بعض شاشاتنا التلفزية من تسويق لقيم الرداءة والتفاهة والميوعة والانحطاط الأخلاقي. كما أن هذا الهامش الكبير من الحرّية الذي نتمتع به اليوم والذي لا يمكن بأي حال من الاحوال التفريط فيه أو حتى التراجع عنه قيد أنملة، جعل من البعض يتوهمون أنه يحقّ لهم الخوض في مواضيع حارقة تمس من أمن العباد والبلاد كموضوع الإرهاب مثلا، بطريقة خرقاء ومزرية ومستفزّة وجارحة لمشاعر الناس. البعض من أصحاب الحوانيت الاعلامية ومرتزقة الصحافة جعلوا من بيوت الدعارة الاعلامية التي يديرونها غرف عمليات للتمجيد والتهليل للارهابيين وأصبحوا شركاء مميّزين لتجّار الموت وعرّابي الفتنة والخراب. بعض المواقع الالكترونيّة تصول وتجول بلا حسيب ولا رقيب مستغلّة حالة الفراغ التّشريعي والقانوني، ديدنها هتك الأعراض والقدح في ذمم الناس ونشر الزّور والبهتان والافتراء على الشّرفاء من أبناء هذا الوطن باسم حريّة التعبير والصّحافة والحرّية منهم براء، كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب. وجود هذه الأبواق التي تصدع بالكذب والصفاقة وتمتهن الثلب والسب وهذه الأصوات الناعقة بالخراب والمؤذنة بوجود حالة من الترهل الأخلاقي والقيمي في جزء من قطاع الإعلام في بلادنا والمكانة التي أصبحت تحظى بها لدى جزء من الرأي العام في بلادنا رغم رداءتها، يجعلنا ندقّ نواقيس الخطر حيال هذا الخطر الداهم . بالمحصلة، لا معنى للحرية إذا لم تكن “مقيّدة” بضوابط ونواميس تحكم مداها وهامش تحرّكاتها. فلا معنى للضّوء في غياب الظّلمة. لا نروم من خلال هذه الكلمات الإقرار بضرورة تقييد الحرّية، حاشا وكلّا، ولكن بات من الضروري اليوم أن نجد المعادلة المناسبة التي تضمن الحرّية التي هي في معناها الشامل شرط وهدف للوجود، وتجنّبنا الانزلاق في مستنقع الانفلاتات الإعلامية التي اصبحت أكثر من ان تحصى أو تُعدَّ. الحريّة مهما كانت تجلّياتها وميادينها، هي قدر جماعي وفردي، هكذا يقول البعض، غير أن حياة الأفراد والجماعات وحرّيتهم وحقوقهم علينا تقتضي أن نلتزم بالضوابط التي تحدّد مدى هذه الحرية. فلا معنى للحرّية إذا كانت تحقق حالة استلاب للآخر وتجعل منه ضحيّة لهذه القيمة الوجوديّة. حرّية الصّحافة، التي جعل لها العالم كله عيدا يُحتَفى به في الثالث من ماي من كل سنة، لا يجب أن تبقى مجرّد شعارات ومناسبة احتفالية تنشر فيها التقارير وتٌوَزَّعُ فيها الجوائز دون الخوض بصفة جدّية وعمليّة في كُنْهِ هذه القيمة الوجوديّة ومدى تفاعلها مع ما يحدث من تغيّرات وتحوّلات جذريّة تعيش على وقْعها مجتمعاتنا التي مازالت إلى حد الآن، وللأسف الشديد، تنظر الى مثل هذه المفاهيم بعين الرّيبة حينا والأمل حينا آخر.