مع اقتراب مؤتمر حركة النهضة العاشر تعدّدت القراءات وتنوّعت التحليلات في تناول قضايا الحركة وما يخبئه لها المستقبل. النهضة التي تحوّلت بفضل الثورة من حركة سريّة معارضة إلى حزب سياسي حاكم تخوض مؤتمراتها المحليّة والجهويّة وقد تعلّقت بها أسئلة عديدة، كما تتعلّق بها أمال كبيرة من طرف أنصار "ما بعد الإسلام السياسي التقليدي" أو ما يمكن تسميتهم بالمحافظين الديمقراطيين وغيرهم من أنصار الديمقراطية في العالم. تحوّلات كبيرة عاشها هذا الكيان المخضرم في هذه السنوات كان بإمكانها أن تودي به، سواءا على مستوى مواقع الفعل أو على مستوى الممارسة والخطاب. تختلف النهضة في طبيعة نشأتها وتكوينها عن باقي الأحزاب، فهي التي انطلقت جماعة دعويّة، ثمّ حركة سياسيّة اجتماعيّة معارضة حتى بلغت الآن ماهي عليه من التعقيد. ما يُحسب لحركة النهضة أنّها رغم كلّ ما تعانيه من جراح وما تحمله من هموم داخليّة حارقة إلاّ أنّها كانت صمّام أمان في مرحلة الانتقال الديمقراطي التونسي. مع العلم أنّ إسهامها في تحقيق التوازن الوطني كان على حساب توازنات الجسم الداخلية في اغلب الأحيان. وبقدر ما ساهمت هذه التضحيات في تطبيع صورة النهضة مع الدولة نسبيا والمجتمع بشكل أكبر إلاّ أنّها تشكّل محور الحديث والتجاذب في داخلها. فإمّا أن يكون هذا المؤتمر خطوة للأمام نحو مزيد الإصلاح والعصرنة أو خطوتين للوراء. ففي الوقت الذي تعيش فيه حركات الاسلام السياسي حالة من الانحسار بسبب الارتدادات الثوريّة استطاعت حركة النّهضة أن تستفيد من دروس التجارب الأخرى وتتجنّب الفخاخ التي نصبت لها. وحوّلت الضغوط المسلّطة عليها إلى فرص للتّطوير والتقدّم. لايخفى على أحد الجهد الكبير الذي لعبه راشد الغنوشي في رسم هذا المسار الاصلاحي على مستوى النهضة والمساهمة في إنقاذ التجربة التونسيّة ككلّ. لقد خاض الغنوشي مغامرة تنظيميّة صعبة تبيّنت ملامحها منذ 3 اوت 2013 أمام آلاف الحاضرين، حين خالف الهتافات المتصاعدة وأكّد على ضرورة المصالحة الوطنيّة من أجل المضيّ لبناء المستقبل وأيّد ذلك فيما بعد بإمضائه على وثيقة الحوار الوطني المتضمّنة كأحد شروطها خروج النهضة من الحكم وتكوين حكومة كفاءات وطنيّة. كان ذلك بديلا عن حالة من الفوضى والصّراع أنذرت بها الاعتصامات المتضاربة بباردو بالتزامن مع صعود الثورة المضادة في مصر وامتلاء رابعة والتحرير بالدّم. ليس يسيرا أن يخالف القائد المزاج الغالب على جلّ أبناءه وأنصاره. ولكن ليست كلّ القرارات السليمة تحظى بشعبيّة بالضرورة، والعبرة بالخواتيم. لم تنته تجربتنا التونسية الى برّ الأمان بعد ولكن هي فريدة من نوعها وهي نوبل للسّلام وهي تتقدّم رغم الصعوبات. بيّن الغنوشي أنّه رجل حكيم، اذ أنقذ تونس وأبناءه أساسا من "هولوكوست جديد" وفتح لهم أبواب الدّولة وجعل من التوافق عنوانا للنّهضة في زمن يسيطر فيه الإرهاب. بالتالي فإنّ أسئلة الدولة هي الاسئلة الحقيقيّة لحركة النهضة بما يعزّز من شروط مواصلة تهيئة الجسم ليكون الأمثل في خدمة النّاس ونفعهم متجاوزا لشعارات التنديد والمعارضة. لقد وضع الغنوشي قطار النهضة على سكّة الإصلاح ولكن عدم تحوّل المواقف والممارسة السياسيّة الاصلاحيّة إلى وعي نهضوي عام مع هشاشة المرحلة السياسية التونسيّة يجعل الاستاذ راشد صمّام الأمان مع ضرورة تعزيز فريقه القيادي بعناصر نوعيّة مؤمنة بافكاره التقدميّة تواصل المشوار من بعده. في لقاء مع رئيس الجمهوريّة الباجي القائد السبسي أسرّ لنا إعجابه بالأستاذ راشد وقال: عندي ثقة في الغنوشي وعلى النهضة أن لا تفرّط فيه. جزء كبير من النخبة والشعب إلى جانب الفاعلين الخارجيين في المشهد التونسي يعوّلون على حكمة الشيخ التي راكمها بعد تجربة عقود بين السجن والمنفى ويعتبرون الرّجل عنصر ثقة ورابط وصل بينهم والنهضة من خلال مواقفه الشجاعة وممارسته الرصينة. ممّا يجعل مسؤولية ابناءه تجاهه أكبر في هذا المؤتمر فهو لا يمثّل نفسه بقدر ما يمثلّ خطّ سياسي يحتاجه العالم العربي والاسلامي. بقدر ما تحتاج حركة النهضة إلى مزيد دعم مكتسبات التطوّر السياسي الحاصلة هذه السنوات الخمس فإنّ جزءا كبيرا من أنصار النهضة والمتابعين لها يعوّلون على حكمة الغنوشي وزعامته من أجل الدفع بعجلة التجديد في هذا المؤتمر وبناء هياكل عصريّة بقيادات شابّة تحقّق جاذبيّة الحزب ونجاعته كما تخرجه من دائرة الإتّهام. *رئيس منتدى الفكر السياسي والاقتصادي، و عضو بحركة النهضة.