في خضمّ جائحة الكورونا و تحت وقع قرار الحجْر الصحّي الشامل في سنة كبيسة بامتياز ، نعيش على وقع مشاعر متناقضة تتأرجحُ بين الملل و الأمل و بين هذه و تلك تمرّ الأيّام كئيبة متثاقلة لا ندْري معها إن كان اليوم ثلاثاء أو أحد ، لا همّ لنا غير متابعة عدّاد الفيروس ، إن تسارعت حركاتُه نحْزن و نغْتمّ ، إن تثاقلت نتفاءل و نبْتسم … التزاما بالحجْر أصبح مجالنا الحيويّ أمتارا معدودة داخل المنزل و حوله نُرتّب الأمتعة نُنظّفها و نُعيد تنظيمها مرارا و تكرارا ، هنا داخل بيوتنا لا رائحة تعلو على رائحة الصابون و الجفّال و المعقّمات إلى من استطاع إليها سبيلا ، أصبحنا نحتاطُ و نحْذر من أقرب النّاس إلينا ، لا نرْغبُ في زائر و إن كان قريبا عزيزا ، نتواصل مع الأهل و الأصدقاء عن بُعد ،مسافة الأمان مطلوبة بين الأنا و الآخر ، نكاد نشكّ في أنفسنا في ملابسنا ، في أحذيتنا ، في نقودنا و حوائجنا ، في خبز الخبّاز و كمّامة العطّار ، نخشى حرارة الجسم و نفزع للسّعال ، نشكّ حتّى في من مات موتا طبيعيّا هكذا ترانا نُكابد وضعيّة نفسيّة معقّدة لا حدود فاصلة فيها بين الملل و القلق و الذّعْر و لا فرق فيها بين الأب و ابنه ، فلا الأبقادر على الحماية و لا الطفل قادر على الفهم فالرجال جميعهم أطفال كما يُقال الملل أضنانا و القلق آذانا و الاعلام أعْيانا و فحش الغلاء استنْزف جُيوبنا و أدْمانا ، و المفارقة أنّ ما تبْنيه سلط الاشراف و المتابعة يهْدمه مخترقو الحجْر جهالة أو تحدّيا أو استهْتارا … هكذا نحن اليوم أذْن للمذياع و أخرى للعموم ، عيْن على التلفاز و أخرى على صفحات التواصل الاجتماعي ، ننام نوْم القطط بعد أن خلت الشوارع و أُغلقت المدارس و المساجد و المقاهي و تعطّلت شرايين الحياة الجماعيّة ، و قد زادنا اعلام الكوارث همّا على همّ و هو يقصفُنا بنْقُل صورالتدافع و اللّهفة و العراك و حتّى الاغارة على المؤن ، لتتناقلها وسائل اعلام أجنبيّة على نحو يكاد ينعتنا بالبربريّة ، اعلام اثباط العزائم هذا ، المسكون برفع نسب المشاهدة ، لا يتوانى عن التشكيك في نوايا و عزائم المسؤولين و رجال المرحلة بل لا يتردّد في عرض صناديق الموتى و طُرُق دفنهم ليرفع من منسوف خوف المتابع اضطرارا. من أين لنا أن نهدأ و الأخبار تتواتر متضاربة متناقضة بعضها يُكذّبُ بعضا ، نطمئنّ قليلا حين يُقال لنا إنّ الحجْر سيُرفع قريبا و الجائحة إلى زوال و نفزع كثيرا حين يُقال إنّ الأمر يتطلّب أسابيع فنتيهُ حيرة و ضياعا ، لذلك لا نستغرب رواج الإشاعة في ظلّ إعلام هشّ و صفحات تواصل اجتماعي لا تخلو من تهوّر و انعدام مسؤوليّة ، و أحزاب سياسيّة لا تنشط إلاّ في حُمّى الانتخابات ، و لفيف من نوائب الشعب يتباكى على سروال ممزّق في هتْك سافر للأخلاقيّات أو يتسابق لسنّ قوانين تحدّ من الحريّات دون تقدير للتضحيات حتّى صحّ فيهم قول غاندي : " الكثير منهم حول السلطة و القليل حول الوطن " . و إذا استثمر هؤلاء في العداء ، فإنّ نُخبة نيّرة من بني وطني استثمرت في الذكاء ، هنا نشعر بالعزّة يعترينا الفخر و يحدونا الأمل و نحن نُتابعُ مبادرات طلبة و أساتذة أجلاّء حملوا هموم اللّحظة فتنوّعت ابتكاراتهم العلميّة و التكنولوجيّة كمساهمة فعليّة في التخفيف من الأزمة ، مقامهم عندنا رفيع رفْعة مقام كلّ من تبرّع طوعا لا استعراضا أو تطوّع لخدْمة المجموعة من الاطار الطبّي إلى الجندي و الأمني وصولا إلى فرسان المجتمع المدني ، فلكلّ زمان رجاله و رجال هذه المرحلة هم أولئك الذين يشتغلون بدلا عنّا ، نحن نلزم بيوتنا و نحتمي بالدفء العائلي و هم مغامرون مُخاطرون بحياتهم ، ألا نخجل من أنفسنا و الشعور بالذنب أشدّ وقعا من الشعور بالقلق و الملل … بوادر الأمل تأتينا كذلك من أولئك الذين حوّلوا القبح جمالا و زرعوا الإبداع في رحم الأزمة و الشكر موصول لكلّ من ساهم برسم لوحة للتعبير أو قصيدة للإمتاع أو نكتة للترفيه … علينا بالانعطاف على ذواتنا تأمّلا و تشخيصا و تمحيصا علّنا نستخلص دروس هذه المحنة وأوّلها الحفاظ على مناعة الدولة ، أملُنا كلّ الأمل أن نتخطّى هذه المحنة بأخفّ الأضرار و أن نُراجع أولوياتنا ، ففوق هذه الأرض ما يستحقّ الحياة …