لا شكّ في جدوى و إلزاميّة ارتداء " الكمامة " أو اللّثام ، قُماشيّة كانت أو طبيّة ، و ذلك بالنظر إلى دورها الأساسي في منع الجُسيْمات البكتيريّة و نقل العدوى الوبائيّة عبر الأنف و الفم و المسالك التنفّسيّة ، مع ذلك فهي حمّالة مفارقات : بقدر ما تحمينا تُؤذينا ، و بقدر ما نحرصُ عليها ، نتبرّم منها و نفرّ إليها ، نشتكي منها أذيّة ، و نتّكئُ عليها آليّة ، نطلبُ منها وقاية و نرجو منها حماية ، بعد أن أصبحت قطعة أساسيّة في حياتنا اليوميّة ، شأنُها شأن مفاتيح البيْت و بطاقة التعريف الوطنيّة ، أو الهاتف المحمول و كنّش المديونيّة ، و ربّما هي اليوم أكثر أهمّية ، تدعونا إلى معاملة الآخرين كما لو كانوا مصابين ، و معاملة الذات كمصاب مُهدّد بالممات … الكمامة لثامٌ إن ارتديتُه أختنق ، و إن سهوْتُ عنه أُدان ، إن ارتديته علا البخارُ نظّاراتي الطبيّة ، فحجب عنّي مقدار الرُؤية الضروريّة ، و إن تركتُه شعرتُ بالتقصير و بعدم المسؤوليّة ، و التهاون قد يُكلّفني دفع خطيّة ماليّة ، إن تحدّثتُ أرفع صوتي لإبلاغ مقاصدي التواصليّة ، فتتوتّر حبالي الصوتيّة ، و إن صمتُ عليّ بحركات إضافيّة ، قد يفهمها المخاطَبُ و قد لا يُعيرُها أهمّية . إن طالت مدّة ارتداء الكمامة تضايقتُ و تعرّقتُ فتعكّرت حالتي الصحيّة : صداعٌ في الرأس ، جفافٌ في الحلق و مصاعب تنفّسيّة ، فتنْبري أمامي الوساوس المرَضيّة … و من مآثر الكمامة ، أنّها تُغطّي نصف الوجه و تحْجُبُ الابتسامة ، تُغيّبُ أحمر الشفاه و تُخفي شوارب الشهامة ، تستنْطقُ لغة العيون دون ملامة ، و من مآثرها أنّها حوّلت الودّ إلى حذر ، و المصافحة إلى خطر ، و لم يبْقَ لها إلاّ أن تقتلع حرف الباء من كلمة " بشر " … خلنا أنّها ستُذيبُ بعض الفوارق الطبقيّة بين شُركائنا في الوطن و الشجن و الأذيّة ، و لكنّها عمّقتها بأنواعها المتنوّعة و ألوانها المتلوّنة و تكاليفها المكلّفة ، فكان أن زادت ثقبا آخر في جيوبنا المعطوبة المنكوبة المسلوبة المثقوبة بطبيعتها … كثيرا ما تمنحُنا شعورا زائفا بالأمان ، لفترة محدودة من الزمان ، معظمُنا يستعملها تظاهرا أو تماهيا بالآخرين ، و لكنّه يسْتشْعرُ قيمتها حين يقف على ارتفاع عدد الوفيات و المصابين ، أو موت أحد المعارف و المقرّبين ، وحين يتأكّدُ من أنّ الدولة فسحت المجال للمضاربين ، و بدت ضعيفة أمام سماسرة الموت و حيل المحتكرين ، و جشع المُستكرشين … من منّا يُنْكرُ الخوف الذي يسكنُنا و القلق الذي ينْخرُنا و الوسواس الذي ينهشُنا ، بحجم الوباء الذي يُهدّدُنا ، كلّ هذا لم يضع حدّا لغوغاء السياسيين و مُناوراتهم ، و عراك البرلمانيين وخُزعبلاتهم ، في وطننا الصغير المرير ، و في هذا الوضع العسير الخطير ، لا أثر لمن هو قادرٌ على صياغة خطاب طمأنة لنفوس معطوبة ، وبالغرَق في القلق مكروبة ، خطابٌ يُوحّدُ و لا يُفرّق ، يجمع الشتات و لا يُبعثر الفُتات ، يُخفّض من جُماح الفردانيّة و يُحرّك سواكن اللّحمة الاجتماعيّة ، نتطلّع إلى خطاب يتدبّرُ حلولا عمليّة لأزماتنا العُنقوديّة في القطاعات الحيويّة ، فلا يزال في وطني رجالٌ تشبّعوا قيما وطنيّة ، يهمّهم أمر المرضى و أمرَ من بلغ من العمر عتيّا ، فمن رَحم السّحب الدكناء ينْهمر المطرُ مدرارا سخيّا ، و في هذا ليس لنا إلاّ أن نستحضر المأثورة الأفلاطونيّة " الحياة أملٌ و من فقدَ الأمل ، فقدَ الحياة ".