في هذا البلد المتحرّك جدّا، وتحديدا في "باريس"هذه المدينة المستيقظة ليلا نهارا، وفي هذا الزحام الثقافي الذي لا يهدأ، حضرت إحدى الندوات الحقوقية حول تدهور أحوال بعض الشعوب " المعطوبة " حتى صمتها، والتي آمنت خطأ أو اقتناعا بأن تحمل الذل هو بلاء من تقدير ربّ العالمين…وتداولت على المنصّة العديد من الشخصيات والوجوه المعروفة والمهتمّة بمثل هذه القضايا بحضور وسائل الإعلام المتنوعة والمتعددة… وجاء دور أحد المحاضرين الذي سبق لي أن عرفته عن قرب، متحصلا على عدة نياشين وألقاب دولية وأوربية في مجال حقوق الانسان…إضافة إلى " كدس " من الشهائد العلمية والديبلومات الأخرى في النرجسية والذاتية وحب الظهور… بدأ صاحبنا ( الدكتور ) كعادته ينشر الكلام ويكدّس الألفاظ الطليقة ويظهر في شكل قدّيس عابد للحرية، زاهدا في الدنيا متشبثا بأسمى معاني إنسانية الانسان في الحرية والكرامة والعدل… وبينما صاحبنا يخطب ويمضغ لسانه، عادت بي الذاكرة إلى عهود الصبا حين كنت طفلا صغيرا مولعا بصيد العصافير المحلقة في الفضاء…تذكرت ذاك اليوم الذي اصطدت فيه عصفورا جميلا كانت فرحتي كبيرة بهذا الانتصار، وكانت فاجعة ألمحها في عيون الأطفال الذين لم يحالفهم الحظ في اقتناص " ريشة " لاحظت ذلك في تهنئتهم لي التي كانت مزيجا من الفرحة المبتورة والحسد المفضوح…عدت إلى المنزل والعصفور في يدي ونشوة الانتصار تفوق نشوة القبض على الحلم المستحيل… وصلت إلى حينا وصول الفاتحين الغانمين، ومثل كل الأحياء الشعبية التي يولد فيها الترابط والدفء والألفة والتآخي وحسن الجوار، كانت بعض نسوة حيّنا إلى جانب أحد المنازل يطهين الخبز في فرن جماعي، ويتسامرن نهارا دون نسيان التعليق على المارة والنبش همسا في خصوصياتهم… عندها اعترضني أحد أبناء الجيران، كان تلميذا بالمرحلة الثانوية.. وكان شديد الإعجاب بنفسه، فهو يعتبر نفسه مثقف الحي، خصوصا وهو القارئ والكاتب لرسائل بغض الجيران، سألني في صوت عال كي تسمعه النسوة ماذا ستفعل بهذا العصفور المسكين؟ فأجبت بتلقائية الأطفال سأذبحه وأشويه، فصعق وبدأ يحدثني عن قيمة الحرية وكل فضاعات السجن والاعتقال…وانهال علىّ بخطبة عذراء عصماء فيحاء، يحدثني فيها عن بشاعة الأسر والقيود والرحمة، ويدعوني إلى إطلاقه فورا وكان محدثي يختار الألفاظ والعبارات المؤثرة مستشهدا ببعض أبيات الشابي: خلقت طليقا كطيف النسيم وحرّا كنور الضحى في سماه تغرّد كالطير أين اندفعت وتشدو بما شاء وحي الإله وقد كان مخاطبي يحدّثني وهو في الحقيقة يحدّث النسوة كي يظهر أمامهن بمظهر العارف الواعي، وقد استطاع أن يؤلب عليّ النسوة، لاحظت ذلك في إيمائهن برؤوسهن، وتواطؤهن بعيونهن، ونظرات الإعجاب بنبي الحرية وفارس الثقافة… وهنا وبعد إحساسه بنشوة الانتصار أعاد عليّ السؤال؟ ماذا ستفعل بهذا العصفور المسكين الذي لا يحلو له العيش إلا أن يكون طليقا في الفضاء، ورغم ضعف موقفي وإحراجي أدركت النية الحقيقية لصاحبنا، فقلت: بجرأة الأطفال وتحدّي الصبية سأذبحه وأشويه، فاقترب مني وبصوت خافت جدا كي لا تسمعه النسوة قال لي: أرجوك إذا شويته فاترك لي نصيبي " الجناحين " فكم أعشق جناح العصفور مشويّا… —————————————— نشر في القدس العربي / 20 – 9 – 2009 الحقيقة الدولية / 22- 9 – 2009 العرب نيوز / 23- 9 – 2009 الجزائر تايمز / 24- 9 – 2009 الحوار نت / 25- 9 – 2009 ليبيبا المستقبل / 30 – 9 – 2009